أيا عيد:
لو عدْتَ على قومي بالخفض والدّعة، أو جُدت عليهم باليُسر والسعة، لوَجدت مني اللسان الخافق بذكرك، والقلم الدافق بشكرك، ولكنك عُدت عليهم بنهار كاسف الشمس، ويوم شرّ من الأمس، فاذهب كما جئت، فلستُ منك، ظاعنًا ولا مقيمًا، وعُد كما شئت، فلست مني، حميدًا ولا ذميمًا.
***
يا عيد:
لستَ بالنحس ولا بالسعيد، وإنما الناس لأعمالهم؛ سعد العاملون وشقي الخاملون، ولو أنصفناك لقلنا:
إنك يوم كالأيام، من عام كالأعوام، وُلدتَ كما وُلدتْ هي من أبوين- الشمس والأرض- لم ينزع بك دونها عرق مختلف عنها، ولم تتميّز- لولا الدين والعرف- بشيء منها، فأنت مثلها غاد على قَدر، رائحٌ على قدَر، ومنّا- لا منك- الصفو والكدر؛ أو لقلنا: إنك معرَّس مدلجين، يعدِّلون بك المراحل، ومستراح ملجِّجين، يقدّرون بك دنوّ الساحل، فلو عمرنا أيام العام بالصالحات لكنت لنا ضابط الحساب، وحافظ الجراب، ثم لم تلتْنا من أعمالنا شيئًا، ولم تبخسنا من أزوادنا فتيلًا؛ ولكنّنا قصرنا وتمنّينا عليك الأماني، وتبادلت ألسنتُنا فيك أدعية لم تؤمِّن عليها القلوب، ثم ودعناك وانتظرنا إيابك، وأطلنا الغيبة واستبطأنا غيابك.
***
يا عيد:
كنا نلتقي فيك على مُلك اتّطدت أركانه، وعلى عزّة تمكّنتْ أسبابها، وعلى حياة تجمع الشرف والتّرف، وتأخذ من كل طريفة بطرف، وعلى جِدّ لا ينزل الهزل بساحته، واطمئنان لا يلمّ النصب براحته؛ فأصبحنا نلتقي فيك على الآلام والشجون، فإن أنساناهما التعوّد فعلى اللهو والمجون، أصبحنا نلتقي فيك على عبودية لغير الله، أقررناها في أنفسنا فأصبحت عقيدة كالعبودية لله.
***
يا عيد:
إن لقيناك اليوم بالاكتئاب، فتلك نتيجة الاكتساب؛ ولا والله ما كانت الأزمنة ولا الأمكنة يومًا ما جمالًا لأهلها، ولكن أهلها هم الذين يجمّلونها ويكمّلونها؛ وأنت- يا عيد- ما كنتَ في يوم جمالًا لحياتنا، ولا نضرة في عيشنا، ولا خضرة في حواشينا، حتى نتّهمك اليوم بالاستحالة والدمامة والتصوّح؛ وإنما نحن كنا جمالًا فيك، وحِلية لبكرك وأصائلك، فحال الصبغ وحلم الدبغ، واقشعرّ الجناب، وأقفرت الجنبات، وانقطعت الصلة بين النفوس وبين وحيك، فانظر … أيُّنا زايل وصفه، وعكس طباعه؟
بلى … إنك لم تزل كما كنتَ، وما تخوّنت ولا خُنت؛ توحي بالجمال، ولكنك لا تصنعه، وتُلهم الجلال، ولكنك لا تفرضه، ولكننا نكبنا عن صراط الفطرة وهدي الدين، فأصبحنا فيك كالضمير المعذّب في النفس النافرة، وأصبحت فينا كالنبي المكذّب في الأمة الكافرة …
***
ويْحي من العيد، وويحَ العيد مني … ألي عنده ثأر؛ فلا ألقاه إلا كما يلقى الثائر المثؤور، عابس الوجه، مقطّب الأسرّة، غضبان السرائر؛ فما أذكر أني لقيته مرّة بالتسهل والترحيب، وما أذكر أني كتبت عليه كلمة متهلّلة ضاحكة لم يشبها شوب التصنّع؛ وما أذكر أنني سلكت في استقباله هذا الفج الذي يسلكه الكتّاب الخليّون في التهنئة به، وتصويره بغير صورته، وتملّقه ليعود عليهم بالمجد الذي أضاعوه، والتمنّي عليه أن يجود عليهم بما لا يملك، ثم الاسترقاء له بالأدعية التي لا تُفتَّح لها أبواب السماء، لأنها إزجاء للركائب بلا حاد، ودرءٌ في نحور البيد بلا هاد، فويحي من العيد، وويح العيد مني … ألي عنده ثأر؟…
***
والحقيقة هي أني ما زلت كلّما أظلّني عيد من أعيادنا الدينية أو القومية، أظلّتني معه سحابة من الحزن لحال قومي، وما هم عليه من التخاذل والانحلال والبعد عن الصالحات، والقرب من الموبقات.
واحتدمت جوانبي من التفكير في ما هم فيه من سدر، لا يملكون معه الورد ولا الصدر، وذكرتُ كيف يعيشون على الخيال، المُفضي إلى الخبال، وكيف يحيون في الظلام، على الكلام.
وكيف يسترون عوراتهم بالأكفان البالية، وكيف يحتقرون زمنهم في جنب الأزمنة الخالية، والزمن غيران، يضن بخيره على أبناء غيره .
وكيف استخفّهم علماؤهم وزعماؤهم وكبراؤهم وملوكهم فأطاعوهم في معصية الله، وقادوهم إلى النار فانقادوا بشعرة.
وكيف يلقَون أعيادهم التي هي موقظات عزائمهم بهذه التقاليد الزائفة، والعادات السخيفة، والمهازل التي تطمس معالمها، وتُشوّه جمالها، فأجدني بذلك كله كأنني من قومي أعرابيٌّ بين أنباط، أفهم من لفظ العيد غير ما يفهمون، أو كأنني فيهم بقية جاهلية لا أفهم من معنى العيد إلا ما يفهمه شعراؤها الغاوون، من همٍّ يعتاد النفوس، وجوىً يلزم الحيازيم وذكرى خليط مزايل؛ يُثيرها غراب يثوّب، ويهيّجها طيف يؤوّب، وتؤجِّجها الأثافي السفح والأطلال الدوارس.
***
وقومي هم العرب أولًا، والمسلمون ثانيًا، فهم شغل خواطري، وهم مجال سرائري وهم مالئو أرجاء نفسي، ومالكو أزمّة تفكيري.
أفكِّر في قومي العرب فأجدهم يتخبّطون في داجية لا صباح لها، ويُفتنون في كل عام مرّة أو مرّتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكّرون.
وأراهم لا ينقلون قدمًا إلى أمام، إلا تأخّروا خطوات إلى وراء، وقد أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأمَة الوكعاء من الحرائر، عجزت أن تتسامى لعلاهن، أو تتحلّى بحلاهن، فحصرت همّها في إثارة غيرة حرّة على حرّة، وتسخير نفسها لضرّة، نكايةً في ضرّة.
وأفكّر في علّة هذا البلاء النازل بهم، وفي هذا التفرّق المبيد لهم، فأجدها آتيةً من كبرائهم وملوكهم، ومن المعوّقين منهم الذين أشربوا في قلوبهم الذلّ، فرئموا الضيم والمهانة، واستحبّوا الحياة الدنيا فرضوا بسفسافها، ونزل الشرف من نفوسهم بدار غريبة فلم يُقم، ونزل الهوان منها بدار إقامة فلم يَرِم، وأصبحوا يتوهّمون كل حركة من إسرائيل، أشباحًا من عزرائيل.
وأفكّر في قومي المسلمين فأجدهم قد ورثوا من الدين قشورًا بلا لباب، وألفاظًا بلا معان؛ ثم عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى زواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته الخالصة فموّهوها بالتضليل، وإلى وحدته الجامعة فمزّقوها بالمذاهب والطرق والنحل والشيع؛ قد نصبوا من الأموات هياكل يفتتنون بها ويقتتلون حولها، ويتعادون لأجلها؛ وقد نسوا حاضرهم افتتانًا بماضيهم، وذهلوا عن أنفسهم اعتمادًا على أوليهم، ولم يحفلوا بمستقبلهم لأنه- زعموا- غيبٌ، والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، فما كانت أعمال محمد وأصحابه إلا للمستقبل، وما غرس محمد شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه ثمارها، ولكن زرع الأولون ليجني الآخرون.
وهم على ذلك إذ طوّقتهم أوربا بأطواق من حديد، وسامتهم العذاب الشديد، وأخرجتهم من زمرة الأحرار إلى حظيرة العبيد، وورثت بالقوّة والكيد والصولة والأيد، أرضهم وديارهم، واحتجنت أموالهم، وخيرات أوطانهم، وأصبحوا غرباء فيها؛ حظّهم منها الحظ الأوكس، وجزاؤهم فيها الجزاء الأبخس.
إن من يفكّر في حال المسلمين، ويسترسل مع خواطره إلى الأعماق، يُفضي به التفكير إلى إحدى نتيجتين: إما أن ييأس فيكفر، وإما أن يُجنّ فيستريح.
***
وجاء هذا العيد …
والهوى في مراكش يأمر وينهى.
والطغيان في الجزائر بلغ المنتهى.
والكيد في تونس يسلّط الأخ على أخيه، وينام ملءَ عينيه.
والأيدي العابثة في ليبيا تمزّق الأوصال، وتداوي الجروح بالقروح.
وفرعون في مصر يحاول المحال، ويطاول في الآجال.
ومشكلة فلسطين أَكِلَةٌ خبيثة في وجه الجزيرة العربية، تسري وتستشري؛
والأردن قنطرة عبور للويل والثبور.
وسوريا ولبنان يتبادلان القطيعة.
والحجاز مطمح وُرّاث متعاكسين، ونُهْزة شركاء متشاكسين، وقد أصبحت حماية (بيته) معلّقة بحماية زيته.
واليَمن السعيدة شقيّة بأمرائها، مقتولة بسيوفها؛
والعراق أعيا داؤه الرّاق.
وتركيا لقمة في لهوات ضيغم. وهي تستدفع تيارًا بتيّار، وتستجير من الرمضاء بالنار.
وفارس طريدة ليثين يتخاطران.
وباكستان لم تُزمع التشمير، حتى رُهصت بكشمير؛
والأفغان تحاول الكمال، فيصدّها الخوف من الشمال؛
وجاوة لم تزل تحبو، تنهض وتكبو، وتومض وتخبو.
***
هذه ممالك العروبة والإسلام، كثرت أسماؤها، وقلّ غناؤها، وهذه أحوال العرب والمسلمين، الذين يُقبل عليهم العيد فيُقبل بعضهم على بعض، يتقارضون التهاني، ويتعلّلون بالأماني، أفلا أُعذر إذا لقيت الأعياد بوجه عابس، ولسان بكيّ، وقلم جاف، وقلب حزين؟ …
* نُشرت في العدد 163 من جريدة «البصائر»، 16 جويلية سنة 1951 – الأثار ج3، ص : 480.
0 التعليقات:
إرسال تعليق