عندما زار الرئيس السابق الشاذلي بن جديد الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد الرئيس الأمريكي ريقان التقى جورج بوش الأب، وكان حينها يشغل منصب نائب الرئيس، قال بوش للشاذلي "بلغ سلامي لصديقي مسعود زڤار"، ولما زار الرئيس الراحل هواري بومدين الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1974 والتقى بالرئيس ريشار نيكسون، فإن المتكفل الرئيسي بهذه الزيارة، والمكلف بتحضيرها رجل اسمه مسعود زڤار.
وعند الحديث عن الرجل الذي "صفع" فرنسا فمهد لتأميم المحروقات وزعزع المصالح الفرنسية في الجزائر يطفو اسم مسعود زڤار، الذي كان العدو الأول لفرنسا في الجزائر، وعند السؤال عن الأصدقاء الأوفياء للرئيس الراحل هواري بومدين نجد المرحوم مسعود زڤار في الطليعة، وعند الحديث عن الاستخبارات الجزائرية في عهد الرئيس الراحل بومدين، فإن الملفات التي تحمل عبارة سري للغاية كانت من إمضاء مسعود زڤار... هذه الحقائق ليست سوى جزء من عالم صنعه الزعيم المجاهد زڤار لنفسه ووظفه لخدمة وطنه إبان الثورة، وبعد الاستقلال، من خلال نشاطه الاستعلامي الذي انفرد به، وشكل به طفرة لم يسبقه إليها أحد.
يعتبر الراحل مسعود زڤار ظاهرة نادرة في الشق الخفي لتاريخ الجزائر قبل وبعد الثورة، ونقول خفي لارتباطه بالجانب الاستخباراتي الذي يعد بمثابة الحلقة المفقودة التي كانت تصنع القرار من دون الظهور على سطح الأحداث، الكثير من الأسئلة لا تزال من دون أجوبة، وفي الذكرى 88 لميلاده، تحاول الشروق نفض الغبار عن بعض من ذاكرة "الرجل اللغز".
فالرجل في نظر العارفين يعتبر مؤسسة لها مكانتها في صناعة القرارات المتعلقة بالدول، والسياسات الخارجية، والتوجه العام للأنظمة، فهو من الرجال الذين عاشوا في الظل ورحلوا في صمت، لكن بين الظل والصمت حقائق تهز كيان دول. فالجزائر ثوريا عرفت رجالا من طينة الكبار، لكن بالنسبة لمسعود زڤارفهناك ثورة غير تقليدية، وبعد آخر لمفهوم الكفاح والنضال، فإذا كان وقود أي ثورة هو التسليح، فزڤار شذ عن الممولين للثورة الجزائرية بالسلاح الروسي المتمثل في الرشاش، والمسدس والقنبلة اليدوية، ومختلف الصناعات الروسية في هذا المجال والتي كانت تشترى وتدخل الجزائر خفية، بينما مسعود زڤار قام بإنشاء مصنع للسلاح بالمغرب من أجل تسليح الثورة الجزائرية، وهي التجربة التي تعد الأولى من نوعها في العالم العربي وفي العالم الثالث، وهو أول من اشتغل في صناعة العتاد الحربي. وهي ثمرة رجل بدأ نضاله بمدينة العلمة بولاية سطيف التي كانت مهدا الزعيم الذي أتعب من حاول تقليده.
من حلواجي إلى أول عربي يصنع السلاح
مسعود زڤار ولد بتاريخ 8 ديسمبر 1926 من عائلة ثورية فقيرة، درس المرحلة الابتدائية بالعلمة، واشتغل مع والده في مقهى ثم في بيع الحلوى، وبدل أن يواصل هذا النوع من التجارة فكر في صناعة الحلوى بدل الاكتفاء بشرائها وبيعها، وفعلا نجح في إنشاء ورشة لصناعة الحلوى كانت تعرف باسم البرلينغو. فكانت الورشة بمثابة معلم لميول رأسمالية لشاب يتقن حرفة كسب المال.
وتزامن ذلك مع نشأة حركة نضالية بمدينة العلمة بقيادة جيلاني مبارك، الذي كان يرأس قسمة حزب الشعب والذي اشتهر بنضاله منذ أربيعينات القرن الماضي. وكان مسعود زڤار من الشباب الذي انخرط في النشاط الكشفي بالعلمة والنضال السياسي وكلفه ذلك السجن سنة1945، ليستفيد سنة 1946 من عفو البرلمان الفرنسي.
في جوان 1956 التحق بمركز قيادة الولاية الخامسة بوجدة، أين تعرف على هواري بومدين، ونشأت بين الاثنين علاقة صداقة متميزة. لتبدأ مغامرة مسعود زڤار، الذي اشتهر باسمه الثوري رشيد كازا نسبة إلى مدينة الدار البيضاء، وهي التسمية التي أطلقها عليه بوصوف الذي كلف زڤار في نفس السنة بإنشاء المصلحة الخاصة بسلاح الإشارات، وعهد لها تزويد جيش التحرير الوطني بالأسلحة.
وهي من أصعب من المهام في تلك الفترة والتي بدأها رشيد كازا من المغرب، وبفضل العلاقات التي كونها مع ضباط أمريكيين مقيمين بالقاعدة العسكرية الأمريكية الكائنة بمنطقة النواصر المغربية، حيث تمكن بدهاء كبير من الحصول على أجهزة اتصال لاسلكي، وقام بعدها بجولة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا وألمانيا ليوسع علاقاته بالممولين بالسلاح عبر العديد من المناطق.
في جويلية 1956 يعود إلى قائده بوصوف فيفاجئه باقتراحات جريئة تتعلق بإمكانية تدعيم الثورة بأسلحة متنوعة وأجهزة راديو، كما نجح في اختراق القاعدة الأمريكية بالمغرب، وأصبح يشكل مصدرا استخباراتيا مهما وممولا للثورة بالسلاح، وأجهزة الاتصال، بما فيها الجهاز الذي استعمل في البث الإذاعي لصوت الجزائر بالناظور. وبإتقانه الإنجليزية نجح زڤار في تكوين علاقات مع شخصيات أمريكية، وحتى أعضاء بالكونغرس، وحسب صديقه جيلاني الصغير، فإن زڤار نجح في ربط علاقات بمحيط الرئيس الفرنسي ديڤول، وكان يوظف كل هذه العلاقات في خدمة الثورة الجزائرية. فكان لبنة أساسية في الاستعلام الحربي، وكان يزود قيادة الثورة بالمعلومات ويتصل مباشرة ببوصوف وبومدين.
علاقات زڤار توسعت إلى أن نجح في إنشاء مصنع للأسلحة بالأراضي المغربية، فظاهريا المصنع يبدو مختصا في صناعة الملاعق والشوكات، وشغل فيه عمال أجانب خاصة من المجر، لكن المستودعات الخفية فخصصت لصنع قاذفات صواريخ"البازوكا".
ولداوع أمنية، أبقى زڤار على السرية في نشاط مصنعه، فكان التشغيل به يقتصر على مقربيه من العائلة، ومن أبناء مدينته العلمة أمثال جيلاني الصغير وزڤار عبد الله ومنصوري خالد وزڤار عبد الحميد، ومزنان علي وغيرهم. وكان هؤلاء يشرفون على تركيب قطع الغيار التي يستقدمها زڤار بطريقته الخاصة من أمريكا. وهي الطريقة التي ظلت مجهولة ولا يعلمها حتى المقربون منه.
و كان زڤار يؤمن بأن أي حركة ثورية يجب أن تقوم على عاملين اثنين، أولهما المعلومات التي كان يستقيها من كل مكان، وبلغ به الأمر حد التجسس على محيط ديڤول، وثانيهما المال الذي تحصل عليه بتوسيع نشاطه التجاري، وتنمية ثروته التي خصصها لخدمة القضية الوطنية. وهناك عامل آخر جسده زڤار بإتقان ويتعلق بسرية التنظيم فلم يكن يخبر أحدا بما يفعل أو بما في نيته، وحتى أمين سره ورفيقه الدائم صغير جيلاني الذي التقيناه، لم يكن يعلم من أسرار زڤار إلا القليل، ويقول إن الرجل كان متحفظا للغاية، ويملك حسا أمنيا لا يتحلى به أي شخص آخر.
وعلى سبيل المثال لم تتمكن أي شخصية من قيادات الثورة من زيارة مصنع السلاح ما عدا صديقه هواري بومدين، وكان ذلك في سنة 1961 وسبق له ذات مرة في حديث له مع فرحات عباس أن أخبره هذا الأخير بأنه منبهر بالأسلحة التي تأتي من المغرب، ويتعجب كيف لا يعلم مكان هذا المصنع فيجيبه زڤار ضاحكا "لو كنتم تعلمون بمكانه ما وصلتكم كل هذه الأسلحة ولكنا جميعا في السجن"، وعند الاستقلال، يقول جيلاني صغير بأنه بقي مع بعض الرفاق بالمصنع لبضعة أسابيع، ثم أمرهم مسعود بالدخول بعد تفكيك المصنع، وردم آلياته تحت التراب لتنتهي بذلك قصة هذه المؤسسة التي أدت مهمتها بنجاح.
علاقات تمتد إلى قلب أمريكا وثروة تفوق ميزانية دولة
وبعد الاستقلال خلع زڤار قبعة العسكري المجند، وفضّل الخروج من الجيش ليعود لنشاطه كرجل أعمال، فأصبح يتكفل بطعام ولباس الجيش الوطني، وكان يشرف على تسيير عدة مصانع لإنتاج الحلوى واللبان والمصبرات، والعجائن، كما أصبح وسيطا بين الدولة الجزائرية، ومختلف الشركات الأجنبية، ولم يتوقف عند هذا الحد بل وسع نشاطه إلى عدة دول عربية وإسلامية كالعراق والسعودية، ومصر وليبيا وإيران، وسوريا.
وحسب جيلاني صغير، فإن الرجل أصبح يشتري البترول من دول الخليج ويصدره إلى الدول الأمريكية والأوروبية، وطبعا بهذا النشاط تمكن من تكوين ثروة هائلة، ويقول البعض بأن رأسماله في السبعينات فاق ملياري دولار. وهي الثروة التي تفوق ميزانية دولة في تلك الفترة.
وبالرغم من التوجه الاشتراكي للجزائر في الستينات، والسبعينات، إلا أن مسعود زڤار كان يميل دوما نحو الرأسمالية، فقد تنبأ بسقوط الاشتراكية، والاتحاد السوفياتي، وكان موقنا بأن الهيمنة العالمية ستكون أمريكية، ولذلك كان تعامله مركزا أكثر على الولايات المتحدة الأمريكية التي يرى فيها القوة الفعلية التي فرضتها الأوضاع الدولية، فكان بمثابة عين بومدين في أمريكا، وظل الوضع كذلك بالرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر والولايات المتحدة بعد الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967، وبقي زڤار "الدبلوماسي السري" الذي له أيد في معظم الإدارات الأمريكية، وأهّله ذلك إلى تكوين شبكة من الاستخبارات جعلته يتحكم في المعلومات عبر العديد من الدول، وهذا مكنه من التعرف على أبرز الشخصيات كالرئيس السابق نيكسون الذي يقنعه مسعود باستقبال الرئيس هواري بومدين سنة 1974، ويتولى بنفسه التحضير للزيارة وضبط برنامجها.
كما كانت له علاقة مع كاسي المدير السابق لوكالة المخابرات الأمريكية، وكذا رائد الفضاء فرونك بورمان الذي زار الجزائر بدعوة من مسعود، ويستقبل من طرف الرئيس هواري بومدين.
علاقاته امتدت أيضا إلى جورج بوش الأب قبل أن يصل إلى الرئاسة، والذي يصبح فيما بعد نائبا للرئيس ريغن، وقد كان جورج بوش الأب صديقا لمسعود، ولما زار الرئيس السابق الشادلي بن جديد الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس ريغن التقى بجورج بوش الأب الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس وقال للشاذلي "بلغ سلامي لصديقي زڤار".
والحقيقة التي يجهلها الكثيرون هي إنقاذ الجزائر من هجوم أمريكي وشيك، وكان ذلك سنة 1967 خلال الحرب العربية الإسرائيلية، ففي الوقت الذي كانت الجيوش العربية في مواجهة مع الصهاينة، كان الأسطول السادس لأمريكا يحوم في البحر الأبيض المتوسط، وبالضبط في نواحي شرشال، وبفضل التحركات التي قام بها زڤار مع القيادة الأمريكية غادر الأسطول المكان، وتم تجنب الكارثة بسلام.
صفع فرنسا وأصبح عدوها الأول
ومن جهة أخرى، كان مسعود يدعو المستثمرين الأجانب خاصة الأمريكان إلى النشاط في الجزائر، واكتشاف السوق الجزائرية، وفعل ذلك مع الملياردير روكفيلر، كما كان وراء إبرام عقد مع شركة "البازو" الأمريكية من أجل شراء 10 ملايير متر مكعب من الغاز السائل على مدى 25 سنة، وهي العملية التي تعتبر من أكبر الصفقات الجزائرية في سنة 1969.
كما كان مسعود وراء استفادة الجزائر من قرض يقدر بـ 300 مليون دولار قدم لها من طرف بنك يدعى"ايكسيم بنك" وكان ذلك من أجل تمويل مشروع مركب الغاز المميع بأرزيو، ومثل هذه العمليات مهدت الطريق لدى المسؤولين الجزائريين لبسط السيادة على الغاز، وتحريره من السيطرة الفرنسية، وبذلك تم تأميم المحروقات بتاريخ 24 فبراير1971، حيث يؤكد بلعيد عبد السلام بأن عقد شركة "البازو" الأمريكية، وقرض "أيكسيم بنك" كانا عاملا مهما في تأميم 51 % من المحروقات.
من قتل رشيد كازا؟
بعد وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين تغير كل شيء بما فيها السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، حيث أعلن الرئيس الشادلي القطيعة مع كل الرموز البومدينية، وأصبح مسعود زڤار من الأسماء المستهدفة، ليتم القبض عليه من طرف رجال الآمن العسكري سنة 1983 ويودع الحبس المؤقت، بعدما وجهت له تهمة الخيانة والمساس بالدفاع الوطني والاقتصاد الوطني، فمكث في الحبس المؤقت مدة 33 شهرا، وبعد امتثاله أمام المحكمة العسكرية بالبليدة تحصل على البراءة، وكان كالزعيم داخل جلسة المحاكمة، حيث أثبت براءته وكل الشهادات كانت لصالحه، وفهم حينها زڤار أن العملية مدبرة. وقد تأثر صحيا من فترة حبسه ورغم نيله للبراءة لم يفكر إطلاقا في الانتقام، وهو الرجل الذي كان بإمكانه الاستنجاد بعلاقاته الخارجية لكنه رفض هذا الأمر.
وعند خروجه من السجن استأنف نشاطه بصفة عادية، وشاءت الأقدار أن يفارق الحياة بتاريخ 21 نوفمبر 1987، وكان ذلك بالفندق الذي يملكه بالعاصمة الإسبانية مدريد، أين كان جالسا رفقة العائلة، ولما صعد إلى غرفته سقط فجأة مغشيا عليه، ولم يستيقظ بعدها أبدا.
وحسب أخته، فإن وفاته كانت صدمة كبيرة، ومفاجأة غير منتظرة، لأن مسعود لم يكن مصابا بأي مرض، ولذلك ظلت وفاته إلى يومنا هذا لغزا محيرا، خاصة أن عملية الدفن تمت من دون تشريح الجثة. وأمام هذا الغموض ظل البعض يطرح سؤالا كبيرا من قتل رشيد كازا؟ ربما قد نكتشف الحقيقة يوما ما.
وعند الحديث عن الرجل الذي "صفع" فرنسا فمهد لتأميم المحروقات وزعزع المصالح الفرنسية في الجزائر يطفو اسم مسعود زڤار، الذي كان العدو الأول لفرنسا في الجزائر، وعند السؤال عن الأصدقاء الأوفياء للرئيس الراحل هواري بومدين نجد المرحوم مسعود زڤار في الطليعة، وعند الحديث عن الاستخبارات الجزائرية في عهد الرئيس الراحل بومدين، فإن الملفات التي تحمل عبارة سري للغاية كانت من إمضاء مسعود زڤار... هذه الحقائق ليست سوى جزء من عالم صنعه الزعيم المجاهد زڤار لنفسه ووظفه لخدمة وطنه إبان الثورة، وبعد الاستقلال، من خلال نشاطه الاستعلامي الذي انفرد به، وشكل به طفرة لم يسبقه إليها أحد.
يعتبر الراحل مسعود زڤار ظاهرة نادرة في الشق الخفي لتاريخ الجزائر قبل وبعد الثورة، ونقول خفي لارتباطه بالجانب الاستخباراتي الذي يعد بمثابة الحلقة المفقودة التي كانت تصنع القرار من دون الظهور على سطح الأحداث، الكثير من الأسئلة لا تزال من دون أجوبة، وفي الذكرى 88 لميلاده، تحاول الشروق نفض الغبار عن بعض من ذاكرة "الرجل اللغز".
فالرجل في نظر العارفين يعتبر مؤسسة لها مكانتها في صناعة القرارات المتعلقة بالدول، والسياسات الخارجية، والتوجه العام للأنظمة، فهو من الرجال الذين عاشوا في الظل ورحلوا في صمت، لكن بين الظل والصمت حقائق تهز كيان دول. فالجزائر ثوريا عرفت رجالا من طينة الكبار، لكن بالنسبة لمسعود زڤارفهناك ثورة غير تقليدية، وبعد آخر لمفهوم الكفاح والنضال، فإذا كان وقود أي ثورة هو التسليح، فزڤار شذ عن الممولين للثورة الجزائرية بالسلاح الروسي المتمثل في الرشاش، والمسدس والقنبلة اليدوية، ومختلف الصناعات الروسية في هذا المجال والتي كانت تشترى وتدخل الجزائر خفية، بينما مسعود زڤار قام بإنشاء مصنع للسلاح بالمغرب من أجل تسليح الثورة الجزائرية، وهي التجربة التي تعد الأولى من نوعها في العالم العربي وفي العالم الثالث، وهو أول من اشتغل في صناعة العتاد الحربي. وهي ثمرة رجل بدأ نضاله بمدينة العلمة بولاية سطيف التي كانت مهدا الزعيم الذي أتعب من حاول تقليده.
من حلواجي إلى أول عربي يصنع السلاح
مسعود زڤار ولد بتاريخ 8 ديسمبر 1926 من عائلة ثورية فقيرة، درس المرحلة الابتدائية بالعلمة، واشتغل مع والده في مقهى ثم في بيع الحلوى، وبدل أن يواصل هذا النوع من التجارة فكر في صناعة الحلوى بدل الاكتفاء بشرائها وبيعها، وفعلا نجح في إنشاء ورشة لصناعة الحلوى كانت تعرف باسم البرلينغو. فكانت الورشة بمثابة معلم لميول رأسمالية لشاب يتقن حرفة كسب المال.
وتزامن ذلك مع نشأة حركة نضالية بمدينة العلمة بقيادة جيلاني مبارك، الذي كان يرأس قسمة حزب الشعب والذي اشتهر بنضاله منذ أربيعينات القرن الماضي. وكان مسعود زڤار من الشباب الذي انخرط في النشاط الكشفي بالعلمة والنضال السياسي وكلفه ذلك السجن سنة1945، ليستفيد سنة 1946 من عفو البرلمان الفرنسي.
في جوان 1956 التحق بمركز قيادة الولاية الخامسة بوجدة، أين تعرف على هواري بومدين، ونشأت بين الاثنين علاقة صداقة متميزة. لتبدأ مغامرة مسعود زڤار، الذي اشتهر باسمه الثوري رشيد كازا نسبة إلى مدينة الدار البيضاء، وهي التسمية التي أطلقها عليه بوصوف الذي كلف زڤار في نفس السنة بإنشاء المصلحة الخاصة بسلاح الإشارات، وعهد لها تزويد جيش التحرير الوطني بالأسلحة.
وهي من أصعب من المهام في تلك الفترة والتي بدأها رشيد كازا من المغرب، وبفضل العلاقات التي كونها مع ضباط أمريكيين مقيمين بالقاعدة العسكرية الأمريكية الكائنة بمنطقة النواصر المغربية، حيث تمكن بدهاء كبير من الحصول على أجهزة اتصال لاسلكي، وقام بعدها بجولة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا وألمانيا ليوسع علاقاته بالممولين بالسلاح عبر العديد من المناطق.
في جويلية 1956 يعود إلى قائده بوصوف فيفاجئه باقتراحات جريئة تتعلق بإمكانية تدعيم الثورة بأسلحة متنوعة وأجهزة راديو، كما نجح في اختراق القاعدة الأمريكية بالمغرب، وأصبح يشكل مصدرا استخباراتيا مهما وممولا للثورة بالسلاح، وأجهزة الاتصال، بما فيها الجهاز الذي استعمل في البث الإذاعي لصوت الجزائر بالناظور. وبإتقانه الإنجليزية نجح زڤار في تكوين علاقات مع شخصيات أمريكية، وحتى أعضاء بالكونغرس، وحسب صديقه جيلاني الصغير، فإن زڤار نجح في ربط علاقات بمحيط الرئيس الفرنسي ديڤول، وكان يوظف كل هذه العلاقات في خدمة الثورة الجزائرية. فكان لبنة أساسية في الاستعلام الحربي، وكان يزود قيادة الثورة بالمعلومات ويتصل مباشرة ببوصوف وبومدين.
علاقات زڤار توسعت إلى أن نجح في إنشاء مصنع للأسلحة بالأراضي المغربية، فظاهريا المصنع يبدو مختصا في صناعة الملاعق والشوكات، وشغل فيه عمال أجانب خاصة من المجر، لكن المستودعات الخفية فخصصت لصنع قاذفات صواريخ"البازوكا".
ولداوع أمنية، أبقى زڤار على السرية في نشاط مصنعه، فكان التشغيل به يقتصر على مقربيه من العائلة، ومن أبناء مدينته العلمة أمثال جيلاني الصغير وزڤار عبد الله ومنصوري خالد وزڤار عبد الحميد، ومزنان علي وغيرهم. وكان هؤلاء يشرفون على تركيب قطع الغيار التي يستقدمها زڤار بطريقته الخاصة من أمريكا. وهي الطريقة التي ظلت مجهولة ولا يعلمها حتى المقربون منه.
و كان زڤار يؤمن بأن أي حركة ثورية يجب أن تقوم على عاملين اثنين، أولهما المعلومات التي كان يستقيها من كل مكان، وبلغ به الأمر حد التجسس على محيط ديڤول، وثانيهما المال الذي تحصل عليه بتوسيع نشاطه التجاري، وتنمية ثروته التي خصصها لخدمة القضية الوطنية. وهناك عامل آخر جسده زڤار بإتقان ويتعلق بسرية التنظيم فلم يكن يخبر أحدا بما يفعل أو بما في نيته، وحتى أمين سره ورفيقه الدائم صغير جيلاني الذي التقيناه، لم يكن يعلم من أسرار زڤار إلا القليل، ويقول إن الرجل كان متحفظا للغاية، ويملك حسا أمنيا لا يتحلى به أي شخص آخر.
وعلى سبيل المثال لم تتمكن أي شخصية من قيادات الثورة من زيارة مصنع السلاح ما عدا صديقه هواري بومدين، وكان ذلك في سنة 1961 وسبق له ذات مرة في حديث له مع فرحات عباس أن أخبره هذا الأخير بأنه منبهر بالأسلحة التي تأتي من المغرب، ويتعجب كيف لا يعلم مكان هذا المصنع فيجيبه زڤار ضاحكا "لو كنتم تعلمون بمكانه ما وصلتكم كل هذه الأسلحة ولكنا جميعا في السجن"، وعند الاستقلال، يقول جيلاني صغير بأنه بقي مع بعض الرفاق بالمصنع لبضعة أسابيع، ثم أمرهم مسعود بالدخول بعد تفكيك المصنع، وردم آلياته تحت التراب لتنتهي بذلك قصة هذه المؤسسة التي أدت مهمتها بنجاح.
علاقات تمتد إلى قلب أمريكا وثروة تفوق ميزانية دولة
وبعد الاستقلال خلع زڤار قبعة العسكري المجند، وفضّل الخروج من الجيش ليعود لنشاطه كرجل أعمال، فأصبح يتكفل بطعام ولباس الجيش الوطني، وكان يشرف على تسيير عدة مصانع لإنتاج الحلوى واللبان والمصبرات، والعجائن، كما أصبح وسيطا بين الدولة الجزائرية، ومختلف الشركات الأجنبية، ولم يتوقف عند هذا الحد بل وسع نشاطه إلى عدة دول عربية وإسلامية كالعراق والسعودية، ومصر وليبيا وإيران، وسوريا.
وحسب جيلاني صغير، فإن الرجل أصبح يشتري البترول من دول الخليج ويصدره إلى الدول الأمريكية والأوروبية، وطبعا بهذا النشاط تمكن من تكوين ثروة هائلة، ويقول البعض بأن رأسماله في السبعينات فاق ملياري دولار. وهي الثروة التي تفوق ميزانية دولة في تلك الفترة.
وبالرغم من التوجه الاشتراكي للجزائر في الستينات، والسبعينات، إلا أن مسعود زڤار كان يميل دوما نحو الرأسمالية، فقد تنبأ بسقوط الاشتراكية، والاتحاد السوفياتي، وكان موقنا بأن الهيمنة العالمية ستكون أمريكية، ولذلك كان تعامله مركزا أكثر على الولايات المتحدة الأمريكية التي يرى فيها القوة الفعلية التي فرضتها الأوضاع الدولية، فكان بمثابة عين بومدين في أمريكا، وظل الوضع كذلك بالرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر والولايات المتحدة بعد الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967، وبقي زڤار "الدبلوماسي السري" الذي له أيد في معظم الإدارات الأمريكية، وأهّله ذلك إلى تكوين شبكة من الاستخبارات جعلته يتحكم في المعلومات عبر العديد من الدول، وهذا مكنه من التعرف على أبرز الشخصيات كالرئيس السابق نيكسون الذي يقنعه مسعود باستقبال الرئيس هواري بومدين سنة 1974، ويتولى بنفسه التحضير للزيارة وضبط برنامجها.
كما كانت له علاقة مع كاسي المدير السابق لوكالة المخابرات الأمريكية، وكذا رائد الفضاء فرونك بورمان الذي زار الجزائر بدعوة من مسعود، ويستقبل من طرف الرئيس هواري بومدين.
علاقاته امتدت أيضا إلى جورج بوش الأب قبل أن يصل إلى الرئاسة، والذي يصبح فيما بعد نائبا للرئيس ريغن، وقد كان جورج بوش الأب صديقا لمسعود، ولما زار الرئيس السابق الشادلي بن جديد الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس ريغن التقى بجورج بوش الأب الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس وقال للشاذلي "بلغ سلامي لصديقي زڤار".
والحقيقة التي يجهلها الكثيرون هي إنقاذ الجزائر من هجوم أمريكي وشيك، وكان ذلك سنة 1967 خلال الحرب العربية الإسرائيلية، ففي الوقت الذي كانت الجيوش العربية في مواجهة مع الصهاينة، كان الأسطول السادس لأمريكا يحوم في البحر الأبيض المتوسط، وبالضبط في نواحي شرشال، وبفضل التحركات التي قام بها زڤار مع القيادة الأمريكية غادر الأسطول المكان، وتم تجنب الكارثة بسلام.
صفع فرنسا وأصبح عدوها الأول
ومن جهة أخرى، كان مسعود يدعو المستثمرين الأجانب خاصة الأمريكان إلى النشاط في الجزائر، واكتشاف السوق الجزائرية، وفعل ذلك مع الملياردير روكفيلر، كما كان وراء إبرام عقد مع شركة "البازو" الأمريكية من أجل شراء 10 ملايير متر مكعب من الغاز السائل على مدى 25 سنة، وهي العملية التي تعتبر من أكبر الصفقات الجزائرية في سنة 1969.
كما كان مسعود وراء استفادة الجزائر من قرض يقدر بـ 300 مليون دولار قدم لها من طرف بنك يدعى"ايكسيم بنك" وكان ذلك من أجل تمويل مشروع مركب الغاز المميع بأرزيو، ومثل هذه العمليات مهدت الطريق لدى المسؤولين الجزائريين لبسط السيادة على الغاز، وتحريره من السيطرة الفرنسية، وبذلك تم تأميم المحروقات بتاريخ 24 فبراير1971، حيث يؤكد بلعيد عبد السلام بأن عقد شركة "البازو" الأمريكية، وقرض "أيكسيم بنك" كانا عاملا مهما في تأميم 51 % من المحروقات.
من قتل رشيد كازا؟
بعد وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين تغير كل شيء بما فيها السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، حيث أعلن الرئيس الشادلي القطيعة مع كل الرموز البومدينية، وأصبح مسعود زڤار من الأسماء المستهدفة، ليتم القبض عليه من طرف رجال الآمن العسكري سنة 1983 ويودع الحبس المؤقت، بعدما وجهت له تهمة الخيانة والمساس بالدفاع الوطني والاقتصاد الوطني، فمكث في الحبس المؤقت مدة 33 شهرا، وبعد امتثاله أمام المحكمة العسكرية بالبليدة تحصل على البراءة، وكان كالزعيم داخل جلسة المحاكمة، حيث أثبت براءته وكل الشهادات كانت لصالحه، وفهم حينها زڤار أن العملية مدبرة. وقد تأثر صحيا من فترة حبسه ورغم نيله للبراءة لم يفكر إطلاقا في الانتقام، وهو الرجل الذي كان بإمكانه الاستنجاد بعلاقاته الخارجية لكنه رفض هذا الأمر.
وعند خروجه من السجن استأنف نشاطه بصفة عادية، وشاءت الأقدار أن يفارق الحياة بتاريخ 21 نوفمبر 1987، وكان ذلك بالفندق الذي يملكه بالعاصمة الإسبانية مدريد، أين كان جالسا رفقة العائلة، ولما صعد إلى غرفته سقط فجأة مغشيا عليه، ولم يستيقظ بعدها أبدا.
وحسب أخته، فإن وفاته كانت صدمة كبيرة، ومفاجأة غير منتظرة، لأن مسعود لم يكن مصابا بأي مرض، ولذلك ظلت وفاته إلى يومنا هذا لغزا محيرا، خاصة أن عملية الدفن تمت من دون تشريح الجثة. وأمام هذا الغموض ظل البعض يطرح سؤالا كبيرا من قتل رشيد كازا؟ ربما قد نكتشف الحقيقة يوما ما.
إعداد: سمير مخربش
0 التعليقات:
إرسال تعليق