في أربعينات القرن العشرين كافحت فرنسا للإبقاء على مستعمراتها في الهند الصينية: فيتنام، كمبوديا ولاووس..ورغم المساعدات والمعونات المالية الأمريكية بدأت المناهضة من قبل مواطني المنطقة تؤتى أثرها، وفي اليوم السابع من مايو من عام 1954 سقطت الحامية الفرنسية لديان بيان فو في فيتنام وذلك بعد أربعة أشهر من الحصار الذي قاده المواطن الفيتنامي "هو شي منه" Ho chi Minh وعلى أثر هذا السقوط المذهل ترك الفرنسيون المنطقة، وخوفاً من عدم استقرار المنطقة التزمت القوات المسلحة الأمريكية بمواجهة الشيوعيين المواطنين في الهند الصينية، وبقيت أمريكا هناك في فيتنام عشرين سنة.
إعداد:محمد المشرف خليفة
إن جنوب شرق آسيا الذي تتوسطه الهند الصينية كان دائماً مصدر مصلحة للدول الأجنبية، وقد سقط معظم الإقليم في سيطرة الأوروبيين الاستعماريين بعد منتصف القرن التاسع عشر، وخلال الحرب العالمية الثانية (1945-1939) تدخلت اليابان طمعاً في مصادر هذه المنطقة، وبعد هزيمة اليابانيين في الحرب العالمية الثانية ثار مواطنو المنطقة على كل ما هو أجنبي وانتابتهم نزعة وطنية، ولكن المسؤولين الأمريكيين الذين احتلوا اليابان رأوا في المنطقة سوقاً آسيوياً للمنتجات اليابانية ومصدراً للمواد الخام مثل الصفيح، البترول، المطاط والأرز وكل ما يمكن أن يعزز الصناعات اليابانية.
فرنسا في الهند الصينية
مثل كل القوى الاستعمارية رأت فرنسا أن تجد لها موطئ قدم في الهند الصينية بعد العام 1945 وإن لقيت صعوبة، خاصة بعد أن استقلت لاووس، عام 1949، كما استقلت كمبوديا عام 1953، وكانت فرنسا قد وعدت فيتنام بأن تمنحها الاستقلال بعام 1949، ولكنها منحتها استقلالاً محدوداً، وتمسكت فرنسا بوزارتي الدفاع والخارجية تحت إمرتها، وحين شعر الفرنسيون بقوة شعبية المواطن "هو شي منه" ورغبته في التحرر، عمدت فرنسا لمنح السلطة السياسية للإمبراطور الفيتنامي السابق "باو داي" Bao Dai ولكنه لم يلق شعبية "هو شي منه"، وبدأت حركة تحرير فيتنام في النمو، واضطر الإمبراطور للتنحي وعاش في منفاه بفرنسا بعيداً عن الحكم.
في السابع من شهر مايو لعام 1954 أدت نهاية معركة "حصن ديان بيان فو" Dien Bien Phu إلى نهاية السلطة الفرنسية في آسيا، تماماً كما أنهى حصار بورت آرثر، وسنغافورة سحر كل من روسيا وأمريكا وبريطانيا في آسيا.
وهكذا، وبعد قرون من الاستعباد استطاع الآسيويون هزيمة الرجل الأبيض في اللعبة التي كان يجيدها، والآن وبعد مرور السنوات على "ديان بيان فو" استطاع رجال الفيات كونج في جنوب فيتنام تحدي الغرب بكل جبروته، وقدراته في بيئة غريبة عنه.
في ذلك اليوم من مايو 1954 أصبح جلياً منذ العاشرة صباحاً أن التمسك من قبل الفرنسيين بقلعة ديان بيان فو لم يعد ممكناً. إذ أسكتت المدفعية الفرنسية بنيران المدفعية الدقيقة التصويب لشيوعي "الفيات منه" Viet Minh، كما أدت الأمطار الموسمية للحد من محاولات الفرنسيين لإسقاط المؤن، وتحولت الخنادق الفرنسية إلى وحل، وأصبح من تبقى من الجنود والضباط الفرنسيين في حالة يرثى لها، بعد أن ظلوا يعيشون لأربعة وخمسين يوماً على أكواب القهوة والسجائر وقد أخذ الإرهاق منهم كل مأخذ، مما دفع بالعميد كاسترز إلى تقسيم 800 من رجال الكتيبة إلى مجموعات بمعدل 80 لكل مجموعة، مع الأمل على الصمود حتى بداية المساء لتتاح الفرصة لجنوده للاحتماء بالغابة والظلام، مع البقاء مع 5000 جندي وضابط بعضهم يعانى من جراح بعد أن تقلص العدد الإجمالي من 15,094 وليظل من بقى للمقاومة في مواجهة العدو بما بقى لهم من عتاد، مع الالتزام بعدم رفع الراية البيضاء للاستسلام.
وفي النهاية انتهت المعركة الكبرى في وادي "ديان بيان فو"، وتم أسر 10,000 أسير ساروا لسجون "فيات منه" قاطعين 300 ميل تجاه الشرق لينجو منهم القليل، وظل 2000 من القتلى في قبور مجهولة الهوية حتى يومنا هذا وتمكن 73 من الفرار ليتم إنقاذهم من قبل رجال الصاعقة الفرنسيين الذين كانوا ينتظرونهم في غابة "لاوس" على بعد 8 آلاف ميل.
في تلك اللحظات الحاسمة اجتمع في جنيف الفيتناميون والصينيون الحمر على هيئة وفود لحضور مؤتمر القوى التسع في محاولة لإنهاء الصراع الكوري وصراعات الهند الصينية.
إن ما حدث في"ديان بيان فو" Dien Bien Phu كان أشبه بمغامرة للقيادة الفرنسية، انتهت بما لا يحمد عقباه، وكانت حرب الهند الصينية التي بدأت من ديسمبر من عام 1946 بهدف القضاء على قوات "هو شي منه" قد أكدت أن الفرنسيين لن يوافقوا على منح فيتنام الاستقلال، وفي أكتوبر من عام 1950 استطاعت كتائب "فيات منه" المعززة بمدفعية أمريكية أخذت من ترسانات صينية من تدمير خطوط الدفاع الفرنسية المتمركزة على الحدود الصينية، وألحقت بفرنسا أكبر هزيمة لحقت بها منذ أيام كويبك لعام 1759، وهكذا اضمحل الوجود الفرنسي في فيتنام الشمالية وبقيت لهم قلعة محصنة حول "دلتا البحر الأحمر" في مواجهة مناطق يسيطر عليها الشيوعيون تمتد من الحدود الصينية لما يقرب من 100 ميل عن العاصمة سايجون وبدا لكل ذي عينين أن حرب الهند الصينية قد فقدت في تلك اللحظة، ولم يغير من الموقف ولبعض الوقت سوى العون الذي بدأت تقدمه القوات الأمريكية للفرنسيين، ومع تغلغل الشيوعيين الفيتناميين تغير مفهوم حرب الهند الصينية من حرب استعمارية إلى حرب صليبية دون مبرر حقيقي، وأصبحت دلتا النهر الأحمر تحت سيطرة الفرنسيين نهاراً، وتحت سيطرة المواطنين الفيتناميين عند حلول الظلام.
خطة الجنرال
كانت القلعة معدة ومصممة لحمايتها من هجوم قوات الجنرال جياب، ولحماية القوة الفرنسية من أربع فرق عسكرية شيوعية، ولم تكن هناك خرائط لتغطية الوادي، وكانت أربعة من ثماني مواقع حصينة تبعد بنسبة ثلاثة أميال عن المركز، وكانت مواقع المدفعية المتشابكة معززة بعشر دبابات.
غير أن كل هذا الإعداد بدأ أشبه بالوهم، وقرر الجنرال جياب مهاجمة "ديان بيان فو" مستخدماً خليط من تكنولوجيا حصار يعود للقرن التاسع عشر، وذلك بهدف إغراق المخابئ، والهجوم بأحدث أسلحة المدفعية بالإضافة لموجة هجوم بشري، واستطاع خلال الأيام الأولى من المعركة القضاء على المواقع الخارجية التي كانت تحمي المطار الرئيسي، وكانت الخسائر الفرنسية كبيرة وأصبح الكفاح من أجل ديان بيان فو أشبه بمعركة استنزاف، ولم يعد للقلعة أمل في النجاة إلا بانفراج من خلال مجموعة إغاثة تأتي من لاووس، وأخذ الجنرال في الاعتبار احتمال ضربة جوية أمريكية، ولكن هذا لم يتم نسبة للمخاطرة.
ما أشبه بستالينجراد
في حالة أشبه بما حدث في "ستالينجراد" كانت "ديان بيان فو" في حالة مجاعة، وعندما بدأ الهجوم لم يكن بالقلعة ما يكفي لثمانية أيام من المؤن.
وكان الإنزال الجوي لنجدة الفرنسيين تجربة مخيفة إذا أن مدفعية جياب كانت تتصيد كل طائرة نقل، وفقدت 62 طائرة نقل وتعرضت 167 طائرة لضربات، وشبه بعض الطيارين الأمريكيين الوضع بما عرف من قبلهم في الحرب العالمية الثانية وعندما انتهت المعركة كانت 92,926 مظلة أشبه بسقوط الثلج على ميدان المعركة - أو الأكفان.
ماذا قيل عن المعركة
تاريخياً اعتبرت "ديان بيان فو" على حد قول ضابط فرنسي: ليس أكثر من حادث مؤسف، وأكدت أن أي قوة محاطة مهما كانت بشجاعة يمكن أن تستسلم أو تخضع لغيرها أو تدحر إذا ما فشل نظام الدعم الذي تستند إليها، وكما حدث في حروب ثورية من الجزائر إلى هزيمة بريطانيا في قبرص وفلسطين ثبت أن الأمر لا يتطلب قوة ضاربة لخسارة مثل هذه الحروب، وإنما يمكن أن يحدث هذا بمجرد سلسلة من الاشتباكات الصغيرة كالتي حدثت في جنوب فيتنام إذا ما كانت الحكومة المحلية وشعبها قد فقدوا الثقة في النتيجة النهائية للمواجهة، وتلك هي الحالة بالنسبة لكل من الفرنسيين وحلفائهم من الفيتناميين بعد "ديان بيان فو".
وفي تعليق لوزير الدفاع الأمريكي السابق "روبرت ماكينمارا" عن سياسة أمريكا في فيتنام في حديث له عام 26/3/1964 قال وكأنه كان يتحدث عن هذه المعركة: "لقد تعلمنا من فيتنام أن السياسة والتقدم الاقتصادي شرط لا غنى عنه للنجاح العسكري، ونأمل أن نكون قد تعلمنا الدرس في الوقت المناسب".
0 التعليقات:
إرسال تعليق