كانوا يدافعون عن حقهم في البقاء.. وعن حقهم في الاختلاف.. البقاء في وجه صحراء
قاسية اختاروها منفى ومأوى.. فلم تهبهم الأمان بقدر ما أثارت فيهم غريزة التحدي، والاختلاف ضد الأغلبية الساحقة من أعضاء المذاهب الأخرى الذين تغلبوا على دولتهم دون أن يقدروا على إرادتهم.. إن وادي ميزاب هو عالم مصغر، أصدق ما فيه هو إرادة الإنسان وإصراره على أن يواصل التباين والاختلاف.
دعوني أعترف لكم في البداية بمدى ما شعرت به من تقصير. كانت الرحلة إلى وادي ميزاب تأخذني في متاهاتها دون أن أعرف عن هذا الوادي شيئا. كل ما خطر في بالي أنه كان على حافة الصحراء الجزائرية الكبرى. وكان الهدف الأول من هذا الاختيار هو البعد عن العاصمة المزدحمة بالتلوث والغبار وحوادث الإرهاب والتعقيدات السياسية وصراعات السلطة وتنازع الفرقاء.. وكل أمراض العواصم التي حطمت أحلامنا العربية. كان وادي ميزاب يبدو لنا مثل \"مطهر\" صحراوي بعيد. جاف وحار، ولكنه كفيل بأن يقتل في داخلنا كل ما تركته المدينة من جراثيم التلوث والحيطة والادعاء. ولكن هذا الوادي الضائع في الصحراء كشف لنا عن أكثر من مفاجأة. أولاها أن هذا المكان هو واحد من 60 مكانا صنفتها اليونسكو تراثا إنسانيا عالميا يجب عدم المساس به. وثانية المفاجآت أن هناك عشرات الدراسات والكتب العربية والعالمية قد كتبت عن هذا الوادي لتسجل أدق تفاصيل الحياة في شعابه. أما ثالثة المفاجآت فهي أن مجلة العربي قد قامت بزيارة هذا الوادي منذ 13 عاماً تقريبا. قام بذلك الزميل مصطفى نبيل الذي يرأس الآن تحرير مجلة \"الهلال\" القاهرية الشهيرة وما زال أهالي الوادي يحتفظون بالعدد الذي نشر فيه هذا الاستطلاع في اعتزاز كبير.. بل إنني وبعد أن تبينت جهلي قد أدركت أنني لن أستطيع أن أضيف الكثير إلى ملاحظات مصطفى نبيل الدقيقة والصائبة حتى بعد هذا القدر من السنين.
دهشة الاكتشاف
الطائرة تحلق بنا عاليا. في المساحة الضيقة ما بين السحب ورءوس الجبال. تضاريس متجهمة تلتف خلالها طرق ضيقة مثل شرايين الجسد. شبكة الطرق عبر الصحراء الكبرى هي واحدة من أفضل إنجازات الجزائر. وبرغم ذلك فتلك الوعورة الزائدة على الحد تجعل الوصول إلى وادي ميزاب نوعا من التحدي..
هبطت بنا الطائرة في مدرج المطار البسيط. لم أكن أدري أن هذا المدرج يستقبل مباشرة عشرات السائحين القادمين من أوربا لزيارة هذا الوادي فقط. والبعض منهم يفضل الضياع في الصحراء التي تحيط به إذا كان ذلك ممكنا. وظللت طوال المسافة في المطار إلى مدينة \"غرداية\" عاصمة الوادي وأنا أحاول أن أتمثل شكله. كان الأمر قد ازداد إثارة، وزميلي المصور متحفز بالكاميرا لالتقاط أول الملامح. ولكن الظلام كان قد سبقنا ولم يبق من المدن إلا أضواء متناثرة تحدق فينا بحذر. ولكنها بشكل أو بآخر ترسم ملامح هذا الوادي وهي تصعد متدرجة من الأسفل نحو قمة غير مرئية. كان الوادي يتنفس بعمق تحت الظلام، أنفاساً حارة تجعلك تحس بحضوره حتى وأنت لا تستطيع تحديد ملامحه.
كنا أيضا قد اخترنا التوقيت الخاطئ للقيام بالاستطلاع. في عز يونيو حيث ترتفع درجات الحرارة إلى الخمسين وسط صحراء قائظة. ولكن لعل هذا التوقيت بالذات هو الذي أعطانا الفكرة الحقيقية عن المعاناة التي عاشها أهل الوادي حتى يستطيعوا التكيف مع هذه البيئة دون الاستعانة بأي وسائل حديثة.
أشرقت الشمس مبكرة. كأن السماء أقرب ما تكون إلى الوادي. وبدأ سياج النخل الممتد أمامنا يحيط كالسوار بكل مدينة من مدن الوادي. مع لمحة الضوء الأولى وقفنا مذهولين. هذا التناسق والجمال اللذان صنعا على قياس الإنسان كما يقول المصور الفرنسي كلود بوفار الذي فتن بتصوير ملامح الوادي.
تستقبلنا المدن الخمس.. غرداية.. ويني يزجن وبنورة ومليكة والعطف.. مدن صغيرة كأنها أخوات. متشابهات مختلفات. في كل واحدة سحر خفي. تتدرج بيوت غرداية من أسفل إلى أعلى..
في القمة يوجد مسجد بمنارته الأندلسية المحورة. هرم ناقص صغير يعلو فوق كل شيء ثم تحيط به البيوت في ارتفاع واحد. كل بيت ملتصق بالآخر ظهرها إلى الخارج وأبوابها إلى الداخل. كأنها تكوّن مجموعة من الأسوار الدائرية تحيط بالمسجد. الألوان هادئة متناسقة مع كل ما يحيط بك. لا يوجد لون فاقع، كان هناك حرص على عدم الشذوذ والتفرد.. إنها قاعدة واحدة تسود كل شيء هنا.. يأخذنا داود الحاج سعيد مرافقنا وموزع مجلة العربي في غرداية. شاب دمث يهوي الأدب والكتابة. لم يتركنا لحظة واحدة وأصر على أن يقيم لنا وليمة في بيته عند نهاية رحلتنا وكان صبوراً هادئا وهو يحاول أن يرينا كل شيء طيبا ومثيرا. وبفضله تحول الوادي إلى كتاب مثير.
غرداية ياغرداية. البيوت المتلاصقة تحتوينا. تكون بينها طرقات ضيقة ملتوية مسقوفة أحيانا يسري بينها الهواء أقل سخونة من الوادي المفتوح.. يقول لنا المهندس زهير بللا مدير ديوان حماية وترقية وادي ميزاب: \"منذ عام 1985 أي منذ أن أعلنت اليونسكو أن وادي ميزاب هو محمية ثقافية وجزء من التراث الإنساني العالمي وقد بدأنا في بذل كل الجهود للحفاظ على الوادي بصورته التقليدية\".
لقد وضع الشيخ أطفيش أحد أقطاب الوادي في كتابه \"شرح النيل في شفاء العليل\" أسس العمارة في هذا الوادي.. بحيث تتساوى جميع البيوت في الارتفاع. فلا يعلو أحد على بيت جارة. ولا يحجب عنه الشمس ولا الهواء. كذلك يجب ألا يظهر على البيوت أي مظهر من مظاهر الترف من الخارج.. وكذلك القبور.. كل الأشياء سواسية.. يأخذنا الشيخ صالح إلى داخل أحد البيوت القديمة ويشرح لنا كيف كانت الحياة المنزلية. أنه شيخ عجوز، متقاعد، ولكنه وهب نفسه ليكون دليلا مجانيا لكل السياح الذين يزورون الوادي. كان يتحدث الفرنسية بطلاقة ويجد من الصعوبة أن يترجم العربية لنا.. لعلنا كنا بالنسبة إليه سائحين نادرين. ننبش في جدران البيت حيث توجد آثار من القواقع محفورة على الصخور. ويجعلنا نذوق طعم عروق الملح. هذه المنطقة كلها كانت مغمورة بمياه البحر منذ ملايين السنين. ولكن مياه البحر انحسرت وتركت خلفها الصحراء والوادي. فتحات البيت القديم تتبع حركة الشمس. تتيح دخول أكبر نسبة منها في الشتاء وأقل نسبة في الصيف.
يضيف المهندس زهير انها الثنائية التي تحكم كل شيء في هذا الوادي. مدينة للشتاء وأخرى للصيف. في الشتاء يعيش الناس في هذه البيوت. أما في الصيف فينتقلون إلى البساتين أسفل الوادي حيث يرق الهواء تحت ظلال النخيل. كما أن مدينة الأموات تجاور مدينة الأحياء. حيث لا تتمايز القبور ولا يوجد عليها شواهد. مجرد أحجار، حجر للمرأة وحجر للرجل وحجر صغير للطفل. وعلى كل قبر يضع أهل المتوفي شيئا من الأشياء التي كان يعتز بها. الكوب الذي كان يشرب منه، أو الطبق الذي كان يأكل فيه. كذلك الثنائية التي تقسم الوادي إلى مدينة للرجال وأخرى للنساء.. حدود غير مرئية ولكنها موجودة ومؤكدة بين الجنسين.
الجو حار ولكن حركة السوق في غرداية أكثر اشتعالا. سوق غرداية دائما يعقد في الصباح، ولكن سوق بني يزجن لا يعقد إلا قبل غروب الشمس. أنواع مختلفة من البضائع. فواكه وبقول وملابس وأجهزة كهربائية. الدروب الضيقة المتفرعة من السوق كل واحد منها مخصص لنوع معين من النشاط التجاري. درب للقصابين. ودرب للعطارين وتجار البهار. ودرب للأبسطة وحتى الحلاقون لهم درب خاص.. إن أسعار السوق وتنظيم حركة التجارة فيه مثلها مثل الكثير من بقية الأنشطة الحياتية في هذا الوادي محكومة من قبل \"مجلس الغرابة\" وسوف نسمع كثيرا عن هذا المجلس قبل أن نعرف ماذا يمثل بالضبط.. في الأعلى يوجد المسجد. أنه في القلب دائما. كأنه خط الدفاع الأخير لكل مدينة من المدن. تكوينه الداخلي غاية في البساطة والانسيابية. لا يوجد على جدرانه أي نوع من أنواع الزخارف. حتى المحراب لا يوجد ما يميزه أكثر من مكان غائر في الحائط. انه التقشف الذي لا يشغل المصلي عن الخشوع. والمئذنة ترتفع إلى مائة وعشرين درجة لتستشرف كل حلقات البيوت الدائرة حولها. لقد قال عنه المهندس الفرنسي الكور بيزيه في كتابه \"نحو عمارة عصرية\": \"عندما تقل في رأسي أفكار البناء أذهب إلى المسجد في غرادية حيث أجلس في ساحته لتواتيني الأفكـار\".. إنه لم يكتف بالجلوس في ساحة المسجد فقط ولكنه نقل تصميمه المعماري الداخلي لينفذه في كنيسة رون شون في مقاطعة بيرباتي الفرنسية.
بني يزجن تحذرك وتستقبلك
بني يزجن تحذرك قبل أن تدخل إليها. التدخين ممنوع في شوارعها وكذلك التصوير ولبس الملابس القصيرة. الصور التي التقطناها كانت خفية.. سمحوا لنا بها بعد أن علموا بأننا نمثل مجلة مسلمة عربية.. تظهر فيها المرأة بالمصادفة غير المقصودة لأن من المحرم قطعيا تصوير النساء.
في المتحف الصغير الذي أنشأته المدينة نجد صور الحياة الماضية.. كيف استمدوا بقاءهم وإصرارهم من واقع الشظف الذي يعيشون في وسطه. شظف الصحراء حيث لا يهدأ صراع البقاء أبدا. الشوارع نظيفة لدرجة كبيرة. لا يوجد متسول واحد. نفس الملاحظة التي لاحظها مصطفى نبيل منذ 13 عاما. إنها مدينة الثقافة في الوادي كله. فلا يوجد فيها هذا المتحف فقط. ولكن هناك العديد من المكتبات العامة. مكتبات صغيرة في غرف ضيقة لا تحتوي على أكثر من منضدة وبضعة مقاعد، مليئة بكتب التراث وبعض الكتب المعاصرة. قابلنا فيها شاعر شاب تلا علينا قصيدة عمودية عصماء في سب الشعر الحديث. طلبوا منا بإلحاح الأعداد الجديدة من مجلة العربي. وقفنا أمام منزل المفدى زكريا المغلق. كانت الأسرة تستعد هي أيضا لترميمه وتحويل مكتبته الشخصية إلى مكتبة عامة. المفدى زكريا هو شاعر الثورة الجزائرية وهو مؤلف نشيدها الوطني الذي لا يزال يتردد حتى الآن. وله في المكتبة العربية أكثر من 25 كتابا.. مات غريبا في المنفى ودفن في بني يزجن التي ظل يحن إليها دائما.
كان سوق المغرب منعقدا في وسط البلد. سوق لالا عائشة.. المرأة التي تأخرت ذات يوم عن موعد الصلاة فحفرت بئرا وهبتها للجميع. وسمي السوق باسمها حتى هذه اللحظة. أتذكر رواية رايدر يجارد التي قرأتها في طفولتي \"هي أو عائشة\" التي دارت في مكان ما غامض وسحري وسط قبائل الصحراء الكبرى. هل جاء هذا المؤلف الفيكتوري العتيق إلى ذلك الوادي. أعضاء مجلس الغرابة جالسون في أطراف السوق. يرتدون الثياب البيضاء يراقبون حركة البيع والأسعار.. الشيخ أيوب صدقي يوصي زملاءه بمتابعة المراقبة ويستأذن ليصحبنا إلى بيته. إنه يسكن بيتا صغيرا بنفس حجم بقية البيوت، وبرغم ذلك فقد اقتطع منه حجرة صغيرة لمكتبته حيث جلسنا جميعا متلاصقين نستمع إليه وهو يتدفق في الحديث. لا بد أن لمهنته كمدرس ومحاضر في التاريخ الإسلامي أثرا من هذا التدفق والمعلومات الفياضة التي استمرت على مدى ثلاث ساعات متصلة. سكان هذا الوادي - ما عدا قلة قليلة - يتبعون المذهب الأباضي الذي ينتسب في أصل تسميته إلى عبدالله بن إباض التميمي. ولعل هذا يفسر العلاقات التي تربطهم بسلطنة عمان والتشابه في الكثير من العادات بينهما. إنهم تلك الجماعة من المسلمين الذين رفضوا التحكيم بين علي ومعاوية. وقد اختلفوا مع شيعة علي الذين رأوا أن الإمامة يجب أن تكون من أهل البيت. واختلفوا مع الحكام من بني أمية ومن بعدهم العباسيين الذين رأوا أن الحكم والعصبية يجب أن تكون من قريش. لقد رأوا أن الإمامة من حق كل مسلم عاقل راشد حتى ولو كان عبدا حبشيا.. ولعل هذا هو السبب الأساسي الذي رأى فيه بربر الصحراء مبررا للتمسك بهذا المذهب ومخالفة الجميع. لقد وجدوا أنفسهم فيه.. إنهم ليسوا من الخوارج - هكذا دافع الشيخ أيوب بمرارة - إنهم يتفقون معهم فقط في رفضهم للتحكيم. ولكنهم يخالفونهم في كل شيء بعد ذلك. وهم يؤمنون بحق الآخرين في الاختلاف دون أن ينزع ذلك عنهم إسلامهم.. ولكن تأسيس دولة على المذهب الإباضي كانت حلما عسير المنال. وفي ظل سطوة بنى أمية والعباسيين من بعدهم لم يكن من الممكن إقامة مثل هذه الدولة في المشرق العربي، ، لذلك هاجر الدعاة غربا. أقاموا تجربة سرعان ما تم القضاء عليها في ليبيا، وأخرى في القيروان حتى جاءوا إلى صحراء الجزائر. لقد عثر الداعية عبدالرحمن بن رستم على من يناصره في دعوته في أفراد قبيلة لماية وبواسطتهم أقام الدولة الرسمية في مدينة \"تهرت\". لم تكن دولة يورث فيها الملك. ولكن الملك كان من حق أي مسلم عاقل راشد. وكانت تسمح بحرية الاعتقاد. وفتحت باب المناقشة لكل التيارات الفكرية. ولم تحارب عدوا دون إعلان. ولم تغز بلدا دون تنبيه. وكان أكبر إنجازاتها الحضارية كما قال المستشرق جوستاف لوبون \"أنها أخرجت سكان الصحراء من بداوتهم وشحذت مداركهم وهذبت أخلاقهم..\" ولكنها كانت دولة قصيرة العمر. مثلما نضجت سريعا شاخت سريعا. وعجل صعود دولة الفاطميين بنهايتها. لقد سقطت \"تهرت\" ووجد الآلاف من الإباضية أنفسهم بلا مأوى مطاردين مرة أخرى. وخرج داعيتهم أبوعبدالله محمد بن بكر يبحث عن مأوى آخر، مأوى كالمنفى بعيد وناء. وخرج إلى الصحراء حيث قدم إلى هذا الوادي الذي كان أهله يتبعون مذهب الاعتزال واجتمع بكبرائهم ليقنعهم بالدخول إلى مذهبه والقبول باتباعه. لم تكن العملية سهلة بالتأكيد. فقد قتل أهل الوادي أحد أبناء الداعية. وضاق السكان القدامى بالمهاجرين الجدد. ودارت المعارك حول هذه الرقعة الضيقة الشحيحة من الأرض. ولكن الداخلين في مذهب الإباضية تكاثروا وأصبحوا هم الأكثرية، ولا تزال بقايا المعتزلة في الوادي حتى الآن.
الرحيل الطويل
إن اسم \"ميزاب\" هو تحريف بربري لاسم مصعب.. الجد الأول لتلك القبيلة من البربر. مصعب ابن بادين، الذي قاد عشيرته للسكنى في هذا الوادي. والبربر هم أبناء بربر بن تملا بن مازيغ. وهم يسمون أيضا الامازيغ نسبة إلى هذا الجد. الأساطير تحيط بنشأتهم شأنهم في ذلك شأن بقية الشعوب القديمة. يقولون إن النجوم قد هبطت من السماء وغاصت في الرمال ومن أطرافها جاءت قبائل البربر. ولكن الأساطير الأكثر واقعية تقول إن جدهم هو حام ابن نوح عليه السلام وأنهم كانوا يعيشون في الشام ولكن الخلاف وقع بينهم وبين أبناء عمومتهم في فلسطين ويبدو أنهم تلقوا هزيمة قاسية اضطروا على أثرها للنزوح غربا فعبروا مصر واستقروا في الصحراء الكبرى وخلال هذه الرحلة حملوا معهم إلههم الشرقي القديم \"أمون\". نفس الإله الذي كان يدين به المصريون القدماء. وما زالت المرأة الميزابية ترسم في ليلة زفافها خطا بالزعفران يمتد من الجبهة إلى قمة الأنف يسمى \"أمول\" ولعله تحريف لاسم الإله القديم ورمز باق من آثار الرحلة الطويلة. لقد اختاروا الصحراء موطنا لهم. واكتسبوا جزءا من صلابتها. عرفوا مسارات النجم. وآمنوا بالأسرار الخفية داخل المغارات. واكتشفوا بأحاسيسهم الغامضة فوران الينابيع تحت الرمل الجاف. هجروا ذاكرة الخصب القديمة، وصنعوا رموزا جديدة، النخلة المقدسة، والبئر التي تنقذهم، ودوامات الرمل التي يثيرها مرور جماعات الجن، وأرواح الأسلاف التي تسكن المغارات. عاشوا على الرعي لذلك لم يكفوا عن الرحيل بحثا عن الكلأ والماء. أصبحوا جماعات بالغة الخصوصية، لا يستطيعون المراهنة على مكان واحد.. أو قدر واحد.
ولكن بني مصعب اختـاروا الاستقرار أخيرا وسط شبكة الجبال المتداخلة. اختاروا أن يطوعوا الأرض.. أن يحفروا الآبار بدلا من أن يعثروا عليها بالمصادفة، وأن يجمعوا مياه الأمطار، ويستبدلوا ببيوت الشعر بيوتا من الحجر، وأن يحولوا النخلة الواحدة إلى بساتين من النخيل، إنه قانون الإرادة الإنسانية الذي ما زال سائدا في مدينة العطف كان لنا موعد مع أقطاب مجلس الغرابة حيث نشاهد نشاطا آخر لهمم وذلك في مجال التعليم الحر. ولكن كان علينا أن نسأل الشيخ إسماعيل عضو المجلس عن هذا المجلس الذي يتردد اسمه في كل مكان نذهب إليه.. لقد تضاءل الحلم.. وبعد أن كانت هناك دولة أصيح هناك واد ضيق. لم يعد هناك مجال لإقامة خليفة أو أمير. وفي وسط هذه العزلة كان لا بد من وجود من يحكم، لذلك فقد حكم المسجد هذا المجتمع منذ القرن السادس الهجري.
هكذا بدأ تكون حلقة الغرابة - أي الذين غربوا عن الدنيا بما فيها من أطماع شخصية ووهبوا أنفسهم لخدمة الآخرين. أنها حلقة مكونة من أثنى عشر شخصا: إمام المسجد والمؤذن واثنين وكيلين على الماء، وتتوزع وسط الباقيين بقية المهام الاجتماعية والدينية. إنهم يحتلون مكانة الإمام الأعظم، ويختارون من بين الأصلح والأكثر ورعا من العشيرة. ويجب أن يكون صاحب مهنة يتكسب منها حتى تكتسب أحكامه نوعا من النزاهة والتعفف. ويقول أحد شيوخهم أبو عمار عبدالكافي محددا هذه الشروط: لا يدخل أحد حلقة الغرابة حتى تكون فيه خصال أربع. الأولى أن يكون كيسا أديبا، والثانية أن يكون مثمرا في طلب العلم. والثالثة ألا يكثر من دخول الأسواق. والرابعة أن يغسل جسده بالماء ويغسل قلبه من الغش والكبر.
وقد كان لرئيس الحلقة وأمامها مهام وصلاحيات كثيرة منها تدبير الحرب ووسـائل الدفاع وعقد المعاهدات والأحلاف. وقد اقتصر دوره الآن- مع ظهور الدولة الحديثة - على الشئون الاجتماعية فالمجلس يفصل بين الخصوم في كل أنواع الخلافات. ويترافع كل خصم عن قضيته في المسجد بين صلاتي الظهر والعصر. وحكم المجلس نافذ وواجب الطاعة. كذلك يشرف الأعضاء على المنافع العامة المياه والسدود. ويقوم مجلس الغرابة بدور مهم في التعليم، فقد أنشأ نظام التعليم الحر الذي يوازي النظام الدولي الرسمي. والمدرسة التي قمنا بزيارتها في مدينة العطف كانت مدرسة كبيرة وحديثة مزودة بكل الوسائل التعليمية المعاصرة. والهدف منها هو تعليم التلاميذ جرعة كبيرة من الفكر الديني التابع للمذهب الإباضي في مواجهة المدارس التي تخضع للنظام الفرنسي في التعليم. ولكن مع التطور بدأ الكثير من الطلبة الذكور يتجهون إلى التعليم الرسمي لأنه يفتح أمامهم الطريق إلى الجامعة والترقي في الوظائف الحكومية. ووافق المجلس على ذلك بشرط أن يستيقظ التلاميذ ساعتين مبكرا قبل موعد المدرسة.. ويبقوا ساعتين أخرين بعد الموعد لكي يدرسوا المزيد من علوم القرآن والفكر الإباضي. أما البنات فإنهن في معظمهن يتجهن إلى التعليم الحر حيث إن أقساما كبيرة من بني ميزاب ترى أن تعليم البنت يجب أن يقتصر على الحياكة وأمور المنزل بعيدا عن المدارس الرسمية التي يوجد فيها اختلاط وتوجد فيها أيضا حصص للألعاب ترتدي البنات فيها ملابس غير لائقة.
أحد الشباب حدثني أن هذا الفكر في طريقه إلى التغير وأنه قد ذهب بابنته إلى مدارس التعليم الرسمي وقد امتعض أبوه منه كثيرا وترك له مرغما حرية الاختيار. كذلك وضع مجلس الغرابة نظاما دقيقا لتنظيم الزواج.. فهو يعلن في كل عام عن مواعيد الأعراس الجماعية حيث يقام أكثر من عرس في ليلة واحدة وتقام مأدبة واحدة تضم كل المدعوين توفيرا للنفقات. والمهر محدد من المجلس. وكذلك أثاث العرس والثياب والهدايا والذهب.. لا أحد ينفق ببذخ. ولا أحد يتعدى الحدود على الآخرين. وإذا أراد أي عريس أن يأتي لعروسه بأي هدية زائدة لا يتم ذلك إلا بعد ثلاثة أشهر من إتمام الزفاف. المهم أن يتساوى مظهر الزفاف بين الغني والفقير.
المرأة.. الحبل السري للوطن
والمرأة برغم أنها خفية لا تظهر إلا ملتفة في عباءة بيضاء وتعبر الطريق مسرعة كأنها تتمنى ألا توجد. مع ذلك فهي تمثل العصب الأساسي للحياة في ميزاب. ولولا المشقة التي تحملتها ما استمرت الحياة. إن لمجلس الغرابة الرجالي مجلسا آخر موازيا له ومكوناً من النساء ليهتم بشئون المرأة في الحياة والموت. وتستطيع أن تحس بوجود المرأة القوي والفعال داخل البيت الميزابي. فهي لا تكتفي بتربية الأطفال ورعاية المنزل. ولكن أصابعها لا تكف عن العمل. أنها تقيم نولها في أحد أركان المسجد وتنسج الأبسطة والسجاجيد. والبساط أو الزرابية التي تنسجها ليست شيئا عفويا.. وكأنها رسالة مليئة بالرموز التي يمكن قراءتها تكتبها أم لابنتها. وبرغم أن الميزابية هم شعب رحال.. وتجار مهرة.. وكثيرو السفر سعيا وراء الرزق فإن مجلس الغرابة أصدر قرارا يمنع فيه أي ميزابي من اصطحاب زوجته وأولاده إلى الخارج. لأن بقاء الزوجة داخل الوادي يجعل الرجل دائما مرتبطا بوطنه يحن إليه ويعود كلما أتيحت له الفرصة ليوظف أمواله في العقار والزراعة أما إذا اصطحب زوجته فسوف تروق له الحياة ويقل شوقه للعودة. لقد أصبحت المرأة هي رباط الوطن وحبله السري الخفي. وتمتد سلطة مجلس الغرابة للمرأة المطلقة والأرملة وللأطفال اليتامى. إنه يوكل بهم دائما من يرعاهم. وهناك مال مرصود دائما لهذه الأغراض.
ولا تقتصر سلطة المجلس على الوادي فقط ولأن هذا الأسلوب التكافلي قد أصبح طريقة للحياة فقد انتقل معهم إلى الخارج. وفي كل مدينة يلجأ إليها \"الميزابية للعمل أو التجارة يقيمون تجمعهم، وينشئون صندوق التضامن الذي يعين أي وافد جديد حتى يجد عملا. فالميزابي لا يقيم في فندق عندما يسافر إلى بلد آخر ولكنه يقيم في بيوت الميزابية. وتقوم عشيرته الموجودة في المدينة بتدبير أمور عمله وإعاشته.
ولكن ماذا يحدث لمن يخالف تعاليم مجلس الغرابة؟ النبذ الاجتماعي. نوع من السجن غير المرئي يحيط بالمذنب برغم أنه لا يوجد في الوادي سجن بالمعنى الواقعي. إن إمام المجلس يقف أمام المصلين ويعلن التبرؤ من كل من يخالف التعاليم أو يرتكب جرماً أو يقترف سرقة أو يظلم زوجة أو يأكل مال يتيم أو يغش في بضاعته أو يخون أمانة. وهكذا يتم الإعلان على رءوس الأشهاد أن المسلمين كلهم براء منه فلا يجالس ولا يشارك في فرح أو في مأتم ولا يقبل البيع والشراء منه. وأحيانا ينفي خارج القبيلة إذا كان سارقاً وتكرر جرمه. ولا يعود قبل أن يشهد شهود عدول أنه سار حتى رأى البحر. وإذا مات المذنب قبل توبته لا يشرف مجلس الغرابة على غسله ودفنه ولكن يوكل أحد العوام للقيام بذلك. والذي يشعر بأن هناك ظلما واقعا عليه يذهب إلى المسجد ليمنع المصلين من الصلاة قبل أن يأخذوا له حقه أو يتعهدوا بذلك.
هل هو نوع من المدينة الفاضلة.. إن أهل ميزاب ينفون ذلك. إنهم يحاولون فقط اقتناص كل ما في الإنسان من فضائل ومن قوة داخلية كامنة تساعدهم على مقاومة الطبيعة والعزلة والاختلاف. والنظام التكافلي بين الأفراد يمنحهم قوة إضافية وهم يفعلون ذلك في كل شيء تقريبا. حتى مع انتشار مظاهر الحضارة الحديثة لم يكن هناك مانع من أن يتشارك أكثر من بيت في طبق فضائي واحد يرون به المحطات التلفزيونية السابحة في الفضاء ويتحدثون معاً في مجالسهم عن \"ليالي الحلمية\" وغير ذلك من المسلسلات.
ثقافة النخلة والبئر
\"يقول الرجل للنخلة: هل تريدين أن أرويك اليوم؟ تقول النخلة: لا.. يقول لها: هل تريدين أن أشذب سعفك اليوم؟ تقول النخلة: لا. يقول لها: هل تريدين أن أسوي أليافك اليوم؟ تقول النخلة: لا.. يقول لها: ماذا تريدين إذن؟ تقول النخلة: أن تزورني مرة في اليوم\".
خبرة الصحراء تعلن عن نفسها في عدد من الحكايات والمؤثرات. خبرة ليست مكتوبة ولكنها محفورة داخل أغوار النفس. قصص متداولة حول مقاومة الفيضانات وحفر الآبار ومواجهة عواصف الرمل وغارات البدو. المجاعات والأوبئة وأيام الجفاف. تراث من التحدي واكتشاف الذات أمام طبيعة من السهل استثارتها ومن الصعب التغلب عليها. النخلة هي الصديقة الأولى وسط صحراء واسعة ومعادية. هي التي تربط ساكنها بالمكان وتعطيه الأمل في مواصلة الحياة. في كل نواة يوجد خاتم سليمان. لأن سليمان هو أول من دعا لها بالبركة وسماها \"عمتنا\" لذا فإن قطع النخل محرم لأي سبب من الأسباب. والثقافة المبنية حول النخلة بالغة العراقة. عمرها من عمر النخلة الذي يبلغ ألف عام. وعندما تنقل فسيلة نخلة من جوار أمها فإن ذلك يتم وسط طقوس خاصة تردد فيها الأدعية ويتم الفصل بينهما من مكان معين كأنها حبل سري. ولادة حقيقية بكل ما فيها من طقوس الميلاد.
البئر والنخلة قرينان، فالنخلة حين تشرع سعفها تدل على المكان الخفي للبئر. فجذورها الممتدة تشي بالماء المخبوء. وعندما تحفر البئر توهب لها النخلة. إن ثمرها يباع، من حصيلته تتم صيانة البئر والمحافظة عليها.
وقصص حفر الآبار في بني ميزاب هي ملاحم حقيقية، قام بها أناس لا ينتمون إلى الواقع كثيراً. لقد قابلت حفيد أحد هؤلاء الحفارين. وحكى لي كثيرا عن هؤلاء الرجال الذين كانوا يهبطون وسط الصخور على عمق 70 متراً ثم تتقطع بهم الحبال أو تشتعل فتائل البارود رغما عنهم فيطفئونها بأجسادهم أو أن تنهال عليهم الأحجار والرمال. لقد دفعوا من حياتهم ثمن الحياة لهذا الوادي الشحيح المياه وحفروا بوسائلهم البدائية أكثر من ثلاثة آلاف بئر يتجاوز عمق الكثير منها 80 مترا. زرعـوا ما يزيد على المائتي ألف نخلة وتحتها البقول والفواكه وحولوا الرقعة الصغيرة إلى واحات حقيقية في وجه الريح الموسمية المحملة بالرمال. وتقول إحدى الحكايات إن أهالي الوادي قد سدوا الآبار في وجه الطيور حتى لا تشرب من المياه لمدة سبعة أيام فعاقبهم الله بالجفاف لمدة سبعة أعوام وكان عليهم أن يتوجهوا إلى الله بالدعاء قالبين الأيدي حتى يقلب الله السماء فتأتي بالمطر.
المطر هو المشكلة الحقيقية وربما الأزلية لأهالي الوادي. ومهما رأوا من سحب فإنهم يظلون دائما على حافة الأمل واليأس حتى تسقط أولى القطرات. فقد تتعاقب السنون دون قطرة واحدة من المطر. وقد يهطل كالطوفان فتتجمع السيول الكاسحة على رءوس الوديان. من أجل ذلك وضعوا نظاما دقيقا للري مازال قائما حتى الآن. بنوا السدود على ارتفاعات محسوبة بدقة لحجز السيول وإعطاء التربة الفرصة حتى تتشربها وتزيد من منسوب المياه الجوفية، وحفروا القنوات الطويلة الغائرة تحت الأرض التي تتفرع حتى تحمل المياه إلى كل البساتين المختلفة. نظام يشبه الأفلاج في سلطنة عمان ولكنه أكثر تعقيداً. وتوزيع المياه يخضع أيضا لقوانين مجلس الغرابة. فهم يحصون عدد النخل في كل بستان ويسمحون بصنع فتحة يدخل منها الماء متناسبة مع هذا العدد تسد بواسطة مجرى له حجم معين. ومن المحظور التصرف في الفتحة أو حجم الحجر بأي حال من الأحوال دون الرجوع إلى المجلس. ومن يأخذ أكثر من حقه من الماء يعاقب معاقبة السارق. يغرم وقد ينفى عن الوادي بأكمله.
للوادي مشاكله وأحزانه الخاصة بالنسبة لهذه المياه كما يشرح لنا المهندس زهير.. \"فبرغم هذا النظام الدقيق فإن الوادي يعاني أمراض العصر الحديث. لقد أدى اكتشاف البترول في أماكن قريبة من الوادي إلى تدفق أعداد كبيرة من الناس. وكذلك تلوثت الطبقة السطحية من المياه الجوفية. كما أن المياه العميقة آخذة في التناقص فقد هبطت إلى عمق أربعة مترات مما يهدد بزيادة ملوحتها. وكذلك فإن مخلفات المحروقات والمنطقة الصناعية التي ترمى في الشعاب قد أثرت في الحياة البرية فهربت الغزلان وغيرها من الحيوانات البرية...\" والحل كما يراه المهندس زهير هو حفر آبار المياه العميقة والقيام بمشروع جديد للمجاري وهو المشروع الجديد الذي تشرف عليه هيئة اليونسكو ويهدف إلى تنمية الوادي مع المحافظة على طابعه التقليدي.
من الاحتلال إلى الإرهاب
يقول الطبيب فليسي في روايته شبه التسجيلية \"عنف وعنفوان\" التي تحكي وقائع الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي واصفا المفدى زكريا داخل السجن \"كان عمره آنذاك حوالي الخامسة والأربعين. كان قوي البنية، قصير القامة حسير النظر، يضع نظارات لم يتخل عنها قط. وكانت الأحاديث تطول معه إلى ما لا نهاية. كان مفدى زكريا يعيد كل شيء إلى بني يزجن، حيث ولد. كان يشعر بالشوق إلى بني يزجن بشكل مبالغ فيه. وعندما يتحدث عنها كانت عيناه تغرورقان بالدموع. كان مفدى زكريا يفرض فوق ذلك الاحترام. كان ذا شخصية لاذعة، وهذا الوجه الصارم للمفدى كان يعجب الجميع.\"
كان بيته بسيطا وقبره أكثر بساطة. موضوعا فوقه المحبرة التي كان يستخدمها في الكتابة. وقفنا أمامه وأصداء شعره تتردد في أعماقنا. هذه الأشياء البسيطة لا تنبئ عن الحياة العريضة التي عاشها هذا الشاعر الكبير. منذ أن كتب \"من جبالنا طلع صوت الأحرار\" وألف إلياذة الجزائر التي تحكي تاريخ الشعب الجزائري في ألف بيت وبيت وهو مناضل حتى النخاع. وهب شعره كله لقضية الاستقلال. ولد عام 1913 في بني يزجن وتلقى فيها تعليمه الأولي. ثم انتقل إلى تونس وفيها بدأ نضاله السياسي حين انضم إلى حزب نجمة إفريقيا، وسال شعره متدفقا. ودخل السجن أكثر من مرة. ومنع من العودة إلى وادي ميزاب أكثر من مرة أيضا. وتنقل كثيرا ما بين مصر وتونس والمغرب. ومات بعيدا في الدار البيضاء فهل اختار هذا المنفى.. أم أرغم عليه؟.. المهم أن جسده في النهاية عاد إلى وادي ميزاب الذي حرم عليه وهو حي.
ان المفدى زكريا لم يكتشف نفسه فقط خلال معركة الاستقلال الطويلة. ولكن وادي ميزاب بأكمله اكتشف نفسه أيضا. لقد أدركوا في أيون هذه المعركة أنهم ليسوا مكانا قصيا تعزلهم الصحراء الواسعة والمذهب المختلف. لقد احتل الفرنسيون الساحل الشمالي وظلوا على نفس الدرجة من التباعد. ثم بدأ الفرنسيون يطبقون على الصحراء من حولهم. يقطعون طرق القوافل، ويمنعون المدن المتعاملة معهم. حاولوا أن يعقدوا معاهدة للحماية. نصفها إذعان ونصفها استقلال ولكنهم في النهاية لم ينجوا من السقوط في قبضة فرنسا في عام 1882 ووجدوا أنفسهم في أتون الاحتلال يتجرعون نفس الكأس التي تتجرعها الجزائر نفسها. عانوا اقتحامه لديارهم. والتجنيد الإجباري لشبابهم والفتن الداخلية بين طوائفهم.
لقد وحد الاحتلال بين أطراف الأرض. وفي محاولة فرنسا طمس الهوية بزغت هوية أخرى مضادة. ولعله نفس الموقف مع الفارق يعيشه وادي ميزاب اليوم. لقد مات المفدي زكريا غريبا في الدار البيضاء. ومات رفيقه الطيب فليسي في شوارع الجزائر على أيدي جماعات لإرهاب التي تجتاح الجزائر الآن مثل الوباء. وإذا لم يكن وادي ميزاب في الماضي بعيدا عن وطأة الاحتلال فهو ليس بعيدا اليوم عن قضايا الإرهاب.. فقبل أن نشرع في رحلتنا مباشرة تناهى إلينا اغتيال ثلاثة من العاملين الأجانب في المنطقة الصناعية القريبة من الوادي. أحدهم كان كنديا والآخر إنجليزيا والثالث تونسيا. كان ثلاثتهم يعملون في إحدى شركات المحروقات. ولم يكن هناك أي سبب أو مبرر واضح لهذا الاغتيال سوى إثبات أن يد الإرهاب يمكنها أن تطول أي مكان. وفي الوادي عرفنا أن أول عملية إرهابية قد تمت في مدينة أغواط على بعد 200 كيلو متر من غرداية حيث قتل الإرهابيون حوالي 16 من رجال الأمن دفعة واحدة ثم حاولوا الفرار والاختباء في الوادي دون أن يتمكنوا من ذلك. ففي وادي ميزاب نظام خاص للحراسة يعتمد على المتطوعين من أبنائها. كل واحد، عليه يوم أسبوعي للحراسة. وعندما كنا عائدين متأخرين في إحدى الأمسيات شاهدنا حراس الوادي وكل اثنين منهما يسيران معا يمسكان العصى ومصابيح الضوء. لقد أرسل الإرهابيون تهديدا إلى بني ميزاب حتى يكفوا عن هذا النظام الذي يمكن أن يكشف تحركاتهم ولكن أهالي الوادي لم يستجيبوا لهذا التهديد.. فهل يستطيعون النجاة من الضربات المضادة؟.
صناعة الصحراء
ووادي ميزاب.. برغم كل شيء يعيش إيقاع العصر. إن الميزابية الذين احترفوا ركوب الصحراء والرحيل خلف الرزق قد أدركوا أن حدود العالم لا تنحصر بين النخلة والبئر. لذلك فكروا في استثمار نقود التجارة في المشروعات الصناعية. وهكذا بدأت إقامة أول منطقة صناعية على بعد 10 كيلو مترات من الوادي. الحاج أدريس كان أول من أقام مصنعا للنسيج في هذه المنطقة وتبعه آخرون أخذوا يبحثون عن مكان لهم وسط الرمال والصخور. بدأت المنطقة الصناعية في عام 1970 ولكنها لم تشهد التوسع إلا مع الانفتاح الاقتصادي الجزائري مع بدايات عام 1985 حيث انهالت الدولة تقدم الأرض المجهزة والكهرباء وإعفاء ضريبيا لمدة خمس سنوات. والمنطقة الصناعية في وادي ميزاب هي الثانية من نوعها على مستوى الجزائر وتحتوي على 120 صناعة منها النسيج والزجاج والطباعة والسجاد وقطع غيار السيارات وهم يصدرون إلى ليبيا وتونس ويحلمون بالتصدير إلى دول الخليج العربي. لقد قلب بنو ميزاب المعادلة أخيرا وبعد أن كانوا يأخذون الأموال ليستثمروها في الشمال عادوا بها ليقيموا للمرة الأولى صناعة الصحراء. فهل يمكن أن ينجو الوادي من هذه الطفرة في التحديث.. وهل يمكن أن تبقى العلاقات الاجتماعية على حالها.. ويظل الطابع التقليدي للوادي، أم أن الصناعة بكل ما تستتبعه من متغيرات يمكن أن تدفع بالوادي إلى منحى جديد وتنهي عزلته إلى الأبد؟.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمنقول الكترونيا نسخ ولصق من مجلة العربي العدد
لعدد 445 - 1995/12 - استطلاعات - محمد المنسي قنديل
دعوني أعترف لكم في البداية بمدى ما شعرت به من تقصير. كانت الرحلة إلى وادي ميزاب تأخذني في متاهاتها دون أن أعرف عن هذا الوادي شيئا. كل ما خطر في بالي أنه كان على حافة الصحراء الجزائرية الكبرى. وكان الهدف الأول من هذا الاختيار هو البعد عن العاصمة المزدحمة بالتلوث والغبار وحوادث الإرهاب والتعقيدات السياسية وصراعات السلطة وتنازع الفرقاء.. وكل أمراض العواصم التي حطمت أحلامنا العربية. كان وادي ميزاب يبدو لنا مثل \"مطهر\" صحراوي بعيد. جاف وحار، ولكنه كفيل بأن يقتل في داخلنا كل ما تركته المدينة من جراثيم التلوث والحيطة والادعاء. ولكن هذا الوادي الضائع في الصحراء كشف لنا عن أكثر من مفاجأة. أولاها أن هذا المكان هو واحد من 60 مكانا صنفتها اليونسكو تراثا إنسانيا عالميا يجب عدم المساس به. وثانية المفاجآت أن هناك عشرات الدراسات والكتب العربية والعالمية قد كتبت عن هذا الوادي لتسجل أدق تفاصيل الحياة في شعابه. أما ثالثة المفاجآت فهي أن مجلة العربي قد قامت بزيارة هذا الوادي منذ 13 عاماً تقريبا. قام بذلك الزميل مصطفى نبيل الذي يرأس الآن تحرير مجلة \"الهلال\" القاهرية الشهيرة وما زال أهالي الوادي يحتفظون بالعدد الذي نشر فيه هذا الاستطلاع في اعتزاز كبير.. بل إنني وبعد أن تبينت جهلي قد أدركت أنني لن أستطيع أن أضيف الكثير إلى ملاحظات مصطفى نبيل الدقيقة والصائبة حتى بعد هذا القدر من السنين.
دهشة الاكتشاف
الطائرة تحلق بنا عاليا. في المساحة الضيقة ما بين السحب ورءوس الجبال. تضاريس متجهمة تلتف خلالها طرق ضيقة مثل شرايين الجسد. شبكة الطرق عبر الصحراء الكبرى هي واحدة من أفضل إنجازات الجزائر. وبرغم ذلك فتلك الوعورة الزائدة على الحد تجعل الوصول إلى وادي ميزاب نوعا من التحدي..
هبطت بنا الطائرة في مدرج المطار البسيط. لم أكن أدري أن هذا المدرج يستقبل مباشرة عشرات السائحين القادمين من أوربا لزيارة هذا الوادي فقط. والبعض منهم يفضل الضياع في الصحراء التي تحيط به إذا كان ذلك ممكنا. وظللت طوال المسافة في المطار إلى مدينة \"غرداية\" عاصمة الوادي وأنا أحاول أن أتمثل شكله. كان الأمر قد ازداد إثارة، وزميلي المصور متحفز بالكاميرا لالتقاط أول الملامح. ولكن الظلام كان قد سبقنا ولم يبق من المدن إلا أضواء متناثرة تحدق فينا بحذر. ولكنها بشكل أو بآخر ترسم ملامح هذا الوادي وهي تصعد متدرجة من الأسفل نحو قمة غير مرئية. كان الوادي يتنفس بعمق تحت الظلام، أنفاساً حارة تجعلك تحس بحضوره حتى وأنت لا تستطيع تحديد ملامحه.
كنا أيضا قد اخترنا التوقيت الخاطئ للقيام بالاستطلاع. في عز يونيو حيث ترتفع درجات الحرارة إلى الخمسين وسط صحراء قائظة. ولكن لعل هذا التوقيت بالذات هو الذي أعطانا الفكرة الحقيقية عن المعاناة التي عاشها أهل الوادي حتى يستطيعوا التكيف مع هذه البيئة دون الاستعانة بأي وسائل حديثة.
أشرقت الشمس مبكرة. كأن السماء أقرب ما تكون إلى الوادي. وبدأ سياج النخل الممتد أمامنا يحيط كالسوار بكل مدينة من مدن الوادي. مع لمحة الضوء الأولى وقفنا مذهولين. هذا التناسق والجمال اللذان صنعا على قياس الإنسان كما يقول المصور الفرنسي كلود بوفار الذي فتن بتصوير ملامح الوادي.
تستقبلنا المدن الخمس.. غرداية.. ويني يزجن وبنورة ومليكة والعطف.. مدن صغيرة كأنها أخوات. متشابهات مختلفات. في كل واحدة سحر خفي. تتدرج بيوت غرداية من أسفل إلى أعلى..
في القمة يوجد مسجد بمنارته الأندلسية المحورة. هرم ناقص صغير يعلو فوق كل شيء ثم تحيط به البيوت في ارتفاع واحد. كل بيت ملتصق بالآخر ظهرها إلى الخارج وأبوابها إلى الداخل. كأنها تكوّن مجموعة من الأسوار الدائرية تحيط بالمسجد. الألوان هادئة متناسقة مع كل ما يحيط بك. لا يوجد لون فاقع، كان هناك حرص على عدم الشذوذ والتفرد.. إنها قاعدة واحدة تسود كل شيء هنا.. يأخذنا داود الحاج سعيد مرافقنا وموزع مجلة العربي في غرداية. شاب دمث يهوي الأدب والكتابة. لم يتركنا لحظة واحدة وأصر على أن يقيم لنا وليمة في بيته عند نهاية رحلتنا وكان صبوراً هادئا وهو يحاول أن يرينا كل شيء طيبا ومثيرا. وبفضله تحول الوادي إلى كتاب مثير.
غرداية ياغرداية. البيوت المتلاصقة تحتوينا. تكون بينها طرقات ضيقة ملتوية مسقوفة أحيانا يسري بينها الهواء أقل سخونة من الوادي المفتوح.. يقول لنا المهندس زهير بللا مدير ديوان حماية وترقية وادي ميزاب: \"منذ عام 1985 أي منذ أن أعلنت اليونسكو أن وادي ميزاب هو محمية ثقافية وجزء من التراث الإنساني العالمي وقد بدأنا في بذل كل الجهود للحفاظ على الوادي بصورته التقليدية\".
لقد وضع الشيخ أطفيش أحد أقطاب الوادي في كتابه \"شرح النيل في شفاء العليل\" أسس العمارة في هذا الوادي.. بحيث تتساوى جميع البيوت في الارتفاع. فلا يعلو أحد على بيت جارة. ولا يحجب عنه الشمس ولا الهواء. كذلك يجب ألا يظهر على البيوت أي مظهر من مظاهر الترف من الخارج.. وكذلك القبور.. كل الأشياء سواسية.. يأخذنا الشيخ صالح إلى داخل أحد البيوت القديمة ويشرح لنا كيف كانت الحياة المنزلية. أنه شيخ عجوز، متقاعد، ولكنه وهب نفسه ليكون دليلا مجانيا لكل السياح الذين يزورون الوادي. كان يتحدث الفرنسية بطلاقة ويجد من الصعوبة أن يترجم العربية لنا.. لعلنا كنا بالنسبة إليه سائحين نادرين. ننبش في جدران البيت حيث توجد آثار من القواقع محفورة على الصخور. ويجعلنا نذوق طعم عروق الملح. هذه المنطقة كلها كانت مغمورة بمياه البحر منذ ملايين السنين. ولكن مياه البحر انحسرت وتركت خلفها الصحراء والوادي. فتحات البيت القديم تتبع حركة الشمس. تتيح دخول أكبر نسبة منها في الشتاء وأقل نسبة في الصيف.
يضيف المهندس زهير انها الثنائية التي تحكم كل شيء في هذا الوادي. مدينة للشتاء وأخرى للصيف. في الشتاء يعيش الناس في هذه البيوت. أما في الصيف فينتقلون إلى البساتين أسفل الوادي حيث يرق الهواء تحت ظلال النخيل. كما أن مدينة الأموات تجاور مدينة الأحياء. حيث لا تتمايز القبور ولا يوجد عليها شواهد. مجرد أحجار، حجر للمرأة وحجر للرجل وحجر صغير للطفل. وعلى كل قبر يضع أهل المتوفي شيئا من الأشياء التي كان يعتز بها. الكوب الذي كان يشرب منه، أو الطبق الذي كان يأكل فيه. كذلك الثنائية التي تقسم الوادي إلى مدينة للرجال وأخرى للنساء.. حدود غير مرئية ولكنها موجودة ومؤكدة بين الجنسين.
الجو حار ولكن حركة السوق في غرداية أكثر اشتعالا. سوق غرداية دائما يعقد في الصباح، ولكن سوق بني يزجن لا يعقد إلا قبل غروب الشمس. أنواع مختلفة من البضائع. فواكه وبقول وملابس وأجهزة كهربائية. الدروب الضيقة المتفرعة من السوق كل واحد منها مخصص لنوع معين من النشاط التجاري. درب للقصابين. ودرب للعطارين وتجار البهار. ودرب للأبسطة وحتى الحلاقون لهم درب خاص.. إن أسعار السوق وتنظيم حركة التجارة فيه مثلها مثل الكثير من بقية الأنشطة الحياتية في هذا الوادي محكومة من قبل \"مجلس الغرابة\" وسوف نسمع كثيرا عن هذا المجلس قبل أن نعرف ماذا يمثل بالضبط.. في الأعلى يوجد المسجد. أنه في القلب دائما. كأنه خط الدفاع الأخير لكل مدينة من المدن. تكوينه الداخلي غاية في البساطة والانسيابية. لا يوجد على جدرانه أي نوع من أنواع الزخارف. حتى المحراب لا يوجد ما يميزه أكثر من مكان غائر في الحائط. انه التقشف الذي لا يشغل المصلي عن الخشوع. والمئذنة ترتفع إلى مائة وعشرين درجة لتستشرف كل حلقات البيوت الدائرة حولها. لقد قال عنه المهندس الفرنسي الكور بيزيه في كتابه \"نحو عمارة عصرية\": \"عندما تقل في رأسي أفكار البناء أذهب إلى المسجد في غرادية حيث أجلس في ساحته لتواتيني الأفكـار\".. إنه لم يكتف بالجلوس في ساحة المسجد فقط ولكنه نقل تصميمه المعماري الداخلي لينفذه في كنيسة رون شون في مقاطعة بيرباتي الفرنسية.
بني يزجن تحذرك وتستقبلك
بني يزجن تحذرك قبل أن تدخل إليها. التدخين ممنوع في شوارعها وكذلك التصوير ولبس الملابس القصيرة. الصور التي التقطناها كانت خفية.. سمحوا لنا بها بعد أن علموا بأننا نمثل مجلة مسلمة عربية.. تظهر فيها المرأة بالمصادفة غير المقصودة لأن من المحرم قطعيا تصوير النساء.
في المتحف الصغير الذي أنشأته المدينة نجد صور الحياة الماضية.. كيف استمدوا بقاءهم وإصرارهم من واقع الشظف الذي يعيشون في وسطه. شظف الصحراء حيث لا يهدأ صراع البقاء أبدا. الشوارع نظيفة لدرجة كبيرة. لا يوجد متسول واحد. نفس الملاحظة التي لاحظها مصطفى نبيل منذ 13 عاما. إنها مدينة الثقافة في الوادي كله. فلا يوجد فيها هذا المتحف فقط. ولكن هناك العديد من المكتبات العامة. مكتبات صغيرة في غرف ضيقة لا تحتوي على أكثر من منضدة وبضعة مقاعد، مليئة بكتب التراث وبعض الكتب المعاصرة. قابلنا فيها شاعر شاب تلا علينا قصيدة عمودية عصماء في سب الشعر الحديث. طلبوا منا بإلحاح الأعداد الجديدة من مجلة العربي. وقفنا أمام منزل المفدى زكريا المغلق. كانت الأسرة تستعد هي أيضا لترميمه وتحويل مكتبته الشخصية إلى مكتبة عامة. المفدى زكريا هو شاعر الثورة الجزائرية وهو مؤلف نشيدها الوطني الذي لا يزال يتردد حتى الآن. وله في المكتبة العربية أكثر من 25 كتابا.. مات غريبا في المنفى ودفن في بني يزجن التي ظل يحن إليها دائما.
كان سوق المغرب منعقدا في وسط البلد. سوق لالا عائشة.. المرأة التي تأخرت ذات يوم عن موعد الصلاة فحفرت بئرا وهبتها للجميع. وسمي السوق باسمها حتى هذه اللحظة. أتذكر رواية رايدر يجارد التي قرأتها في طفولتي \"هي أو عائشة\" التي دارت في مكان ما غامض وسحري وسط قبائل الصحراء الكبرى. هل جاء هذا المؤلف الفيكتوري العتيق إلى ذلك الوادي. أعضاء مجلس الغرابة جالسون في أطراف السوق. يرتدون الثياب البيضاء يراقبون حركة البيع والأسعار.. الشيخ أيوب صدقي يوصي زملاءه بمتابعة المراقبة ويستأذن ليصحبنا إلى بيته. إنه يسكن بيتا صغيرا بنفس حجم بقية البيوت، وبرغم ذلك فقد اقتطع منه حجرة صغيرة لمكتبته حيث جلسنا جميعا متلاصقين نستمع إليه وهو يتدفق في الحديث. لا بد أن لمهنته كمدرس ومحاضر في التاريخ الإسلامي أثرا من هذا التدفق والمعلومات الفياضة التي استمرت على مدى ثلاث ساعات متصلة. سكان هذا الوادي - ما عدا قلة قليلة - يتبعون المذهب الأباضي الذي ينتسب في أصل تسميته إلى عبدالله بن إباض التميمي. ولعل هذا يفسر العلاقات التي تربطهم بسلطنة عمان والتشابه في الكثير من العادات بينهما. إنهم تلك الجماعة من المسلمين الذين رفضوا التحكيم بين علي ومعاوية. وقد اختلفوا مع شيعة علي الذين رأوا أن الإمامة يجب أن تكون من أهل البيت. واختلفوا مع الحكام من بني أمية ومن بعدهم العباسيين الذين رأوا أن الحكم والعصبية يجب أن تكون من قريش. لقد رأوا أن الإمامة من حق كل مسلم عاقل راشد حتى ولو كان عبدا حبشيا.. ولعل هذا هو السبب الأساسي الذي رأى فيه بربر الصحراء مبررا للتمسك بهذا المذهب ومخالفة الجميع. لقد وجدوا أنفسهم فيه.. إنهم ليسوا من الخوارج - هكذا دافع الشيخ أيوب بمرارة - إنهم يتفقون معهم فقط في رفضهم للتحكيم. ولكنهم يخالفونهم في كل شيء بعد ذلك. وهم يؤمنون بحق الآخرين في الاختلاف دون أن ينزع ذلك عنهم إسلامهم.. ولكن تأسيس دولة على المذهب الإباضي كانت حلما عسير المنال. وفي ظل سطوة بنى أمية والعباسيين من بعدهم لم يكن من الممكن إقامة مثل هذه الدولة في المشرق العربي، ، لذلك هاجر الدعاة غربا. أقاموا تجربة سرعان ما تم القضاء عليها في ليبيا، وأخرى في القيروان حتى جاءوا إلى صحراء الجزائر. لقد عثر الداعية عبدالرحمن بن رستم على من يناصره في دعوته في أفراد قبيلة لماية وبواسطتهم أقام الدولة الرسمية في مدينة \"تهرت\". لم تكن دولة يورث فيها الملك. ولكن الملك كان من حق أي مسلم عاقل راشد. وكانت تسمح بحرية الاعتقاد. وفتحت باب المناقشة لكل التيارات الفكرية. ولم تحارب عدوا دون إعلان. ولم تغز بلدا دون تنبيه. وكان أكبر إنجازاتها الحضارية كما قال المستشرق جوستاف لوبون \"أنها أخرجت سكان الصحراء من بداوتهم وشحذت مداركهم وهذبت أخلاقهم..\" ولكنها كانت دولة قصيرة العمر. مثلما نضجت سريعا شاخت سريعا. وعجل صعود دولة الفاطميين بنهايتها. لقد سقطت \"تهرت\" ووجد الآلاف من الإباضية أنفسهم بلا مأوى مطاردين مرة أخرى. وخرج داعيتهم أبوعبدالله محمد بن بكر يبحث عن مأوى آخر، مأوى كالمنفى بعيد وناء. وخرج إلى الصحراء حيث قدم إلى هذا الوادي الذي كان أهله يتبعون مذهب الاعتزال واجتمع بكبرائهم ليقنعهم بالدخول إلى مذهبه والقبول باتباعه. لم تكن العملية سهلة بالتأكيد. فقد قتل أهل الوادي أحد أبناء الداعية. وضاق السكان القدامى بالمهاجرين الجدد. ودارت المعارك حول هذه الرقعة الضيقة الشحيحة من الأرض. ولكن الداخلين في مذهب الإباضية تكاثروا وأصبحوا هم الأكثرية، ولا تزال بقايا المعتزلة في الوادي حتى الآن.
الرحيل الطويل
إن اسم \"ميزاب\" هو تحريف بربري لاسم مصعب.. الجد الأول لتلك القبيلة من البربر. مصعب ابن بادين، الذي قاد عشيرته للسكنى في هذا الوادي. والبربر هم أبناء بربر بن تملا بن مازيغ. وهم يسمون أيضا الامازيغ نسبة إلى هذا الجد. الأساطير تحيط بنشأتهم شأنهم في ذلك شأن بقية الشعوب القديمة. يقولون إن النجوم قد هبطت من السماء وغاصت في الرمال ومن أطرافها جاءت قبائل البربر. ولكن الأساطير الأكثر واقعية تقول إن جدهم هو حام ابن نوح عليه السلام وأنهم كانوا يعيشون في الشام ولكن الخلاف وقع بينهم وبين أبناء عمومتهم في فلسطين ويبدو أنهم تلقوا هزيمة قاسية اضطروا على أثرها للنزوح غربا فعبروا مصر واستقروا في الصحراء الكبرى وخلال هذه الرحلة حملوا معهم إلههم الشرقي القديم \"أمون\". نفس الإله الذي كان يدين به المصريون القدماء. وما زالت المرأة الميزابية ترسم في ليلة زفافها خطا بالزعفران يمتد من الجبهة إلى قمة الأنف يسمى \"أمول\" ولعله تحريف لاسم الإله القديم ورمز باق من آثار الرحلة الطويلة. لقد اختاروا الصحراء موطنا لهم. واكتسبوا جزءا من صلابتها. عرفوا مسارات النجم. وآمنوا بالأسرار الخفية داخل المغارات. واكتشفوا بأحاسيسهم الغامضة فوران الينابيع تحت الرمل الجاف. هجروا ذاكرة الخصب القديمة، وصنعوا رموزا جديدة، النخلة المقدسة، والبئر التي تنقذهم، ودوامات الرمل التي يثيرها مرور جماعات الجن، وأرواح الأسلاف التي تسكن المغارات. عاشوا على الرعي لذلك لم يكفوا عن الرحيل بحثا عن الكلأ والماء. أصبحوا جماعات بالغة الخصوصية، لا يستطيعون المراهنة على مكان واحد.. أو قدر واحد.
ولكن بني مصعب اختـاروا الاستقرار أخيرا وسط شبكة الجبال المتداخلة. اختاروا أن يطوعوا الأرض.. أن يحفروا الآبار بدلا من أن يعثروا عليها بالمصادفة، وأن يجمعوا مياه الأمطار، ويستبدلوا ببيوت الشعر بيوتا من الحجر، وأن يحولوا النخلة الواحدة إلى بساتين من النخيل، إنه قانون الإرادة الإنسانية الذي ما زال سائدا في مدينة العطف كان لنا موعد مع أقطاب مجلس الغرابة حيث نشاهد نشاطا آخر لهمم وذلك في مجال التعليم الحر. ولكن كان علينا أن نسأل الشيخ إسماعيل عضو المجلس عن هذا المجلس الذي يتردد اسمه في كل مكان نذهب إليه.. لقد تضاءل الحلم.. وبعد أن كانت هناك دولة أصيح هناك واد ضيق. لم يعد هناك مجال لإقامة خليفة أو أمير. وفي وسط هذه العزلة كان لا بد من وجود من يحكم، لذلك فقد حكم المسجد هذا المجتمع منذ القرن السادس الهجري.
هكذا بدأ تكون حلقة الغرابة - أي الذين غربوا عن الدنيا بما فيها من أطماع شخصية ووهبوا أنفسهم لخدمة الآخرين. أنها حلقة مكونة من أثنى عشر شخصا: إمام المسجد والمؤذن واثنين وكيلين على الماء، وتتوزع وسط الباقيين بقية المهام الاجتماعية والدينية. إنهم يحتلون مكانة الإمام الأعظم، ويختارون من بين الأصلح والأكثر ورعا من العشيرة. ويجب أن يكون صاحب مهنة يتكسب منها حتى تكتسب أحكامه نوعا من النزاهة والتعفف. ويقول أحد شيوخهم أبو عمار عبدالكافي محددا هذه الشروط: لا يدخل أحد حلقة الغرابة حتى تكون فيه خصال أربع. الأولى أن يكون كيسا أديبا، والثانية أن يكون مثمرا في طلب العلم. والثالثة ألا يكثر من دخول الأسواق. والرابعة أن يغسل جسده بالماء ويغسل قلبه من الغش والكبر.
وقد كان لرئيس الحلقة وأمامها مهام وصلاحيات كثيرة منها تدبير الحرب ووسـائل الدفاع وعقد المعاهدات والأحلاف. وقد اقتصر دوره الآن- مع ظهور الدولة الحديثة - على الشئون الاجتماعية فالمجلس يفصل بين الخصوم في كل أنواع الخلافات. ويترافع كل خصم عن قضيته في المسجد بين صلاتي الظهر والعصر. وحكم المجلس نافذ وواجب الطاعة. كذلك يشرف الأعضاء على المنافع العامة المياه والسدود. ويقوم مجلس الغرابة بدور مهم في التعليم، فقد أنشأ نظام التعليم الحر الذي يوازي النظام الدولي الرسمي. والمدرسة التي قمنا بزيارتها في مدينة العطف كانت مدرسة كبيرة وحديثة مزودة بكل الوسائل التعليمية المعاصرة. والهدف منها هو تعليم التلاميذ جرعة كبيرة من الفكر الديني التابع للمذهب الإباضي في مواجهة المدارس التي تخضع للنظام الفرنسي في التعليم. ولكن مع التطور بدأ الكثير من الطلبة الذكور يتجهون إلى التعليم الرسمي لأنه يفتح أمامهم الطريق إلى الجامعة والترقي في الوظائف الحكومية. ووافق المجلس على ذلك بشرط أن يستيقظ التلاميذ ساعتين مبكرا قبل موعد المدرسة.. ويبقوا ساعتين أخرين بعد الموعد لكي يدرسوا المزيد من علوم القرآن والفكر الإباضي. أما البنات فإنهن في معظمهن يتجهن إلى التعليم الحر حيث إن أقساما كبيرة من بني ميزاب ترى أن تعليم البنت يجب أن يقتصر على الحياكة وأمور المنزل بعيدا عن المدارس الرسمية التي يوجد فيها اختلاط وتوجد فيها أيضا حصص للألعاب ترتدي البنات فيها ملابس غير لائقة.
أحد الشباب حدثني أن هذا الفكر في طريقه إلى التغير وأنه قد ذهب بابنته إلى مدارس التعليم الرسمي وقد امتعض أبوه منه كثيرا وترك له مرغما حرية الاختيار. كذلك وضع مجلس الغرابة نظاما دقيقا لتنظيم الزواج.. فهو يعلن في كل عام عن مواعيد الأعراس الجماعية حيث يقام أكثر من عرس في ليلة واحدة وتقام مأدبة واحدة تضم كل المدعوين توفيرا للنفقات. والمهر محدد من المجلس. وكذلك أثاث العرس والثياب والهدايا والذهب.. لا أحد ينفق ببذخ. ولا أحد يتعدى الحدود على الآخرين. وإذا أراد أي عريس أن يأتي لعروسه بأي هدية زائدة لا يتم ذلك إلا بعد ثلاثة أشهر من إتمام الزفاف. المهم أن يتساوى مظهر الزفاف بين الغني والفقير.
المرأة.. الحبل السري للوطن
والمرأة برغم أنها خفية لا تظهر إلا ملتفة في عباءة بيضاء وتعبر الطريق مسرعة كأنها تتمنى ألا توجد. مع ذلك فهي تمثل العصب الأساسي للحياة في ميزاب. ولولا المشقة التي تحملتها ما استمرت الحياة. إن لمجلس الغرابة الرجالي مجلسا آخر موازيا له ومكوناً من النساء ليهتم بشئون المرأة في الحياة والموت. وتستطيع أن تحس بوجود المرأة القوي والفعال داخل البيت الميزابي. فهي لا تكتفي بتربية الأطفال ورعاية المنزل. ولكن أصابعها لا تكف عن العمل. أنها تقيم نولها في أحد أركان المسجد وتنسج الأبسطة والسجاجيد. والبساط أو الزرابية التي تنسجها ليست شيئا عفويا.. وكأنها رسالة مليئة بالرموز التي يمكن قراءتها تكتبها أم لابنتها. وبرغم أن الميزابية هم شعب رحال.. وتجار مهرة.. وكثيرو السفر سعيا وراء الرزق فإن مجلس الغرابة أصدر قرارا يمنع فيه أي ميزابي من اصطحاب زوجته وأولاده إلى الخارج. لأن بقاء الزوجة داخل الوادي يجعل الرجل دائما مرتبطا بوطنه يحن إليه ويعود كلما أتيحت له الفرصة ليوظف أمواله في العقار والزراعة أما إذا اصطحب زوجته فسوف تروق له الحياة ويقل شوقه للعودة. لقد أصبحت المرأة هي رباط الوطن وحبله السري الخفي. وتمتد سلطة مجلس الغرابة للمرأة المطلقة والأرملة وللأطفال اليتامى. إنه يوكل بهم دائما من يرعاهم. وهناك مال مرصود دائما لهذه الأغراض.
ولا تقتصر سلطة المجلس على الوادي فقط ولأن هذا الأسلوب التكافلي قد أصبح طريقة للحياة فقد انتقل معهم إلى الخارج. وفي كل مدينة يلجأ إليها \"الميزابية للعمل أو التجارة يقيمون تجمعهم، وينشئون صندوق التضامن الذي يعين أي وافد جديد حتى يجد عملا. فالميزابي لا يقيم في فندق عندما يسافر إلى بلد آخر ولكنه يقيم في بيوت الميزابية. وتقوم عشيرته الموجودة في المدينة بتدبير أمور عمله وإعاشته.
ولكن ماذا يحدث لمن يخالف تعاليم مجلس الغرابة؟ النبذ الاجتماعي. نوع من السجن غير المرئي يحيط بالمذنب برغم أنه لا يوجد في الوادي سجن بالمعنى الواقعي. إن إمام المجلس يقف أمام المصلين ويعلن التبرؤ من كل من يخالف التعاليم أو يرتكب جرماً أو يقترف سرقة أو يظلم زوجة أو يأكل مال يتيم أو يغش في بضاعته أو يخون أمانة. وهكذا يتم الإعلان على رءوس الأشهاد أن المسلمين كلهم براء منه فلا يجالس ولا يشارك في فرح أو في مأتم ولا يقبل البيع والشراء منه. وأحيانا ينفي خارج القبيلة إذا كان سارقاً وتكرر جرمه. ولا يعود قبل أن يشهد شهود عدول أنه سار حتى رأى البحر. وإذا مات المذنب قبل توبته لا يشرف مجلس الغرابة على غسله ودفنه ولكن يوكل أحد العوام للقيام بذلك. والذي يشعر بأن هناك ظلما واقعا عليه يذهب إلى المسجد ليمنع المصلين من الصلاة قبل أن يأخذوا له حقه أو يتعهدوا بذلك.
هل هو نوع من المدينة الفاضلة.. إن أهل ميزاب ينفون ذلك. إنهم يحاولون فقط اقتناص كل ما في الإنسان من فضائل ومن قوة داخلية كامنة تساعدهم على مقاومة الطبيعة والعزلة والاختلاف. والنظام التكافلي بين الأفراد يمنحهم قوة إضافية وهم يفعلون ذلك في كل شيء تقريبا. حتى مع انتشار مظاهر الحضارة الحديثة لم يكن هناك مانع من أن يتشارك أكثر من بيت في طبق فضائي واحد يرون به المحطات التلفزيونية السابحة في الفضاء ويتحدثون معاً في مجالسهم عن \"ليالي الحلمية\" وغير ذلك من المسلسلات.
ثقافة النخلة والبئر
\"يقول الرجل للنخلة: هل تريدين أن أرويك اليوم؟ تقول النخلة: لا.. يقول لها: هل تريدين أن أشذب سعفك اليوم؟ تقول النخلة: لا. يقول لها: هل تريدين أن أسوي أليافك اليوم؟ تقول النخلة: لا.. يقول لها: ماذا تريدين إذن؟ تقول النخلة: أن تزورني مرة في اليوم\".
خبرة الصحراء تعلن عن نفسها في عدد من الحكايات والمؤثرات. خبرة ليست مكتوبة ولكنها محفورة داخل أغوار النفس. قصص متداولة حول مقاومة الفيضانات وحفر الآبار ومواجهة عواصف الرمل وغارات البدو. المجاعات والأوبئة وأيام الجفاف. تراث من التحدي واكتشاف الذات أمام طبيعة من السهل استثارتها ومن الصعب التغلب عليها. النخلة هي الصديقة الأولى وسط صحراء واسعة ومعادية. هي التي تربط ساكنها بالمكان وتعطيه الأمل في مواصلة الحياة. في كل نواة يوجد خاتم سليمان. لأن سليمان هو أول من دعا لها بالبركة وسماها \"عمتنا\" لذا فإن قطع النخل محرم لأي سبب من الأسباب. والثقافة المبنية حول النخلة بالغة العراقة. عمرها من عمر النخلة الذي يبلغ ألف عام. وعندما تنقل فسيلة نخلة من جوار أمها فإن ذلك يتم وسط طقوس خاصة تردد فيها الأدعية ويتم الفصل بينهما من مكان معين كأنها حبل سري. ولادة حقيقية بكل ما فيها من طقوس الميلاد.
البئر والنخلة قرينان، فالنخلة حين تشرع سعفها تدل على المكان الخفي للبئر. فجذورها الممتدة تشي بالماء المخبوء. وعندما تحفر البئر توهب لها النخلة. إن ثمرها يباع، من حصيلته تتم صيانة البئر والمحافظة عليها.
وقصص حفر الآبار في بني ميزاب هي ملاحم حقيقية، قام بها أناس لا ينتمون إلى الواقع كثيراً. لقد قابلت حفيد أحد هؤلاء الحفارين. وحكى لي كثيرا عن هؤلاء الرجال الذين كانوا يهبطون وسط الصخور على عمق 70 متراً ثم تتقطع بهم الحبال أو تشتعل فتائل البارود رغما عنهم فيطفئونها بأجسادهم أو أن تنهال عليهم الأحجار والرمال. لقد دفعوا من حياتهم ثمن الحياة لهذا الوادي الشحيح المياه وحفروا بوسائلهم البدائية أكثر من ثلاثة آلاف بئر يتجاوز عمق الكثير منها 80 مترا. زرعـوا ما يزيد على المائتي ألف نخلة وتحتها البقول والفواكه وحولوا الرقعة الصغيرة إلى واحات حقيقية في وجه الريح الموسمية المحملة بالرمال. وتقول إحدى الحكايات إن أهالي الوادي قد سدوا الآبار في وجه الطيور حتى لا تشرب من المياه لمدة سبعة أيام فعاقبهم الله بالجفاف لمدة سبعة أعوام وكان عليهم أن يتوجهوا إلى الله بالدعاء قالبين الأيدي حتى يقلب الله السماء فتأتي بالمطر.
المطر هو المشكلة الحقيقية وربما الأزلية لأهالي الوادي. ومهما رأوا من سحب فإنهم يظلون دائما على حافة الأمل واليأس حتى تسقط أولى القطرات. فقد تتعاقب السنون دون قطرة واحدة من المطر. وقد يهطل كالطوفان فتتجمع السيول الكاسحة على رءوس الوديان. من أجل ذلك وضعوا نظاما دقيقا للري مازال قائما حتى الآن. بنوا السدود على ارتفاعات محسوبة بدقة لحجز السيول وإعطاء التربة الفرصة حتى تتشربها وتزيد من منسوب المياه الجوفية، وحفروا القنوات الطويلة الغائرة تحت الأرض التي تتفرع حتى تحمل المياه إلى كل البساتين المختلفة. نظام يشبه الأفلاج في سلطنة عمان ولكنه أكثر تعقيداً. وتوزيع المياه يخضع أيضا لقوانين مجلس الغرابة. فهم يحصون عدد النخل في كل بستان ويسمحون بصنع فتحة يدخل منها الماء متناسبة مع هذا العدد تسد بواسطة مجرى له حجم معين. ومن المحظور التصرف في الفتحة أو حجم الحجر بأي حال من الأحوال دون الرجوع إلى المجلس. ومن يأخذ أكثر من حقه من الماء يعاقب معاقبة السارق. يغرم وقد ينفى عن الوادي بأكمله.
للوادي مشاكله وأحزانه الخاصة بالنسبة لهذه المياه كما يشرح لنا المهندس زهير.. \"فبرغم هذا النظام الدقيق فإن الوادي يعاني أمراض العصر الحديث. لقد أدى اكتشاف البترول في أماكن قريبة من الوادي إلى تدفق أعداد كبيرة من الناس. وكذلك تلوثت الطبقة السطحية من المياه الجوفية. كما أن المياه العميقة آخذة في التناقص فقد هبطت إلى عمق أربعة مترات مما يهدد بزيادة ملوحتها. وكذلك فإن مخلفات المحروقات والمنطقة الصناعية التي ترمى في الشعاب قد أثرت في الحياة البرية فهربت الغزلان وغيرها من الحيوانات البرية...\" والحل كما يراه المهندس زهير هو حفر آبار المياه العميقة والقيام بمشروع جديد للمجاري وهو المشروع الجديد الذي تشرف عليه هيئة اليونسكو ويهدف إلى تنمية الوادي مع المحافظة على طابعه التقليدي.
من الاحتلال إلى الإرهاب
يقول الطبيب فليسي في روايته شبه التسجيلية \"عنف وعنفوان\" التي تحكي وقائع الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي واصفا المفدى زكريا داخل السجن \"كان عمره آنذاك حوالي الخامسة والأربعين. كان قوي البنية، قصير القامة حسير النظر، يضع نظارات لم يتخل عنها قط. وكانت الأحاديث تطول معه إلى ما لا نهاية. كان مفدى زكريا يعيد كل شيء إلى بني يزجن، حيث ولد. كان يشعر بالشوق إلى بني يزجن بشكل مبالغ فيه. وعندما يتحدث عنها كانت عيناه تغرورقان بالدموع. كان مفدى زكريا يفرض فوق ذلك الاحترام. كان ذا شخصية لاذعة، وهذا الوجه الصارم للمفدى كان يعجب الجميع.\"
كان بيته بسيطا وقبره أكثر بساطة. موضوعا فوقه المحبرة التي كان يستخدمها في الكتابة. وقفنا أمامه وأصداء شعره تتردد في أعماقنا. هذه الأشياء البسيطة لا تنبئ عن الحياة العريضة التي عاشها هذا الشاعر الكبير. منذ أن كتب \"من جبالنا طلع صوت الأحرار\" وألف إلياذة الجزائر التي تحكي تاريخ الشعب الجزائري في ألف بيت وبيت وهو مناضل حتى النخاع. وهب شعره كله لقضية الاستقلال. ولد عام 1913 في بني يزجن وتلقى فيها تعليمه الأولي. ثم انتقل إلى تونس وفيها بدأ نضاله السياسي حين انضم إلى حزب نجمة إفريقيا، وسال شعره متدفقا. ودخل السجن أكثر من مرة. ومنع من العودة إلى وادي ميزاب أكثر من مرة أيضا. وتنقل كثيرا ما بين مصر وتونس والمغرب. ومات بعيدا في الدار البيضاء فهل اختار هذا المنفى.. أم أرغم عليه؟.. المهم أن جسده في النهاية عاد إلى وادي ميزاب الذي حرم عليه وهو حي.
ان المفدى زكريا لم يكتشف نفسه فقط خلال معركة الاستقلال الطويلة. ولكن وادي ميزاب بأكمله اكتشف نفسه أيضا. لقد أدركوا في أيون هذه المعركة أنهم ليسوا مكانا قصيا تعزلهم الصحراء الواسعة والمذهب المختلف. لقد احتل الفرنسيون الساحل الشمالي وظلوا على نفس الدرجة من التباعد. ثم بدأ الفرنسيون يطبقون على الصحراء من حولهم. يقطعون طرق القوافل، ويمنعون المدن المتعاملة معهم. حاولوا أن يعقدوا معاهدة للحماية. نصفها إذعان ونصفها استقلال ولكنهم في النهاية لم ينجوا من السقوط في قبضة فرنسا في عام 1882 ووجدوا أنفسهم في أتون الاحتلال يتجرعون نفس الكأس التي تتجرعها الجزائر نفسها. عانوا اقتحامه لديارهم. والتجنيد الإجباري لشبابهم والفتن الداخلية بين طوائفهم.
لقد وحد الاحتلال بين أطراف الأرض. وفي محاولة فرنسا طمس الهوية بزغت هوية أخرى مضادة. ولعله نفس الموقف مع الفارق يعيشه وادي ميزاب اليوم. لقد مات المفدي زكريا غريبا في الدار البيضاء. ومات رفيقه الطيب فليسي في شوارع الجزائر على أيدي جماعات لإرهاب التي تجتاح الجزائر الآن مثل الوباء. وإذا لم يكن وادي ميزاب في الماضي بعيدا عن وطأة الاحتلال فهو ليس بعيدا اليوم عن قضايا الإرهاب.. فقبل أن نشرع في رحلتنا مباشرة تناهى إلينا اغتيال ثلاثة من العاملين الأجانب في المنطقة الصناعية القريبة من الوادي. أحدهم كان كنديا والآخر إنجليزيا والثالث تونسيا. كان ثلاثتهم يعملون في إحدى شركات المحروقات. ولم يكن هناك أي سبب أو مبرر واضح لهذا الاغتيال سوى إثبات أن يد الإرهاب يمكنها أن تطول أي مكان. وفي الوادي عرفنا أن أول عملية إرهابية قد تمت في مدينة أغواط على بعد 200 كيلو متر من غرداية حيث قتل الإرهابيون حوالي 16 من رجال الأمن دفعة واحدة ثم حاولوا الفرار والاختباء في الوادي دون أن يتمكنوا من ذلك. ففي وادي ميزاب نظام خاص للحراسة يعتمد على المتطوعين من أبنائها. كل واحد، عليه يوم أسبوعي للحراسة. وعندما كنا عائدين متأخرين في إحدى الأمسيات شاهدنا حراس الوادي وكل اثنين منهما يسيران معا يمسكان العصى ومصابيح الضوء. لقد أرسل الإرهابيون تهديدا إلى بني ميزاب حتى يكفوا عن هذا النظام الذي يمكن أن يكشف تحركاتهم ولكن أهالي الوادي لم يستجيبوا لهذا التهديد.. فهل يستطيعون النجاة من الضربات المضادة؟.
صناعة الصحراء
ووادي ميزاب.. برغم كل شيء يعيش إيقاع العصر. إن الميزابية الذين احترفوا ركوب الصحراء والرحيل خلف الرزق قد أدركوا أن حدود العالم لا تنحصر بين النخلة والبئر. لذلك فكروا في استثمار نقود التجارة في المشروعات الصناعية. وهكذا بدأت إقامة أول منطقة صناعية على بعد 10 كيلو مترات من الوادي. الحاج أدريس كان أول من أقام مصنعا للنسيج في هذه المنطقة وتبعه آخرون أخذوا يبحثون عن مكان لهم وسط الرمال والصخور. بدأت المنطقة الصناعية في عام 1970 ولكنها لم تشهد التوسع إلا مع الانفتاح الاقتصادي الجزائري مع بدايات عام 1985 حيث انهالت الدولة تقدم الأرض المجهزة والكهرباء وإعفاء ضريبيا لمدة خمس سنوات. والمنطقة الصناعية في وادي ميزاب هي الثانية من نوعها على مستوى الجزائر وتحتوي على 120 صناعة منها النسيج والزجاج والطباعة والسجاد وقطع غيار السيارات وهم يصدرون إلى ليبيا وتونس ويحلمون بالتصدير إلى دول الخليج العربي. لقد قلب بنو ميزاب المعادلة أخيرا وبعد أن كانوا يأخذون الأموال ليستثمروها في الشمال عادوا بها ليقيموا للمرة الأولى صناعة الصحراء. فهل يمكن أن ينجو الوادي من هذه الطفرة في التحديث.. وهل يمكن أن تبقى العلاقات الاجتماعية على حالها.. ويظل الطابع التقليدي للوادي، أم أن الصناعة بكل ما تستتبعه من متغيرات يمكن أن تدفع بالوادي إلى منحى جديد وتنهي عزلته إلى الأبد؟.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمنقول الكترونيا نسخ ولصق من مجلة العربي العدد
لعدد 445 - 1995/12 - استطلاعات - محمد المنسي قنديل
أرسل أسئلتك الآن
البريد الإلكتروني الآتي :
ALFAROOQ752003@YAHOO.COM
البريد الإلكتروني الآتي :
ALFAROOQ752003@YAHOO.COM
0 التعليقات:
إرسال تعليق