عندما تعثر فجأة على قطعة من التاريخ الحى ,لا تملك سوى ان تحتفي بها وتتأملها وخاصة اذا كانت مثل مدن وأدى مزاب في قلب الصحراء الجزائرية ,عندما ترى نظاما اجتماعيا دقيقا , وتشاهد الاهالى بلحاهم الطويلة , وتقاليدهم وعاداتهم السائدة , وترى طراز عمارتهم وتخطيط مدنهم , فكأنك تطل على القرن الخامس الهجرى ..
وما اشد ما تغرى على التجوال والبحث والتقصي ....
قادني إلى هذه الجولة كلمات قرأتها للكاتب الفرنسي شار جوليان في كتابه حول شمال افريقيا ..
تقول ..((اعترض الحكم العربي في المغرب تحد من خلال الإسلام , عندما انحاز البربر في القرنين الثامن والتاسع إلى شقاق يهدف إلى المساواة , ويدعوا إلى اختيار الخليفة من جموع المسلمين بصرف النظر عن اى ميزة عرقية , ودامت الثورة ما يزيد عن قرنين , ولم يتم التغلب عليها سوى بعد عام 375هـ , عندما تشتت البقية الباقية منهم في صحراء الجزائر وتونس بعد انهيار مملكة تاهرت سنة 909م.
وبقى اليوم احفادهم يعيشون جماعات منكمشة مغلقة في جزيرة جربة وفى ورقلة وخاصة في مزاب التى تقوم فيها مدن غاردايه ومليكة وبنى يزقن الطاهرة ذات الصوامع العارية من كل زخرف )).
وكانت هذه الكلمات بداية رحلة ذهنية بيت الكتب قادت إلى جولة وادي مزاب , تبينت خلالها مدى اقتراب كلمات الكاتب الفرنساوى من الحقيقة ,وقمت برحلة شيقة مليئة بالفن والسحر والتاريخ , شاهدت خلالها عالما بأكمله من التاريخ الحي .
لم يكن الوصول ال وادى مزاب سهلا , بل يشبه سباق تخطى الحواجز , وانتهت متاعبنا لدى وصولنا
إلى مطار غاردايه الذي يبعد عن العاصمة نحو 600كيلو متر في قلب الصحراء , وفى الطريق من المطار إلى البلد ومنذ الخطوات الاولى من رحلتنا , اخذنا بالمكان وما يحمله من اءيحات جمالية وتاريخية .
يمتد امامك وادى,, مزاب وترى صورة بانورامية للوادى ومدنه القائمة فوق التلال يحيط بها اللون الاخضر لاشجار النخيل في خلفية المكان على امتداد الوادى , تظهر بوضوح ثلاث مدن فوق ثلاث تلال , اقيمت بنظام دقيق ,في اعلى قمة التل يقوم الجامع بصومعته المربعة ذات الطراز الخاص – اى المنارة كما يطلق عليها في المغرب العربي -, وهى على نفس اقدم المساجد التى بقيت على حالها في الجزيرة العربية , وهو مسجد سيدنا عمر في منطقة الجوف , تتحلق حول الجامع بيوت الاهالى ,كل حلقة بارتفاع واحد وطراز معمارى خاص , والعمارة هنا اكثر ماتكون شبها بعمارة شيئام وسيئون في حضر موت باليمن الديمقراطية , ويغلب على المدينة المزابية اللونان الازرق والابيض , وعندما تصل المدينة إلى نهاية التل يحيطها سور من حوله الأبراج على مسافات متساوية .
وامام هذا المشهد أتذكر فجأة آلة الزمن تلك الحيلة التي أخذها خيال السينمائيين , والتي تعود بالمشاهد إلى اى مرحلة من مراحل التاريخ تنقل أحداثه ومشاهده , ولا يفوتها طراز المباني ولا نوع الازياء ومظاهر الحياة وطعمها الخاص , فهنا يمكن الاستغناء عنها جميعا عندما تشاهد التاريخ مجسدا أمامك بكل تفاصيله.
وقد ساهم في إقامة هذا الوادي ومدنه كل من العقيدة والبيئة والتاريخ ... ففي هذا المكان البعيد عن العمران , والذي يقع بين جبال جرداء صخرية , تكونت على مر الأيام هذه المدن في بطء وصبر , وهى تبدوا من بعيد وكأنها خلية نحل في التنسيق والنظام والدقة .
ويبعد هذا الوادى عن المعمور حوالى 300كيلو متر – اى عن الاغواط اقرب المدن اليه - , ويقطنه 100000الف نسمة , وساهمت عزلته هذه في تكوين طابعه الخاص , فالوديان في الصحراء مثل الجزر في البحار كثيرا ما تضم وتحافظ على بقايا التاريخ الحى ,وساهمت حالة التوجس والخوف التى عاشها هذا المجتمع في الايغال بالتمسك بالماضى , مما امده بهذه الطاقة التاريخية على الدوام والاستمرار , وشحذ الذاكرة التاريخية لاهل مزاب وجعلها حادة واضحة ....
جاءت إقامتنا في غارداية في فندق يطلق عليه اسم(( الرستميون)) , أقيم على الطراز العربي وصممه احد المعماريين الفرنسيين مكان قلعة فرنسية قديمة كانت تحتل موقعا استراتيجيا , وتشرف على غاردايه, عاصمة المزاب , واكثر مدنه تقبلا للتغيير , وبقدر ما فتحت غاردايه ابوابها للغرباء , بقيت المدن المزابية الأخرى موصدة الأبواب , وكأن غادايه قد اختارت أن تدفع الضريبة عنهم , فاتسعت وتمددت خارج الاسوار , وهدت محلات حديثة وبنوكا ومكاتب حكومية وفناددق , وبها مقر حزب جبهة التحرير ( الحزب الحاكم ) , ويسكنها رجال الادارة والعاملون في كل المشاريع الجديدة ..
يزدحم الفندق بالسياح , واغلبهم من الفرنسيين , يتوقفون في غاردايه اهم محطاتهم في الطريق الذي يصل من العاصمة إلى تمنراست بلد جبال الحجار ( الهوكار ) والطوارق (2000كيلو متر ) , عندما يسلكون الطريق الوطنى رقم 1, او طريق الوحدة الافريقية – اهم مشاريع الجزائر والذى بداء عام 73 وينتظر ان يكتمل خلال عام واحد – وهو يحول الصحراء من نقطة فصل إلى نقطة اتصال مع الدول الافريقية جنوب الصحراء .
وما زالت الصحراء الجزائرية اهم التحديات التى واجهت الجزائر , فاستهدف المستعمر الفرنسى فصل الصحراء التى تبلغ مساحتها اربعة ملايين ونصف مليون كيلو متر مربع والتى يسكنها عدد قليل من السكان المبعثرين في واحات متباعدة , وخضعت الصحراء لادارة الجيش الفرنسى مباشرة , وجعل لها وضعا قانونيا خاصا , بل واجرت فرنسا تجاربها النووية فيها , اما منطقة الساحل إلى تمثل عشر مساحة الجزائر فقد سكنها المستوطنون الفرنسيون ( الكولون ) واستأثرت بكل المشاريع الفرنسية .
وكان الطريق الذي يقطع الصحراء هو الرد الوطنى على فصل الصحراء , ويصل هذا الطريق إلى كل من النيجر ومالى على شكل حرف (y) مقلوبة , ويعيد طريق القوافل القديم إلى ((تمبكتو )) ويساهم من جديد في نقل البضائع والأفكار , ويقدم لكل من النيجر ومالى طريقا إلى البحار المفتوحة وخاصة انه ليس لاى منهما مرافىء.
وبالفعل ساهم ما انجز من الطريق في إقامة العديد من المشاريع الصناعية الهامة , كما وضعت الخطط لتوطين البدو وقيام حياة جديدة في الصحراء .
يتحدث السياح في الفندق بشاعرية عن الصحراء , قال رجل فرنسي في خريف العمر : ((تبحث عن الصحراء عما في داخلك , فهي لا تكشف أسرارها لكل من يرتادها , بل ولا كنوزها ولا أعاجيبها )).
وقالت فتاة رشيقة تصحبه ..(( ما أجمل ليل الصحراء , فالسماء والقمر والنجوم لها طابع وميزة لا تراها على هذه الصورة في اى مكان من العالم )).
وعاد الرجل يصف لحظة وصوله إلى الوادى قائلا : (( فجأة تظهر الواحة بلونها الأخضر مع خيوط أشعة الشمس الذهبية , وكلما اقتربنا وظهرت تفاصيل اكثر , رأينا المدن المزابية وكأنها مدن تاريخية مسحورة في احدى روايات الف ليلة وليلة )), ويستطرد قائلا (( ان الرحلة التي تقطعها السيارة تستغرق أسبوعين من العاصمة حتى تامنراست تمثل خلالها الواحة لحظة الوصول إلى الحياة , والاتصال بالعالم الخارجي وهى في هذا تشبه مكاتب التلغراف التي تصلك بالعالم في فضاء لانهائي )).
٭٭ الرستميون
اسم الفندق وموقعه له ايحاء خاص , فاسمه زء من التاريخ الحى , ومن هذا الفندق نطل على التاريخ , فهو يحمل اسم حكام دولة بنى رستم الاباضية , والتى تشكل قصة قيامها وانهيارها في وجدان ابناء الوادى الحلم الضائع والجنة المفقودة .
وتكشف صفحات التاريخ الكثير مما يجرى حولنا فالوادى وسكانه من بقايا الدولة الرستمية التى قامت في الماضى , وما زال اهل الوادى متمسكون بكل ما تمثله دولتهم القديمة , وقد استمرت هذه الدولة حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجرى , وكانت(( تاهرت)) هى عاصمة الدولة ,وامتدت لتشمل المناطق الداخلية , وحدودها الاراضى الوعرة والصحراء الشاسعة , ووصلت حتى مشارف طرابلس الغرب.
والآن حان الوقت لنكمل جولتنا في المدن الميزابية – وهى في الواقع قرى اكثر منها مدنا - , يشدنى العمل الشاق الذي بذل وما يحمله الوادى من لمسات الفن والجمال , ففى هذا الركن المفقود من الصحراء تتوزع مدن مزاب الخمس وهى غارداليه ( غار- دايه ) ومليكه( اسم ابنة احد الحكام ) والعطوف وبنى يزقن وبونوة في دائرة لا يزيد نصف قطرها عن سبعة اميال فوق خمس تلال , (( وهذه المدن نشأت في فترات زمنية متتالية , وعندما اكتملت وضاق الوادى بسكانه , اقيمت المدينتان هما القرارة وبريان , تبعد الاولى عن غاردايه مائة كيلو متر والثانية 48 كيلو متر , وتضاف اليهما متليلى وهى مدينة مشتركة يتعايش داخلها في انسجام كامل كل من ابناء المذهب المالكى وامذهب الاباضى ..
تشاهد امامك قرى بعمارتها وازقتها واسوارها وابراجها وعادات اهلها وتقاليدهم ولباسهم المميز – العمة والسروال – ولحاهم الطويلة وكأنهم استمروا هكذا لم يتغيروا منذ ما يقارب التسعمائة عام ويخيل اليك انك ترى ذات البشر القدماء..
٭٭محو الامية
ولا يخرجك من التاريخ سوى احد الملتحين بسرواله التقليدى يمرق من جانبك بدراجته البخارية ثم بعض السيارات الحديثة التى تقف عند الاسوار , والطرق المرصوفة التى تنقلك من مدينة إلى اخرى ,فما اصعب مقاومة رياح التغيير والحاح العصرية ..
في هذا المجتمع يزاد كبار السن بلحاهم الطويلة البيضاء , وتكاد تختفى المرأة من ازقته , مجتمع لا تجد فيه اميا واحدا , بل ويندر ان تجد فيه من لا يتحدث العربية بطلاقة إلى جانب اللغة البربرية المحلية , ولديه نظامه الخاص في التكافل الاجتماعى , ونظامه في حل الخلافات التى تظهر بين افراده , مجتمع يأخذ نفسه بالشدة ويتمسك بتعاليم الدين الحنيف .
وساهم الماضى في تمسك افراد هذا المجتمع يكل ما فروا من اجله إلى هذه المنطقة النائية ,مما يؤكد ان الاضطهاد والملاحقة لا يقضيان ابدا على الفكرة بل يساهمان في الحفاظ عليها والتمسك بها .
ومع بداية جولتى حذرنى صاحبي بقوله ( ان العديد من معتقداتهم تعتبر من خصوصياتهم التى لا يرحبون بالكشف عنها , ولا يرحبون بالغرباء كثيرا , وعندما توجه سؤالا لاحدهم لا تتلقى الاجابة الا بعد استشارة شيخهم ...)), وعندما التقيت بعدد منهم وجدت الكس تماما , ولقيت منهم الحفاوة والترحيب , والرد على جميع استفساراتي , فالفارق لديهم كبير بين الأجنبي والعربي , بل لاحظت ان الكثيرين منهم يتابعون بشغف إحداث المشرق العربي , ويناقشون قضياه باهتمام بالغ .
وأكثر ما جذب اهتمامي بعد البشر ونظمهم معالم العمارة التي يؤكد الخبراء ان وأدى مزاب يضم المجموعة الاسلامية الهندسية الرئيسية في الصحراء , وأقدمها جميعا . وهى تتميز بدقة وجمال لا في المسكن فحسب بل وفى اعمال الرى والدفاع أيضا , واول ما يلفت النظر التناغم والانسجام بين التل والمبانى من فوقه , فهنا العمارة عمل أصيل وانعكاس تلقائي للبيئة والفكر والاجتماعي والتقاليد والوضع الاقتصادي .
قادنى صاحبي إلى جامع سيدى ابراهيم على مشارف بلدة العطوف اقدم المدن الزابية والتى تبعد عن غاردايه سبعة كيلو مترات وهو اول مسجد اقيم في مزاب إلى مكان اثرى , يبدوا شكل الجامع وكأن المعمارى الذي اقامه كان يطوع الحجر ويلاينه ويخرج منه هذا العمل الفنى الذي جمع بين الابداع والبساطة , فالمبنى على نفس شكل الحجر , ويتسق مع البيئة من حوله .
والجامع لديهم ليس مكان للعبادة فحسب بل ومركزا للحياة , يأخذ هذا الجامع بفكرة القبلة المفتوحة والتى تتجه إلى الفضاء الواسع , ولديهم تقليد فريد بالا يقوم في المدينة سوى جامع واحد , يتسع مع اتساع المدينة , فلا يقام سواه فوحدة الجامع تعنى وحدة المجتمع والعقيدة .
ويؤكد مرافقى مسؤلول الاثار في مزاب الفنان عبد الحميد عرعور : (( ان عددا كبيرا من المعماريين الفرنسيين يجدون هنا الكثير الذي يتعلمونه من هذا الجمال المعمارى المتكامل , وهذا الانسجام بين الوظيفة والشكل )).
ويقف وراء كل هذا الفن ذلك الإنسان الذي عمل بيديه المجردتين في صراعه الطويل مع البيئة ومواد البناء , لكي يتمخض من هذا الصراع ذلك الجمال المعماري القائم , ويأتي جمال الشكل من التوافق والتوازن الذي يعبر عن الوحدة والمساواة في ظل الأيمان , وترى هنا كيف تمثل الزخرفة الفطرية القديمة جمالا باقيا , لم تصل إليه بعد التشكيلية المصطنعة الحديثة .
٭٭احد بيوت مزاب
من الصعب ان تدخل احد البيوت المزابية بلا سابق معرفة , بل ومن العسير ان تلتقط الصور لابناء مزاب الذين لا يزالون يعتقدون ان التصوير يخالف الاعراف والتقاليد ..
اخذنا مرافقنا إلى بيت مزابي قديم خارج الاسوار , يستأجره احد الفرنسيين المولعين بمزاب , مظهر البيت الخارجى بسيط لكنه متناسق , شيد وفق احتياجات المعيشة اليومية ولمسايرة جميع التقلبات المناخية على مدار فصول السنة , وتلحظ درجة عالية من الانسجام بين مكوناته الاساسية , وكل خط فيه يعبر عن مصممه , وكما يقول المعمارى الدكتور حسن فتحى حول عمارة المزاب ...(( حركة اليد لا تصدر عن العقل وحده بل وعن الشعور أيضا , وذكاء الاصابع ذكاء روحى قبل كل شىء ))..
وهو كالثوب المحكم على صاحبه , ليس بفضفاض ولا ضيق , وهو ما تفتقده العمارة الحديثة , فيكتفى كل ما هو ضرورى دون ادخال ما يزيد عن الحاجة ..
ومن خصائص البيت المزابي انه بلا اثاث , والمبنى يوفى بكل الاحتياجات , وربما لان الوادى ليس به اخشاب سولى اعجاز النخيل , وليس للدار المزابية نوافذ بل فتحات في اعلى المبنى , وداخله انفصام كامل بين حياة الرجال والنساء , ويوجد في جناح الزوجة (( النول )) في مكان رطب تنسج عليه المرأة الزرابي واعمال الصوف المختلفة ..
وعندما سألت ساكنه الفرنسى : هل يوفى البيت بأحتياجاتك .. وقال ( بعد فترة من التعود وجدته اكثر راحة وانسجاما من كل اشكال العمارة الحديثة )).
ولكبار القوم في مزاب داران , احدهما في السهل بين اشجار النخيل والاخرى فوق الجبل داخل الاسوار , ويهاجر جموع السكان كل صيف إلى الغابات , إلى الجو الافضل وسبق اهل مزاب بهذا التقليد اهل زماننا , كما يوجد مسجد في الغابة وآخر في المدينة , ويميز مسجد المدينة الصومعة التى لاتوجد في مسجد الغابة .
في غابة النخيل
ــــــــــــــــــــــ
التلال – اقصد المدن – محاطة بغابات من النخيل من كل جانب , فقد كان اول ما اجه اليه السكان بعد استقرارهم في الوادى البحث عن مصادر المياه ثم العمل على خزنها , ثم تقسيمها والاستفادة منها قبل ان تضيع في الصحراء , وكان على بقايا الدولة الرستمية اللجوء إلى مكان يصعب على غيرهم الوصول اليه , ولايغرى ندرة الماء فيه سواهم من العابرين , واختاروا قلة المياه مقابل الامان , كانت هذه مجرد البداية التى سريعا ماتطورت بالجهد المبذول في توفير المياه وتخزينها , ولذلك ليس لسدودها وآبارها وقنواتها ونظام توزيع المياه بها مثل في نواحى الصحراء الجزائرية كلها , فقد ابتكروا اساليب معمارية خاصة , والسدود القائمة هنا يعود تاريخ بعضها إلى سبعمائة او ثمانمائة عام , وتهدف إلى تخزين وتحويل مجرى المياه في الوادى إلى كروم النخيل , اما السدود الباقية الواقعة في نهاية الوادى فتهدف إلى نشر المياه وتوزيعها على المنطقة كلها لملء الآبار القائمة , وتبقى الاقنية جافة طيلة ايام السنة , بأستثناء بعض ساعات تنهمر فيها الامطار , واذا زادت تتحول إلى تهديد خطير , وكثيرا ما دمرت السيول القرى الصحراوية , ولهذا يخالط فرح الاهالى بهطول المطر قلق من تحولها إلى سيول .
كما احتاج توزيع الكميات المحدودة من المياه إلى معرفة جيدة بالاراضى واساليب ريها , ووضع نظام صارم يحقق عدالة توزيعها , وشاهدنا في نهاية كل غابة عند ملتقى شعاب الاودية واليابسة , سواقى مبنية تلتقى فيها مياه الامطار , وتوزع فتمر في سواقى عريضة في مدخل كل مزرعة , وتمر من خلال فتحة تضيق تتسع حسب مساحة أراضها في دقة وعناية وعدالة , ثم تنتهي تلك السواقي لتصب خلف سد , بعد أن تمر وتتخل حدائق النخيل جميعها , وتعود وتغذى الآبار ويستخرجها الفلاح من البئر , ويروى بها نخيله لعام أو عامين آخرين وحتى يهطل المطر من جديد , وقد اسطاعوا ان يحفروا في الوادي ما يزيد عن أربعة آلاف بئر , يتراوح عمقها بين 25 و 60 مترا , وغرسوا 170 ألف نخلة .
وروى لى احد أبناء الوادي , وهو يقف أمام بئر عتيقة قائلا : (( هذه البئر حفرت على مدى ثلاثة قرون , بداء العمل الجد وواصله الابن ثم الحفيد وابن الحفيد وكانت الآلة المستخدمة في الحفر لأتزيد عن قرن غزال ..)) وهى كلمات بسيطة تعكس شعور أهل مزاب بالجهد المبذول في حفر الآبار على مدى عدة أجيال ..
بنى يزقن
ــــــــــــ
وتجولنا طويلا في بنى يزقن , نموذج للمدينة المزابية كما كانت عليه منذ القدم , المدينة على شكلها الهرمي ترتفع صومعة المسجد المربعة عند القمة ..
السور ما زال على حاله يحيط بالبلدة , ويصل ارتفاعه إلى نحو ثلاثة أمتار , وتدخل إلى البلدة عبر بوابة يقف أمامها حرس خاص , ويبلغ طول السور ألفين وخمسمائة متر , التضامن والحاجة الملحة للشعور بالأمن هي التي أقامته .
ولا يفوتك ان تلحظ بعدا هاما في كل أرجاء مدن مزاب ألا وهو الاهتمام البالغ بالاستعدادات الدفاعية ,ليس في الأبراج والأبواب فحسب , بل في تخطيط المدينة ذاتها فالأزقة ملتوية التواء لا تستطيع أن تتبين متى ينتهي , والأبراج بنيت من أربعة أو خمس طوابق حتى يتبين رجال الحراسة الخطر وينذروا به الاهالى , وتمتد هذه الابراج على طول نقط متقابلة تنقل صيحات التحذير من واحد إلى آخر , وتحولت مع الوقت إلى إشارات ضوئية ثم إلى طلقات البندقية , والأمن هنا لا يقتصر على غارات البدو , بل ومواجهة خطر السيول والفيضانات , فطلقة واحدة عندما تبداء السيول وطلقتان عند هجوم العدو .. أليست هذه مدنا للإنتاج والدفاع معا ؟ وهو ما ينبغي مراعاته أمام الأخطار المتلاحقة التي تواجه المدن العربية في عصرنا الراهن .
ممنوع التدخين
وتدلف إلى بنى يزقن من بوابتها الضخمة , وأول ما تشاهده لافتة تتضمن مجموعة من التحذيرات باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والفرنسية , تبداء بطلب الامتناع عن التدخين والامتناع عن تصوير المارة , وعدم دخول منازلهم , وارتداء ملابس(( الحياء )) وعد تقديم الحلويات للأطفال .
واتجول في المدينة التاريخية تشدنى وحدة الفكرة المعمارية وتناسقها , والتى قدمت الضرورى على الكمالى , ووحدة الفكر التى اقامت هذه العمارة والتى تؤكد انه اذا توجه المعماريون نحو البساطة وكانت البداية هى دراسة المنطقة التى يعملون بها , لتحققت هذه الوحدة , ويعود الجمال الغائب إلى العمارة الحديثة , البيوت متساوية الارتفاع تتراوح بين الوانها بين الابيض والازرق والاصفر , الابيض يعكس الحرارة , والازرق يحمى البيت من الحشرات خاصة البعوض والاصفر لون الصحراء.
وسيلة المواصلات هى هنا ركوب الحمير التى يمكنها وحدها الانتقال في هذه الازقة الضيقة , ويصادفك الباعة المتجولون ينتقلون في هذه الازقة وبضائعهم مكدسة فوق حميرهم , وحتى موزع البريد ينتقل في ازقة المدينة على حمار حكومى لتوزيع البريد.
وفى ساحة كبيرة سط المدينة يجلس الشيوخ بلحاهم البيضاء امام بيوتهم , ويعقد في هذه الساحة مزاد كل يوم ثلاثاء ساعة الغسق , يباع خلاله كل ما هو قديم , فمثلا هنا ينتقل الاناء او الموقد بين ايدى اكثر من اسرة خلال هذا المزاد الاسبوعى , مما يكشف الحس الاقتصادى والحرص الشديد الذي يتمتع به اهل الوادى , بل وعندما يشترك كل من في الساحة في المزد ..
ولا يمكن للاجنبى البقاء في بنى يزقن بعد الغروب , واذا صادف ولمحت احد نساء مزاب فن لتفات بعباءة بيضاء لايظهر منهن شىء , وحتى البئر تغطى كى تلجه المرأة ولا يتمكن الفضوليين من رؤيتها , وسمعت مثلا جزائريا يعبر عن كانة المرأة فى الوادي يقول(( للمزابى سبعة قبور وللمرأة قبر واحد)) ...رغم ان المرأة المزابية تتولى الأشراف على شؤون الأسرة فاغلب الرجال يسافرون بعيدا للعمل و للتجارة خارج الوادي , كما ساهمت المرأة إلى جانب الرجل في مواجهة الظروف التاريخية القاسية , وهى وحدها التى تصنع تلك المنسوجات الصوفية المختلفة , اذ تعيب التقاليد على الرجل المشاركة في نسجها , وتنتج مزاب اشكالا فنية بديعة , كانت تشتريها في الماضى القوافل , ويولع بها اليوم السياح الذين يدفعون فيها مبالغ طائلة .
٭٭حلقة العزابة
هذا عن مظاهر الحياة المختلفة التى لمستها في مدن مزاب , وهى لا تنفرد بالعادات والتقاليد والازياء فحسب , بل لديها نظام اجتماعى خاص . مازال يحكم علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية كل مدينة بها جماعة تقودها تسمى(( حلقة العزابة )) وهو نظام قائم منذ ما يزيد عن تسعة قروو وربما يمتد إلى ايام الدولة الرستمية ,(( والعزاب )) اى الذين يعزبون عن الدنيا عن الدنيا ومغرياتها , وينتقى لهذا المجلس صاحب صاحب المعرفة والسيرة الصالحة ويشترط ان يكون حافظا للقرآن الكريم وملتزما بأحكام الشريعة الاسلامية , ويتكون المجلس من 12 عضوا , وتقوم حلقة العزابة بالفتوى فيما يختلف عليه الاهالى , ووضع قواعد مقررة للمشاكل الجديدة , ويتولى مجلس العزابة الاشراف على تدريس القرآن لابناء المدينة , ورئيس الحلقة هو الشيخ او المفتى الذي يتولى التدريس والخطابة في الجامع , وتضم الحلقة ثلاثة معلمين لتعليم الصغار , ويفصل اعضاء العزابة في المنازعات في جلسات تعقد في صحن الجامع بين صلاتى الظهر والعصر , كما تقع على عاتقهم مسؤولية الحراسة داخل الاسوار وينظمون الاسواق والمسالخ , وسواقى المياه والسدود , ولا يتقاضى اعضاء مجلس العزابة اجرا على اعمالهم هذه .
ولاعضاء العزبة أيضا دورهم الاجتماعى , فلا يقع في مدن مزاب ما يقع في غيرها من اختلافات بين العروسين على المهر او الشبكة , فأعضاء العزابة وحدهم هم الذين يحددون المهر , مها تكن اسرة العروس او جمالها , ومهما كان غنى الزوج , ويترك لاسرة العروسين تحديد موعد الزفاف فحسب , اما اذا شاء الزوج ان يزيد , فليفعل ذلك بعد الاشهر الاولى من الزواج .
ويسود شعور بامكانية الاستغناء عن الحكومة المركزية , وبالفعل كان لاقامة مخفر للشرطة في بنى يزقن بعض اوجه المقاومة من الاهالى ... وهذه الحلقة تساعدها حلقتان فرعيتان احدهما للنساء اللاتى يقمن ببعض المسائل الاجتماعية مثل دفن الموتى من النساء , والحلقة الاخرى منظمة ((اروان )) اى الطلبة .
والدليل الحاسم على نجاح حلقة العزابة هو الغاء الامية في مزاب , ففى الجوامع يتعلم ابناء القرية مبادىء الكتابة واللغة العربية ويحفظون القرآن الكريم , وهى صورة فريدة , فالنجاح في القضاء على الامية حلم غال لم تنجح في الوصول اليه العديد من اصحاب النظريات الحديثة .
٭٭٭ مجلس عمى سعيد
ويشكل ممثلو حلقات العزابة في مدن مزاب مجلسا اعلى يسمى مجلس عمى سعيد وهو يضم عدد 16 عضوا عن بلده , وهذا المجلس يبحث المشاكل الطارئة , ويقوم بالصلح بين القبائل وهو هنا بالاصطلاح الحديث مجلس استئناف , واطلق عليه مجلس عمى سعيد لانه يجتمع بمسجد الشيخ عمى سعيد بن على الجربي , وتتلى قراراته على الناس في المساجد , اما من اين يستمد سلطته وهو الذي لا يملك وسائل السلطة المعروفة ..؟ انه يكتفى بالقوة المعنوية للمذهب واذا تمرد اى طرف على قراراته يقوم العزابة(( بالعصيان المدنى )) اى يمتنعون عن القيام بمهامهم ويعتصمون في المسجد , فيتحرك الرأى العام ضاغطا .
ويتوازى مع حلقة العزابة , ومجلس عمى سعيد مجلس رؤساء العشائر , وهذا المجلس يضعف شأنه ويقل تأثيره كلما زاد نفوذ مجلس عمى سعيد .
وهذه المؤسسة القديمة وما تصدره من قرارات ينبغى ان تكون محل دراسة مستفيضة من علماء الاجتماع العرب وخاصة ان الكثير من اعمالها مدونة .
٭٭ مملكة تاهرت
والآن حان الوقت لنستعرض القصة الكاملة للدولة الرستمية , ونقلب صفحات التاريخ لكى نستكمل ابعاد مانرى ...
قامت الدولة الرستمية بعد جهاد طويل , وهى امتداد لمحاولات شهدها المشرق العربي , فبعد زوال دولتهم في البحرين وحضر موت والطائف واليمن سنة 72هـ , وبعد ان لجاء اصحاب المذهب الاباضى إلى التنظيم والدعوة كبديل عن اعمال التمرد الفاشلة , تضمن هذا الاسلوب ارسال الدعاة إلى المناطق البعيدة عن حاضرة الدولة, الاسلامية هذا بعد تجارب عديدة , وبعد ان لجاء اباضية المشرق إلى اساليب الدعوة السرية والتنظيم السياسى بعد فشل حركة عبد الله بن اباضى التميمى في عهد مروان بن عمر الاموى , واخذوا يبعثون من مركزهم في ((البصرة)) دعاتهم إلى الامصار المتطرفة , ونجحت هذه الجهود في جنوب الجزيرة العربية في المغرب , وهذا ما يفسر التشابه القائم بين عمارة مزاب وعمارة كل من سيئون وشيئام في حضرموت , وقد سقطت دولة الكندى في جنوب اليمن سنة 130هـ , وتمركز المذهب في عمان والذى مازال قائما هناك حتى اليوم ...
انتشر الدعاة في المغرب واخذوا يدعون لمبادئهم التى تقود على العدل والحرية , وتعرضوا للاضطهاد بعد ان قامت مبادئهم على التحريض على الخروج ضد الامام الجائر , والاجماع على جواز الامامة لكل مسلم عالم بالكتاب والسنة بغض النظر عن اصله وجنسه ..
((واستقبلت هذه المبادرىء بالحفاوة مما تنطوى عليه من تمسك بالشريعة , وثورية في قوامها السياسى , وبساطة في جوانبها الفكرية , كما لقيت مناخا مواتيا في ظروف المغرب الاسلامى وطبيعة سكانه )),كما جاء في كتاب الدكتور محمود اسماعيل ((الخوارج في المغرب ))..
وتذكر المصادر الاباضية في كتاب سير الائمة واخبارهم ))لمؤلفه ابو زكريا يحى بن ابى بكر والذى تشرته وحققته المكتبة الوطنية في الجزائر : ((ان اول من جاء يطلب مذهب الاباضية ونحن بقيروان افريقيا سلمة بن سعيد ...)) واضاف ..قدم علينا من ارض البصرة ومعه عكرمة بن عباس على بعير )).
وادت تلك الجهود المتواصلة إلى نجاح عبد الرحمن بن رستم في تأسيس دولة تاهرت سنة 161هـ (777م) وامتد نفوذها لتضم اباضية المغرب , ويلاحظ انه في هذا الماضى البعيد غابت وسائل الاتصال الحديثة , ورغم ذلك كان العالم الاسلامى مترابطا , اذا انطلقت فكرة من البصرة على الخليج سرعان ما تجد صداها في اقصى المغرب , فقد سبق وتوجه عبد الرحمن بن رستم إلى البصرة مع عدد من المغاربة في حلقة ابي عبيدة مسلم بن ابي كريم سنة 135هـ , 752م وتلقى على يديه اصول المذهب وخطة العمل .
وعندما قامت دولته اختارتاهرت القديمة التى تعيش حولها قبائل البربر من هوارة
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
منقول من مجلة العربي الصادرة من الكويت العدد 286 سبتمبر 1982م
وما اشد ما تغرى على التجوال والبحث والتقصي ....
قادني إلى هذه الجولة كلمات قرأتها للكاتب الفرنسي شار جوليان في كتابه حول شمال افريقيا ..
تقول ..((اعترض الحكم العربي في المغرب تحد من خلال الإسلام , عندما انحاز البربر في القرنين الثامن والتاسع إلى شقاق يهدف إلى المساواة , ويدعوا إلى اختيار الخليفة من جموع المسلمين بصرف النظر عن اى ميزة عرقية , ودامت الثورة ما يزيد عن قرنين , ولم يتم التغلب عليها سوى بعد عام 375هـ , عندما تشتت البقية الباقية منهم في صحراء الجزائر وتونس بعد انهيار مملكة تاهرت سنة 909م.
وبقى اليوم احفادهم يعيشون جماعات منكمشة مغلقة في جزيرة جربة وفى ورقلة وخاصة في مزاب التى تقوم فيها مدن غاردايه ومليكة وبنى يزقن الطاهرة ذات الصوامع العارية من كل زخرف )).
وكانت هذه الكلمات بداية رحلة ذهنية بيت الكتب قادت إلى جولة وادي مزاب , تبينت خلالها مدى اقتراب كلمات الكاتب الفرنساوى من الحقيقة ,وقمت برحلة شيقة مليئة بالفن والسحر والتاريخ , شاهدت خلالها عالما بأكمله من التاريخ الحي .
لم يكن الوصول ال وادى مزاب سهلا , بل يشبه سباق تخطى الحواجز , وانتهت متاعبنا لدى وصولنا
إلى مطار غاردايه الذي يبعد عن العاصمة نحو 600كيلو متر في قلب الصحراء , وفى الطريق من المطار إلى البلد ومنذ الخطوات الاولى من رحلتنا , اخذنا بالمكان وما يحمله من اءيحات جمالية وتاريخية .
يمتد امامك وادى,, مزاب وترى صورة بانورامية للوادى ومدنه القائمة فوق التلال يحيط بها اللون الاخضر لاشجار النخيل في خلفية المكان على امتداد الوادى , تظهر بوضوح ثلاث مدن فوق ثلاث تلال , اقيمت بنظام دقيق ,في اعلى قمة التل يقوم الجامع بصومعته المربعة ذات الطراز الخاص – اى المنارة كما يطلق عليها في المغرب العربي -, وهى على نفس اقدم المساجد التى بقيت على حالها في الجزيرة العربية , وهو مسجد سيدنا عمر في منطقة الجوف , تتحلق حول الجامع بيوت الاهالى ,كل حلقة بارتفاع واحد وطراز معمارى خاص , والعمارة هنا اكثر ماتكون شبها بعمارة شيئام وسيئون في حضر موت باليمن الديمقراطية , ويغلب على المدينة المزابية اللونان الازرق والابيض , وعندما تصل المدينة إلى نهاية التل يحيطها سور من حوله الأبراج على مسافات متساوية .
وامام هذا المشهد أتذكر فجأة آلة الزمن تلك الحيلة التي أخذها خيال السينمائيين , والتي تعود بالمشاهد إلى اى مرحلة من مراحل التاريخ تنقل أحداثه ومشاهده , ولا يفوتها طراز المباني ولا نوع الازياء ومظاهر الحياة وطعمها الخاص , فهنا يمكن الاستغناء عنها جميعا عندما تشاهد التاريخ مجسدا أمامك بكل تفاصيله.
وقد ساهم في إقامة هذا الوادي ومدنه كل من العقيدة والبيئة والتاريخ ... ففي هذا المكان البعيد عن العمران , والذي يقع بين جبال جرداء صخرية , تكونت على مر الأيام هذه المدن في بطء وصبر , وهى تبدوا من بعيد وكأنها خلية نحل في التنسيق والنظام والدقة .
ويبعد هذا الوادى عن المعمور حوالى 300كيلو متر – اى عن الاغواط اقرب المدن اليه - , ويقطنه 100000الف نسمة , وساهمت عزلته هذه في تكوين طابعه الخاص , فالوديان في الصحراء مثل الجزر في البحار كثيرا ما تضم وتحافظ على بقايا التاريخ الحى ,وساهمت حالة التوجس والخوف التى عاشها هذا المجتمع في الايغال بالتمسك بالماضى , مما امده بهذه الطاقة التاريخية على الدوام والاستمرار , وشحذ الذاكرة التاريخية لاهل مزاب وجعلها حادة واضحة ....
جاءت إقامتنا في غارداية في فندق يطلق عليه اسم(( الرستميون)) , أقيم على الطراز العربي وصممه احد المعماريين الفرنسيين مكان قلعة فرنسية قديمة كانت تحتل موقعا استراتيجيا , وتشرف على غاردايه, عاصمة المزاب , واكثر مدنه تقبلا للتغيير , وبقدر ما فتحت غاردايه ابوابها للغرباء , بقيت المدن المزابية الأخرى موصدة الأبواب , وكأن غادايه قد اختارت أن تدفع الضريبة عنهم , فاتسعت وتمددت خارج الاسوار , وهدت محلات حديثة وبنوكا ومكاتب حكومية وفناددق , وبها مقر حزب جبهة التحرير ( الحزب الحاكم ) , ويسكنها رجال الادارة والعاملون في كل المشاريع الجديدة ..
يزدحم الفندق بالسياح , واغلبهم من الفرنسيين , يتوقفون في غاردايه اهم محطاتهم في الطريق الذي يصل من العاصمة إلى تمنراست بلد جبال الحجار ( الهوكار ) والطوارق (2000كيلو متر ) , عندما يسلكون الطريق الوطنى رقم 1, او طريق الوحدة الافريقية – اهم مشاريع الجزائر والذى بداء عام 73 وينتظر ان يكتمل خلال عام واحد – وهو يحول الصحراء من نقطة فصل إلى نقطة اتصال مع الدول الافريقية جنوب الصحراء .
وما زالت الصحراء الجزائرية اهم التحديات التى واجهت الجزائر , فاستهدف المستعمر الفرنسى فصل الصحراء التى تبلغ مساحتها اربعة ملايين ونصف مليون كيلو متر مربع والتى يسكنها عدد قليل من السكان المبعثرين في واحات متباعدة , وخضعت الصحراء لادارة الجيش الفرنسى مباشرة , وجعل لها وضعا قانونيا خاصا , بل واجرت فرنسا تجاربها النووية فيها , اما منطقة الساحل إلى تمثل عشر مساحة الجزائر فقد سكنها المستوطنون الفرنسيون ( الكولون ) واستأثرت بكل المشاريع الفرنسية .
وكان الطريق الذي يقطع الصحراء هو الرد الوطنى على فصل الصحراء , ويصل هذا الطريق إلى كل من النيجر ومالى على شكل حرف (y) مقلوبة , ويعيد طريق القوافل القديم إلى ((تمبكتو )) ويساهم من جديد في نقل البضائع والأفكار , ويقدم لكل من النيجر ومالى طريقا إلى البحار المفتوحة وخاصة انه ليس لاى منهما مرافىء.
وبالفعل ساهم ما انجز من الطريق في إقامة العديد من المشاريع الصناعية الهامة , كما وضعت الخطط لتوطين البدو وقيام حياة جديدة في الصحراء .
يتحدث السياح في الفندق بشاعرية عن الصحراء , قال رجل فرنسي في خريف العمر : ((تبحث عن الصحراء عما في داخلك , فهي لا تكشف أسرارها لكل من يرتادها , بل ولا كنوزها ولا أعاجيبها )).
وقالت فتاة رشيقة تصحبه ..(( ما أجمل ليل الصحراء , فالسماء والقمر والنجوم لها طابع وميزة لا تراها على هذه الصورة في اى مكان من العالم )).
وعاد الرجل يصف لحظة وصوله إلى الوادى قائلا : (( فجأة تظهر الواحة بلونها الأخضر مع خيوط أشعة الشمس الذهبية , وكلما اقتربنا وظهرت تفاصيل اكثر , رأينا المدن المزابية وكأنها مدن تاريخية مسحورة في احدى روايات الف ليلة وليلة )), ويستطرد قائلا (( ان الرحلة التي تقطعها السيارة تستغرق أسبوعين من العاصمة حتى تامنراست تمثل خلالها الواحة لحظة الوصول إلى الحياة , والاتصال بالعالم الخارجي وهى في هذا تشبه مكاتب التلغراف التي تصلك بالعالم في فضاء لانهائي )).
٭٭ الرستميون
اسم الفندق وموقعه له ايحاء خاص , فاسمه زء من التاريخ الحى , ومن هذا الفندق نطل على التاريخ , فهو يحمل اسم حكام دولة بنى رستم الاباضية , والتى تشكل قصة قيامها وانهيارها في وجدان ابناء الوادى الحلم الضائع والجنة المفقودة .
وتكشف صفحات التاريخ الكثير مما يجرى حولنا فالوادى وسكانه من بقايا الدولة الرستمية التى قامت في الماضى , وما زال اهل الوادى متمسكون بكل ما تمثله دولتهم القديمة , وقد استمرت هذه الدولة حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجرى , وكانت(( تاهرت)) هى عاصمة الدولة ,وامتدت لتشمل المناطق الداخلية , وحدودها الاراضى الوعرة والصحراء الشاسعة , ووصلت حتى مشارف طرابلس الغرب.
والآن حان الوقت لنكمل جولتنا في المدن الميزابية – وهى في الواقع قرى اكثر منها مدنا - , يشدنى العمل الشاق الذي بذل وما يحمله الوادى من لمسات الفن والجمال , ففى هذا الركن المفقود من الصحراء تتوزع مدن مزاب الخمس وهى غارداليه ( غار- دايه ) ومليكه( اسم ابنة احد الحكام ) والعطوف وبنى يزقن وبونوة في دائرة لا يزيد نصف قطرها عن سبعة اميال فوق خمس تلال , (( وهذه المدن نشأت في فترات زمنية متتالية , وعندما اكتملت وضاق الوادى بسكانه , اقيمت المدينتان هما القرارة وبريان , تبعد الاولى عن غاردايه مائة كيلو متر والثانية 48 كيلو متر , وتضاف اليهما متليلى وهى مدينة مشتركة يتعايش داخلها في انسجام كامل كل من ابناء المذهب المالكى وامذهب الاباضى ..
تشاهد امامك قرى بعمارتها وازقتها واسوارها وابراجها وعادات اهلها وتقاليدهم ولباسهم المميز – العمة والسروال – ولحاهم الطويلة وكأنهم استمروا هكذا لم يتغيروا منذ ما يقارب التسعمائة عام ويخيل اليك انك ترى ذات البشر القدماء..
٭٭محو الامية
ولا يخرجك من التاريخ سوى احد الملتحين بسرواله التقليدى يمرق من جانبك بدراجته البخارية ثم بعض السيارات الحديثة التى تقف عند الاسوار , والطرق المرصوفة التى تنقلك من مدينة إلى اخرى ,فما اصعب مقاومة رياح التغيير والحاح العصرية ..
في هذا المجتمع يزاد كبار السن بلحاهم الطويلة البيضاء , وتكاد تختفى المرأة من ازقته , مجتمع لا تجد فيه اميا واحدا , بل ويندر ان تجد فيه من لا يتحدث العربية بطلاقة إلى جانب اللغة البربرية المحلية , ولديه نظامه الخاص في التكافل الاجتماعى , ونظامه في حل الخلافات التى تظهر بين افراده , مجتمع يأخذ نفسه بالشدة ويتمسك بتعاليم الدين الحنيف .
وساهم الماضى في تمسك افراد هذا المجتمع يكل ما فروا من اجله إلى هذه المنطقة النائية ,مما يؤكد ان الاضطهاد والملاحقة لا يقضيان ابدا على الفكرة بل يساهمان في الحفاظ عليها والتمسك بها .
ومع بداية جولتى حذرنى صاحبي بقوله ( ان العديد من معتقداتهم تعتبر من خصوصياتهم التى لا يرحبون بالكشف عنها , ولا يرحبون بالغرباء كثيرا , وعندما توجه سؤالا لاحدهم لا تتلقى الاجابة الا بعد استشارة شيخهم ...)), وعندما التقيت بعدد منهم وجدت الكس تماما , ولقيت منهم الحفاوة والترحيب , والرد على جميع استفساراتي , فالفارق لديهم كبير بين الأجنبي والعربي , بل لاحظت ان الكثيرين منهم يتابعون بشغف إحداث المشرق العربي , ويناقشون قضياه باهتمام بالغ .
وأكثر ما جذب اهتمامي بعد البشر ونظمهم معالم العمارة التي يؤكد الخبراء ان وأدى مزاب يضم المجموعة الاسلامية الهندسية الرئيسية في الصحراء , وأقدمها جميعا . وهى تتميز بدقة وجمال لا في المسكن فحسب بل وفى اعمال الرى والدفاع أيضا , واول ما يلفت النظر التناغم والانسجام بين التل والمبانى من فوقه , فهنا العمارة عمل أصيل وانعكاس تلقائي للبيئة والفكر والاجتماعي والتقاليد والوضع الاقتصادي .
قادنى صاحبي إلى جامع سيدى ابراهيم على مشارف بلدة العطوف اقدم المدن الزابية والتى تبعد عن غاردايه سبعة كيلو مترات وهو اول مسجد اقيم في مزاب إلى مكان اثرى , يبدوا شكل الجامع وكأن المعمارى الذي اقامه كان يطوع الحجر ويلاينه ويخرج منه هذا العمل الفنى الذي جمع بين الابداع والبساطة , فالمبنى على نفس شكل الحجر , ويتسق مع البيئة من حوله .
والجامع لديهم ليس مكان للعبادة فحسب بل ومركزا للحياة , يأخذ هذا الجامع بفكرة القبلة المفتوحة والتى تتجه إلى الفضاء الواسع , ولديهم تقليد فريد بالا يقوم في المدينة سوى جامع واحد , يتسع مع اتساع المدينة , فلا يقام سواه فوحدة الجامع تعنى وحدة المجتمع والعقيدة .
ويؤكد مرافقى مسؤلول الاثار في مزاب الفنان عبد الحميد عرعور : (( ان عددا كبيرا من المعماريين الفرنسيين يجدون هنا الكثير الذي يتعلمونه من هذا الجمال المعمارى المتكامل , وهذا الانسجام بين الوظيفة والشكل )).
ويقف وراء كل هذا الفن ذلك الإنسان الذي عمل بيديه المجردتين في صراعه الطويل مع البيئة ومواد البناء , لكي يتمخض من هذا الصراع ذلك الجمال المعماري القائم , ويأتي جمال الشكل من التوافق والتوازن الذي يعبر عن الوحدة والمساواة في ظل الأيمان , وترى هنا كيف تمثل الزخرفة الفطرية القديمة جمالا باقيا , لم تصل إليه بعد التشكيلية المصطنعة الحديثة .
٭٭احد بيوت مزاب
من الصعب ان تدخل احد البيوت المزابية بلا سابق معرفة , بل ومن العسير ان تلتقط الصور لابناء مزاب الذين لا يزالون يعتقدون ان التصوير يخالف الاعراف والتقاليد ..
اخذنا مرافقنا إلى بيت مزابي قديم خارج الاسوار , يستأجره احد الفرنسيين المولعين بمزاب , مظهر البيت الخارجى بسيط لكنه متناسق , شيد وفق احتياجات المعيشة اليومية ولمسايرة جميع التقلبات المناخية على مدار فصول السنة , وتلحظ درجة عالية من الانسجام بين مكوناته الاساسية , وكل خط فيه يعبر عن مصممه , وكما يقول المعمارى الدكتور حسن فتحى حول عمارة المزاب ...(( حركة اليد لا تصدر عن العقل وحده بل وعن الشعور أيضا , وذكاء الاصابع ذكاء روحى قبل كل شىء ))..
وهو كالثوب المحكم على صاحبه , ليس بفضفاض ولا ضيق , وهو ما تفتقده العمارة الحديثة , فيكتفى كل ما هو ضرورى دون ادخال ما يزيد عن الحاجة ..
ومن خصائص البيت المزابي انه بلا اثاث , والمبنى يوفى بكل الاحتياجات , وربما لان الوادى ليس به اخشاب سولى اعجاز النخيل , وليس للدار المزابية نوافذ بل فتحات في اعلى المبنى , وداخله انفصام كامل بين حياة الرجال والنساء , ويوجد في جناح الزوجة (( النول )) في مكان رطب تنسج عليه المرأة الزرابي واعمال الصوف المختلفة ..
وعندما سألت ساكنه الفرنسى : هل يوفى البيت بأحتياجاتك .. وقال ( بعد فترة من التعود وجدته اكثر راحة وانسجاما من كل اشكال العمارة الحديثة )).
ولكبار القوم في مزاب داران , احدهما في السهل بين اشجار النخيل والاخرى فوق الجبل داخل الاسوار , ويهاجر جموع السكان كل صيف إلى الغابات , إلى الجو الافضل وسبق اهل مزاب بهذا التقليد اهل زماننا , كما يوجد مسجد في الغابة وآخر في المدينة , ويميز مسجد المدينة الصومعة التى لاتوجد في مسجد الغابة .
في غابة النخيل
ــــــــــــــــــــــ
التلال – اقصد المدن – محاطة بغابات من النخيل من كل جانب , فقد كان اول ما اجه اليه السكان بعد استقرارهم في الوادى البحث عن مصادر المياه ثم العمل على خزنها , ثم تقسيمها والاستفادة منها قبل ان تضيع في الصحراء , وكان على بقايا الدولة الرستمية اللجوء إلى مكان يصعب على غيرهم الوصول اليه , ولايغرى ندرة الماء فيه سواهم من العابرين , واختاروا قلة المياه مقابل الامان , كانت هذه مجرد البداية التى سريعا ماتطورت بالجهد المبذول في توفير المياه وتخزينها , ولذلك ليس لسدودها وآبارها وقنواتها ونظام توزيع المياه بها مثل في نواحى الصحراء الجزائرية كلها , فقد ابتكروا اساليب معمارية خاصة , والسدود القائمة هنا يعود تاريخ بعضها إلى سبعمائة او ثمانمائة عام , وتهدف إلى تخزين وتحويل مجرى المياه في الوادى إلى كروم النخيل , اما السدود الباقية الواقعة في نهاية الوادى فتهدف إلى نشر المياه وتوزيعها على المنطقة كلها لملء الآبار القائمة , وتبقى الاقنية جافة طيلة ايام السنة , بأستثناء بعض ساعات تنهمر فيها الامطار , واذا زادت تتحول إلى تهديد خطير , وكثيرا ما دمرت السيول القرى الصحراوية , ولهذا يخالط فرح الاهالى بهطول المطر قلق من تحولها إلى سيول .
كما احتاج توزيع الكميات المحدودة من المياه إلى معرفة جيدة بالاراضى واساليب ريها , ووضع نظام صارم يحقق عدالة توزيعها , وشاهدنا في نهاية كل غابة عند ملتقى شعاب الاودية واليابسة , سواقى مبنية تلتقى فيها مياه الامطار , وتوزع فتمر في سواقى عريضة في مدخل كل مزرعة , وتمر من خلال فتحة تضيق تتسع حسب مساحة أراضها في دقة وعناية وعدالة , ثم تنتهي تلك السواقي لتصب خلف سد , بعد أن تمر وتتخل حدائق النخيل جميعها , وتعود وتغذى الآبار ويستخرجها الفلاح من البئر , ويروى بها نخيله لعام أو عامين آخرين وحتى يهطل المطر من جديد , وقد اسطاعوا ان يحفروا في الوادي ما يزيد عن أربعة آلاف بئر , يتراوح عمقها بين 25 و 60 مترا , وغرسوا 170 ألف نخلة .
وروى لى احد أبناء الوادي , وهو يقف أمام بئر عتيقة قائلا : (( هذه البئر حفرت على مدى ثلاثة قرون , بداء العمل الجد وواصله الابن ثم الحفيد وابن الحفيد وكانت الآلة المستخدمة في الحفر لأتزيد عن قرن غزال ..)) وهى كلمات بسيطة تعكس شعور أهل مزاب بالجهد المبذول في حفر الآبار على مدى عدة أجيال ..
بنى يزقن
ــــــــــــ
وتجولنا طويلا في بنى يزقن , نموذج للمدينة المزابية كما كانت عليه منذ القدم , المدينة على شكلها الهرمي ترتفع صومعة المسجد المربعة عند القمة ..
السور ما زال على حاله يحيط بالبلدة , ويصل ارتفاعه إلى نحو ثلاثة أمتار , وتدخل إلى البلدة عبر بوابة يقف أمامها حرس خاص , ويبلغ طول السور ألفين وخمسمائة متر , التضامن والحاجة الملحة للشعور بالأمن هي التي أقامته .
ولا يفوتك ان تلحظ بعدا هاما في كل أرجاء مدن مزاب ألا وهو الاهتمام البالغ بالاستعدادات الدفاعية ,ليس في الأبراج والأبواب فحسب , بل في تخطيط المدينة ذاتها فالأزقة ملتوية التواء لا تستطيع أن تتبين متى ينتهي , والأبراج بنيت من أربعة أو خمس طوابق حتى يتبين رجال الحراسة الخطر وينذروا به الاهالى , وتمتد هذه الابراج على طول نقط متقابلة تنقل صيحات التحذير من واحد إلى آخر , وتحولت مع الوقت إلى إشارات ضوئية ثم إلى طلقات البندقية , والأمن هنا لا يقتصر على غارات البدو , بل ومواجهة خطر السيول والفيضانات , فطلقة واحدة عندما تبداء السيول وطلقتان عند هجوم العدو .. أليست هذه مدنا للإنتاج والدفاع معا ؟ وهو ما ينبغي مراعاته أمام الأخطار المتلاحقة التي تواجه المدن العربية في عصرنا الراهن .
ممنوع التدخين
وتدلف إلى بنى يزقن من بوابتها الضخمة , وأول ما تشاهده لافتة تتضمن مجموعة من التحذيرات باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والفرنسية , تبداء بطلب الامتناع عن التدخين والامتناع عن تصوير المارة , وعدم دخول منازلهم , وارتداء ملابس(( الحياء )) وعد تقديم الحلويات للأطفال .
واتجول في المدينة التاريخية تشدنى وحدة الفكرة المعمارية وتناسقها , والتى قدمت الضرورى على الكمالى , ووحدة الفكر التى اقامت هذه العمارة والتى تؤكد انه اذا توجه المعماريون نحو البساطة وكانت البداية هى دراسة المنطقة التى يعملون بها , لتحققت هذه الوحدة , ويعود الجمال الغائب إلى العمارة الحديثة , البيوت متساوية الارتفاع تتراوح بين الوانها بين الابيض والازرق والاصفر , الابيض يعكس الحرارة , والازرق يحمى البيت من الحشرات خاصة البعوض والاصفر لون الصحراء.
وسيلة المواصلات هى هنا ركوب الحمير التى يمكنها وحدها الانتقال في هذه الازقة الضيقة , ويصادفك الباعة المتجولون ينتقلون في هذه الازقة وبضائعهم مكدسة فوق حميرهم , وحتى موزع البريد ينتقل في ازقة المدينة على حمار حكومى لتوزيع البريد.
وفى ساحة كبيرة سط المدينة يجلس الشيوخ بلحاهم البيضاء امام بيوتهم , ويعقد في هذه الساحة مزاد كل يوم ثلاثاء ساعة الغسق , يباع خلاله كل ما هو قديم , فمثلا هنا ينتقل الاناء او الموقد بين ايدى اكثر من اسرة خلال هذا المزاد الاسبوعى , مما يكشف الحس الاقتصادى والحرص الشديد الذي يتمتع به اهل الوادى , بل وعندما يشترك كل من في الساحة في المزد ..
ولا يمكن للاجنبى البقاء في بنى يزقن بعد الغروب , واذا صادف ولمحت احد نساء مزاب فن لتفات بعباءة بيضاء لايظهر منهن شىء , وحتى البئر تغطى كى تلجه المرأة ولا يتمكن الفضوليين من رؤيتها , وسمعت مثلا جزائريا يعبر عن كانة المرأة فى الوادي يقول(( للمزابى سبعة قبور وللمرأة قبر واحد)) ...رغم ان المرأة المزابية تتولى الأشراف على شؤون الأسرة فاغلب الرجال يسافرون بعيدا للعمل و للتجارة خارج الوادي , كما ساهمت المرأة إلى جانب الرجل في مواجهة الظروف التاريخية القاسية , وهى وحدها التى تصنع تلك المنسوجات الصوفية المختلفة , اذ تعيب التقاليد على الرجل المشاركة في نسجها , وتنتج مزاب اشكالا فنية بديعة , كانت تشتريها في الماضى القوافل , ويولع بها اليوم السياح الذين يدفعون فيها مبالغ طائلة .
٭٭حلقة العزابة
هذا عن مظاهر الحياة المختلفة التى لمستها في مدن مزاب , وهى لا تنفرد بالعادات والتقاليد والازياء فحسب , بل لديها نظام اجتماعى خاص . مازال يحكم علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية كل مدينة بها جماعة تقودها تسمى(( حلقة العزابة )) وهو نظام قائم منذ ما يزيد عن تسعة قروو وربما يمتد إلى ايام الدولة الرستمية ,(( والعزاب )) اى الذين يعزبون عن الدنيا عن الدنيا ومغرياتها , وينتقى لهذا المجلس صاحب صاحب المعرفة والسيرة الصالحة ويشترط ان يكون حافظا للقرآن الكريم وملتزما بأحكام الشريعة الاسلامية , ويتكون المجلس من 12 عضوا , وتقوم حلقة العزابة بالفتوى فيما يختلف عليه الاهالى , ووضع قواعد مقررة للمشاكل الجديدة , ويتولى مجلس العزابة الاشراف على تدريس القرآن لابناء المدينة , ورئيس الحلقة هو الشيخ او المفتى الذي يتولى التدريس والخطابة في الجامع , وتضم الحلقة ثلاثة معلمين لتعليم الصغار , ويفصل اعضاء العزابة في المنازعات في جلسات تعقد في صحن الجامع بين صلاتى الظهر والعصر , كما تقع على عاتقهم مسؤولية الحراسة داخل الاسوار وينظمون الاسواق والمسالخ , وسواقى المياه والسدود , ولا يتقاضى اعضاء مجلس العزابة اجرا على اعمالهم هذه .
ولاعضاء العزبة أيضا دورهم الاجتماعى , فلا يقع في مدن مزاب ما يقع في غيرها من اختلافات بين العروسين على المهر او الشبكة , فأعضاء العزابة وحدهم هم الذين يحددون المهر , مها تكن اسرة العروس او جمالها , ومهما كان غنى الزوج , ويترك لاسرة العروسين تحديد موعد الزفاف فحسب , اما اذا شاء الزوج ان يزيد , فليفعل ذلك بعد الاشهر الاولى من الزواج .
ويسود شعور بامكانية الاستغناء عن الحكومة المركزية , وبالفعل كان لاقامة مخفر للشرطة في بنى يزقن بعض اوجه المقاومة من الاهالى ... وهذه الحلقة تساعدها حلقتان فرعيتان احدهما للنساء اللاتى يقمن ببعض المسائل الاجتماعية مثل دفن الموتى من النساء , والحلقة الاخرى منظمة ((اروان )) اى الطلبة .
والدليل الحاسم على نجاح حلقة العزابة هو الغاء الامية في مزاب , ففى الجوامع يتعلم ابناء القرية مبادىء الكتابة واللغة العربية ويحفظون القرآن الكريم , وهى صورة فريدة , فالنجاح في القضاء على الامية حلم غال لم تنجح في الوصول اليه العديد من اصحاب النظريات الحديثة .
٭٭٭ مجلس عمى سعيد
ويشكل ممثلو حلقات العزابة في مدن مزاب مجلسا اعلى يسمى مجلس عمى سعيد وهو يضم عدد 16 عضوا عن بلده , وهذا المجلس يبحث المشاكل الطارئة , ويقوم بالصلح بين القبائل وهو هنا بالاصطلاح الحديث مجلس استئناف , واطلق عليه مجلس عمى سعيد لانه يجتمع بمسجد الشيخ عمى سعيد بن على الجربي , وتتلى قراراته على الناس في المساجد , اما من اين يستمد سلطته وهو الذي لا يملك وسائل السلطة المعروفة ..؟ انه يكتفى بالقوة المعنوية للمذهب واذا تمرد اى طرف على قراراته يقوم العزابة(( بالعصيان المدنى )) اى يمتنعون عن القيام بمهامهم ويعتصمون في المسجد , فيتحرك الرأى العام ضاغطا .
ويتوازى مع حلقة العزابة , ومجلس عمى سعيد مجلس رؤساء العشائر , وهذا المجلس يضعف شأنه ويقل تأثيره كلما زاد نفوذ مجلس عمى سعيد .
وهذه المؤسسة القديمة وما تصدره من قرارات ينبغى ان تكون محل دراسة مستفيضة من علماء الاجتماع العرب وخاصة ان الكثير من اعمالها مدونة .
٭٭ مملكة تاهرت
والآن حان الوقت لنستعرض القصة الكاملة للدولة الرستمية , ونقلب صفحات التاريخ لكى نستكمل ابعاد مانرى ...
قامت الدولة الرستمية بعد جهاد طويل , وهى امتداد لمحاولات شهدها المشرق العربي , فبعد زوال دولتهم في البحرين وحضر موت والطائف واليمن سنة 72هـ , وبعد ان لجاء اصحاب المذهب الاباضى إلى التنظيم والدعوة كبديل عن اعمال التمرد الفاشلة , تضمن هذا الاسلوب ارسال الدعاة إلى المناطق البعيدة عن حاضرة الدولة, الاسلامية هذا بعد تجارب عديدة , وبعد ان لجاء اباضية المشرق إلى اساليب الدعوة السرية والتنظيم السياسى بعد فشل حركة عبد الله بن اباضى التميمى في عهد مروان بن عمر الاموى , واخذوا يبعثون من مركزهم في ((البصرة)) دعاتهم إلى الامصار المتطرفة , ونجحت هذه الجهود في جنوب الجزيرة العربية في المغرب , وهذا ما يفسر التشابه القائم بين عمارة مزاب وعمارة كل من سيئون وشيئام في حضرموت , وقد سقطت دولة الكندى في جنوب اليمن سنة 130هـ , وتمركز المذهب في عمان والذى مازال قائما هناك حتى اليوم ...
انتشر الدعاة في المغرب واخذوا يدعون لمبادئهم التى تقود على العدل والحرية , وتعرضوا للاضطهاد بعد ان قامت مبادئهم على التحريض على الخروج ضد الامام الجائر , والاجماع على جواز الامامة لكل مسلم عالم بالكتاب والسنة بغض النظر عن اصله وجنسه ..
((واستقبلت هذه المبادرىء بالحفاوة مما تنطوى عليه من تمسك بالشريعة , وثورية في قوامها السياسى , وبساطة في جوانبها الفكرية , كما لقيت مناخا مواتيا في ظروف المغرب الاسلامى وطبيعة سكانه )),كما جاء في كتاب الدكتور محمود اسماعيل ((الخوارج في المغرب ))..
وتذكر المصادر الاباضية في كتاب سير الائمة واخبارهم ))لمؤلفه ابو زكريا يحى بن ابى بكر والذى تشرته وحققته المكتبة الوطنية في الجزائر : ((ان اول من جاء يطلب مذهب الاباضية ونحن بقيروان افريقيا سلمة بن سعيد ...)) واضاف ..قدم علينا من ارض البصرة ومعه عكرمة بن عباس على بعير )).
وادت تلك الجهود المتواصلة إلى نجاح عبد الرحمن بن رستم في تأسيس دولة تاهرت سنة 161هـ (777م) وامتد نفوذها لتضم اباضية المغرب , ويلاحظ انه في هذا الماضى البعيد غابت وسائل الاتصال الحديثة , ورغم ذلك كان العالم الاسلامى مترابطا , اذا انطلقت فكرة من البصرة على الخليج سرعان ما تجد صداها في اقصى المغرب , فقد سبق وتوجه عبد الرحمن بن رستم إلى البصرة مع عدد من المغاربة في حلقة ابي عبيدة مسلم بن ابي كريم سنة 135هـ , 752م وتلقى على يديه اصول المذهب وخطة العمل .
وعندما قامت دولته اختارتاهرت القديمة التى تعيش حولها قبائل البربر من هوارة
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
منقول من مجلة العربي الصادرة من الكويت العدد 286 سبتمبر 1982م
0 التعليقات:
إرسال تعليق