**الســلام عليكـم**

ابحث عن موضوعك في موقعي هنا

ترجمة/Translate

السبت، 12 يناير 2013

قصة فتح الأندلس ج6

بلاط الشهداء أشرس معركة إسلامية على الإطلاق

ما سردناه في الجزء 5 كان الحال الذي عليه جيش المسلمين، أما جيش النصارى فقد قَدِم من باريس بنحو أربعمائة ألف مقاتل، أي ما يقرب من ثمانية أضعاف الجيش الإسلامي، وكان على رأسهم رجل يسمى تشارل مارتل، ويطلقون عليه في العربية: قارلة، أما مارتل فهو لقبه ويعني المطرقة، وقد لقّبه به بابا إيطاليا؛ لأنه كان شديدًا على أعدائه، وكان من أقوى حكام فرنسا على الإطلاق، كانت ضخامة جيش الأعداء أمر قد اعتاد عليه المسلمون أو الفاتحون الأوائل، فلم تكن لتهزّهم مثل هذه الأرقام التي قدم بها النصارى من باريس، لكن جيش المسلمين كان فيه من عوامل الضعف الكثير، وفوق ذلك فهو يبعد عن أقرب مركز إمداد له وهو قُرْطُبَة بنحو ألف كيلو متر كما ذكرنا.

في منطقة "بواتيه"، وفي موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق، التقى الجمعان ودارت رحى حرب عظيمة، جَمْع المسلمين بما فيه من العوامل التي ذكرناها سابقًا من جهة، وجَمْع النصارى الذي يفوق جيش المسلمين بنحو ثمانية أضعاف كاملة من جهة أخرى، وكانت البداية في شهر رمضان من سنة 114 هـ= نوفمبر 732 م واستمر القتال لمدة عشرة أيّام متصلة، ورغم عدم تكافؤ القوتين لصالح النصارى، إلا أن الغلبة في بداية المعركة كانت للمسلمين على قلّة عددهم، لكن النصارى في نهاية المعركة فَطِنوا إلى كمية الغنائم الضخمة التي كانت خلف الجيش الإسلامي، فالتفّوا حول الجيش وهاجموا الغنائم وبدءوا يسلبونها، ولأن حبّ الغنائم كان قد أخذ موقعًا في قلوب بعض المسلمين، فكان أن ارتَبَك المسلمون وأسرعوا لحماية الغنائم الكثيرة، فحدثت هزة في وحدة صفّ الجيش الإسلامي وحدث ارتباك شديد كانت نهايته هزيمة قاسية للجيش الإسلامي في هذه الموقعة، موقعة بواتيه، أو موقعة بلاط الشهداء (بلاط هو القصر الذي دارت عنده الحرب، والشهداء لكثرة شهداء المسلمين في هذه المعركة).

لم تذكر الروايات الإسلامية حصرًا دقيقًا لشهداء المسلمين في بلاط الشهداء، إلا أن بعض الروايات الأوروبية بالغت كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم، وهو بلا شك رقم مبالغ فيه جدًا؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يتعد حاجز الخمسين ألفًا.

وفي رواياتهم يقول الأوروبيون متخوّفين أنه لو انتصر المسلمون في بلاط الشهداء على الفرنسيين لفتحت أوروبا كلها، ولدُرِّس القرآن في جامعات أوكسفورد وغيرها من الجامعات الأوروبية، ووالله إنها لتعاسة لهم وخسران أن المسلمين لم ينتصروا في هذه المعركة، ولو انتصروا لانتشر الخير في هذه البلاد، لكنهم ظلّوا في ضلالاتهم وظلوا في غيّهم يعمهون ويعبدون غير الله سبحانه وتعالى ويشركون به.

بعد هذه المعركة انسحب المسلمون إلى الداخل، ومع أنهم هُزموا وانسحبوا إلا أنها لم تكن هزيمة ساحقة كما صورها الأوربيون، ومما يدل على ذلك أن جيش النصارى لم يتبع جيش المسلمين حين انسحبوا، وكان من عادة الجيوش أنها تتتبع الجيش الفارّ، ولكنهم اكتفوا بما أخذوه من الغنائم وما أصابوه من القتلى...

انتصار الفرنجة هو سبب تخلّفهم عن ركب الحضارة:

ربما يبدو هذا العنوان غريبًا على البعض لكنه في الحقيقة كان ما أثبته الواقع وشهد به التاريخ، ولقد فطن إلى هذا المعنى بعض المنصفين من مؤرخي أوربا، قال أناتول فرانس:
إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتييه - بلاط الشهداء - حين هزم شارل مارتل الفرسان العرب - المسلمين - في بواتييه سنة 732 م، ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية... شوقي أبو خليل - بلاط الشهداء ص 44

الأحداث بعد بلاط الشهداء وعودة المسلمين إلى الأندلس

بعد عودة المسلمين إلى الأندلس، قام فيهم عقبة بن الحجّاج السلولي رحمه الله وتولّى الولاية من سنة 116 هـ= 734 م إلى سنة 123 هـ= 741 م ويُعدّ آخر المجاهدين بحقٍّ في فترة عهد الولاة الأُول.

وقد خُيّر هذا الرجل بين إمارة إفريقيا بكاملها ( كل الشمال الأفريقي ) وبين إمارة الأندلس ففضل إمارة الأندلس؛ لأنّها أرض جهاد حيث ملاصقتها لبلاد النصارى، فأقام مجاهدًا فاتحًا حتى بلغ أربونة وفتح معها جليقية وبنبلونة.

وقد قام رحمه الله خلال سنوات إمارته السبع بأكثر من سبع حملات داخل فرنسا، وكان ينزل إلى الأسرى بنفسه يعلّمهم الإسلام، حتى إنه أسلم على يديه ألفان من الأسرى، لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ، فكيف بألفين!

ولقد استشهد عقبة بن الحجّاج رحمه الله سنة 123 هـ= 741 م وباستشهاده يكون قد انتهى عهد الولاة الأُول أو الفترة الأولى من عهد الولاة.

الفترة الثانية من عهد الولاة وأهم سماتها

تبدأ هذه الفترة من انتهاء العهد الأول من عهد الولاة سنة 123 هـ= 741 م وحتى سنة 138 هـ= 755 م وترجع بذور هذا العهد إلى موقعة "بلاط الشهداء"، حيث حبّ الغنائم والنزعة العنصرية والقبلية...

أهم سمات هذه الفترة:

1- حب الدنيا:
في أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة والغنائم ضخمة، وفتحت الدنيا عليهم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِمَّا أَخَاُف عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. وهكذا فُتحت الدنيا على المسلمين وانخرطوا فيها؛ فتأثّر بذلك إيمانُهم.

2- تفاقم العنصرية والقبلية:
وتبعًا لتأثّر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة، وحدثت انقسامات كثيرة في صفوف المسلمين داخل الأندلس، حدثت انقسامات بين العرب والبربر، وكانت جذور هذه الانقسامات منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسِهم، بين المضريين والحجازيين، وبين العدنانيين (أهل الحجاز) والقحطانيين (أهل اليمن)، حتى إنه كان هناك خلافات وحروب كثيرة بين أهل اليمن وأهل الحجاز.

ولقد وصل الأمر إلى أن حدثت انقسامات بين أهل الحجاز أنفسِهم، بين الفهريين وبين الأمويين، بين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز بعضهم على بعض.

3- ظلم الولاة:
إضافة إلى حبّ الغنائم وتفاقم القبلية والنزعة العنصرية، وكخطوة لاحقة لهذا ظهر ما يمكن أن نسميه ظلم الولاة، فقد تولّى أمر المسلمين في الأندلس ولاة ظلموا الناس وألهبوا ظهورهم بالسياط، كان منهم - على سبيل المثال - عبد الملك بن قَطَن، ملأ هذا الوالي الأرض ظلمًا وجورًا، قسم الناس بحسب العنصرية وبحسب القبلية، أعطى المضريين وحدهم من الغنائم ومنع البربر وغيرهم، فانقسم الناس عليه وانقلبوا.
وعلى دربه سار يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي تولى من سنة 130 هـ= 748 م وحتى آخر هذه الفترة وآخر عهد الولاة كلية سنة 138 هـ= 755 م فقد انفصل هذا الوالي بالحكم كليّة عن الخلافة الأموية، وادعى أن إمارة الأندلس إمارة مستقلة، بالإضافة إلى إذاقة الناس من العذاب ألوانًا، فحدثت انكسارات جديدة وثورات عديدة بلغت أكثر من ثلاثين ثورة داخل بلاد الأندلس.

4- ترك الجهاد:
منذ قليل كنا نتحدث عن الانتصارات الإسلامية والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس وفتح فرنسا، ثم ها هي الدنيا إذا تمكنت من القلوب، وها هي العنصرية، وها هو ظلم الولاة يسلم الناس إلى هذه الثورات، وكرد فعل طبيعي جدا لكلِّ هذا، ترك الناس الجهاد، وتوقفت الفتوحات في فرنسا، وتوقفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، والتي كان يتمركز بها مجموعة لا بأس بها من النصارى منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وكقاعدة ربانية وسنة إلهية فما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا، يروي أبو داود عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ (نوع من الربا) وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ.

وهكذا كان حين ترك المسلمون الجهاد في فرنسا وأرض الأندلس، فسلط الله عليهم الذلّ، وانقسموا على أنفسهم، وانشغلوا بدنياهم.

أهم أحداث الفترة الثانية من عهد الولاة

نظرًا لتفاعل الأمور السابقة بعضها مع بعض نستطيع بإيجاز شديد أن نلّخص أهمّ الأحداث التي تمخّضت عنها الفترة الثانية والأخيرة من عهد الولاة فيما يلي:

أولا:
فُقدت كل الأراضي الإسلامية في فرنسا باستثناء مقاطعة "سبتمانيا"، والتي كانت قد فُتحت بسرية من سرايا موسى بن نصير، كما ذكرنا قبل ذلك.

ثانيا:
ظهرت مملكة نصرانية في المنطقة الشمالية الغربية عند منطقة الصخرة تسمى مملكة ليون.

ثالثا:
انفصل إقليم الأندلس عن الخلافة الإسلامية - الأموية في ذلك الوقت - وذلك على يد يوسف بن عبد الرحمن الفهري، كما ذكرنا قبل قليل.

رابعا:
انقسمت الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة، وثورات لا نهائية، كلٌّ يريد التملك والتقسيم وفق عنصره وقبيلته.

خامسا:
أمر خطير جدًا وهو ظهور فكر الخوارج الذين جاءوا من الشام واعتناق البربر له، وذلك أن البربر كانوا يعانون ظلمًا شديدًا وعنصرية بغيضة من قِبل يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ فاضطروا إلى قبول هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح واعتناقه؛ خلاصًا مما يحدث لهم ممن ليسوا على فكر الخوارج.

سادسا:
زاد من خطورة هذا الموقف ذلك الحدث الجسيم الذي صدع الأمة الإسلامية في سنة 132 هـ= 750 م وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، والذي كان قيامًا دمويًا رهيبًا، انشغل فيه العباسيون بالقضاء على الأمويين، ومن ثَمّ فقد ضاعت قضية الأندلس وغابت تمامًا عن الأذهان.

مقدمة

أصبح أمر الأندلس يحتاج في إصلاحه إلى معجزة إلهية، وبالفعل حدثت المعجزة بفضل من الله ومَنٍّ وكرمٍ منه على المسلمين، وذلك بدخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي إلى أرض الأندلس، وذلك في شهر ذي الحجة من سنة 138 هـ= مايو 756 م.

قصة عبد الرحمن الداخل (113- 172هـ)

لكي نفهم قصة دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك إلى أرض الأندلس، نعود إلى الوراء قليلًا حتى سنة 132 هـ= 750م وهو زمن سقوط بني أمية، فقد أعمل العباسيون السيوف قتلًا وتنكيلًا لكل من كان مؤهلًا من الأمويين لتولّي الخلافة، فقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء وأبناء أبناء الأمراء (الأحفاد) إلا قلّة ممن لم تصل إليهم سيوفُهم.

كان عبد الرحمن بن معاوية حفيدَ هشام بن عبد الملك الذي حكم من سنة 105 هـ= 723م إلى سنة 125 هـ= 743 م

نشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي، وكان الفاتح الكبير مسلمة بن عبد الملك عم أبيه يرى فيه أهلا للولاية والحكم وموضعًا للنجابة والذكاء، وسمع عبد الرحمن ذلك منه مشافهة، مما أثّر في نفسه أثرًا إيجابياً، ظهرت ثماره فيما بعد، حتى إذا أقبل ريعان شبابه انقلب العباسيون على الأمويين، وأعملوا فيهم السيف، وقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء بل وأحفادهم، وكل من توقعوا أن يكون أهلا للإمارة حتى لا يفكر فيها أحد، ولا يسلبها منهم أحد، فكانوا يقتلون كل من بلغ من البيت الأموي، ولا يقتلون النساء والأطفال، وكان هذا في سنة 132 هـ، وفي العراق كان عبد الرحمن بن معاوية يجلس في بيته إذ دخل عليه ابنه ابن الأربع سنين يبكي فزعًا، وكان عبد الرحمن بن معاوية مريضا معتزلًا في الظلام في ركن من البيت من أثر رمد في عينه، فأخذ يسكّن الطفل بما يسكن به الأطفال إلا أن الطفل ظلّ فزعًا مرعوبًا لم يسكن، فقام معه عبد الرحمن بن معاوية فوجد الرايات السود خارج البيت (رايات الدولة العباسية)، وكانت تعمّ القرية جميعها، فعلم أنّه مطلوب، رجع عبد الرحمن بن معاوية وأخذ أخاه الوليد بن معاوية وما معه من نقود، وترك النساء والأطفال وكل شيء؛ لأن العباسيين لم يكونوا يقتلون النساء ولا الأطفال، ولكنهم كانوا يقتلون كل من بلغ وكان مؤهلًا للخلافة، ثم خرج عبد الرحمن هاربًا نحو الفرات، وعند الفرات وجد عبد الرحمن بن معاوية وأخوه القوات العباسية تحاصر النهر، فألقيا بأنفسهما فيه وأخذا يسبحان، ومن بعيد ناداهما العباسيون أن ارجعا ولكما الأمان، حينها كان الوليد بن معاوية أخو عبد الرحمن بن معاوية قد أُجهد من السباحة، فأراد أن يعود، فناداه أخوه الأكبر أن لا تعد يا أخي وإلا فإنهم سوف يقتلونك، فردّ عليه إنهم قد أعطونا الأمان، ثم عاد راجعًا إليهم، فما أن أمسك به العباسيون حتى أن قتلوه أمام عين أخيه، عَبَر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلم أو يفكر من شدة الحزن على أخيه ابن الثالثة عشرة، ثم يَمّم جهة بلاد المغرب لأن أمّه كانت من قبيلة من قبائل البربر، فهرب إلى أخواله هناك، في قصة هروب طويلة جدًا وعجيبة عبر فيها الحجاز ومصر وليبيا والقيروان...

وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان وعمره تسع عشرة سنة فقط، وهناك وجد ثورة كبيرة للخوارج في الشمال الأفريقي كلّه وعلى رأسها عبد الرحمن بن حبيب، وكان قد استقلّ بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية، ولأنه كانت هناك كراهية شديدة جدًا بين الخوارج والأمويين (حيث إن الخوارج لم يرضوا ارتضاء سيدنا علي رضي الله عنه بتحكيم كتاب الله بينه وبين معاوية بن أبي سفيان الأموي رضي الله عنه في موقعة صفين، ومن ثَمّ فقد خرجوا عليه وسُمُّوا من بعدها بالخوارج، ومن حينها وهم يبغضون الأمويين) فقد كان عبد الرحمن بن حبيب يسعى هو الآخر للقضاء على عبد الرحمن بن معاوية حين علم بأمره، فحين قدم عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان اجتمع عليه الخوارج وكادوا أن يقتلوه، فهرب من جديد إلى برقه (في ليبيا)، وظل مختبئًا فيها عند بعض أخواله هناك طيلة أربع سنوات كاملة، حتى سنة 136 هـ= 754 م وكان قد بلغ من العمر ثلاث وعشرين سنة، وظل عبد الرحمن بن معاوية يفكر في أمره، أيظهر فيُقتل أم يظل مختبئا طوال العمر؟! ففي أي قطر من بلاد المسلمين هو مطلوب الرأس، ففي الشام في بلاد المشرق الإسلامي مطلوب من العباسيين، وفي الشمال الإفريقي في بلاد المغرب الإسلامي مطلوب من الخوارج، فهل يظل مختبئًا طوال حياته وهو سليل الأمراء والخلفاء؟! أو هل يظل مختبئًا في مكانه والأمويون في كل مكان يُقتلون ويُذَبحون؟! أم يحاول أن يقيم للأمويين مجدًا من جديد؟!

وهنا جال بخاطره أن يذهب إلى الأندلس، وقد كانت الأندلس أصلح البلدان لاستقباله وذلك لأنها
أولًا: أبعد الأماكن عن العباسيين والخوارج،
ثانيًا: لأن الوضع في الأندلس ملتهب جدًا، وذلك على نحو ما ذكرنا في عهد يوسف بن عبد الرحمن الفهري وفي نهاية الفترة الثانية من عهد الولاة؛ ففي هذا الجوّ يستطيع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد؛ ولو كانت تابعة للخلافة العباسية ما استطاع أن يدخلها، كما أنها لو كانت على فكر الخوارج ما استطاع أيضا أن يدخلها؛ فكانت الأندلس أنسب البلاد له على وعورتها واحتدام الثورات فيها.

عبد الرحمن بن معاوية ودخول الأندلس

في سنة سنة 136 هـ= 753 م بدأ عبد الرحمن بن معاوية يعدّ العدة لدخول الأندلس، فعمل على الآتي:

أولًا: أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثرة في الحكم فيها.

ثانيًا: راسل كل محبي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علِمَهم من مولاه بدر، والحق أن كثيرًا من الناس في عهد الدولة الأموية وفي غيرها كانوا يحبون الأمويين كثيرًا، فمنذ ولاية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على الشام في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمسلمون في أقطار الدولة الإسلامية يحبون بني أمية حبًا شديدًا، فقد اشتهر بنو أمية على مرّ العصور بالسخاء الشديد والسياسة والحكمة، واكتساب ثقة الناس وحسن معاملتهم، والجهاد في سبيل الله ونشر الدين وفتح البلاد، فكان لبني أمية داخل بلاد الأندلس الكثير من المريدين والكثير من المحبين حتى من غير بني أمية من القبائل الأخرى المختلفة.

ثالثًا: في ذكاءٍ شديد وحرصٍ أشدّ راسل عبد الرحمن بن معاوية البربر، يطلب معونتهم ومساعدتهم، وكانوا في ذلك الوقت على خلاف شديدٍِ جدًا مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ لأنه فرّق بينهم وبين العرب، فهم يريدون أن يتخلّصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عاملهم بهذه العنصرية.

رابعًا: راسل كل الأمويين في كل الأماكن التي هربوا إليها يعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول الأندلس ويطلب معونتهم ومددهم.

وبالفعل بدأ في تجميع الأعوان، واستغرق ذلك عامين حتى قدم عليه رسول من عند مولاه بدر سنة 138هـ= 755 م يقول له إن الوضع قد تجهّز لاستقبالك هناك، وحينما سأله عن اسمه فقال: غالب التميمي، فردّ مؤملا مستبشرًا بهذا الاسم: الحمد لله، غلبنا وتم أمرنا.
وبدأ يعدّ العدّة ويجهّز السفينة التي أخذته منفردًا إلى بلاد الأندلس.

عبد الرحمن الداخل في الأندلس

نزل عبد الرحمن بن معاوية رحمه الله على ساحل الأندلس بمفرده، واستقبله هناك مولاه بدر، ثم انطلق معه إلى "قرطبة"، كان يحكم الأندلس في ذلك الوقت يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكالعادة كان في الشمال يقمع ثورة من الثورات، ذلك الوقت الذي قال عنه المؤرخون : كاد الإسلام أن ينتهي من بلاد الأندلس في عام ثمانية وثلاثين ومائة.

ويدخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس ويبدأ في تجميع الناس من حوله، محبّي الدولة الأموية، والبربر، وبعض القبائل المعارضة ليوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقد جاء بعض الأمويين من بقاع الأرض المختلفة، ومع ذلك لم يجد العدد كافيًا والذي يستطيع به أن يغيّر من الأوضاع.

فكّر عبد الرحمن بن معاوية في اليمنيين الذين كانوا على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري الحجازي رغم كونه أيضًا من الحجاز، لكنهم رأوا أنهم ليس لهم طاقة بيوسف بن عبد الرحمن الفهري، فقبلوا أن يتّحدوا مع عبد الرحمن بن معاوية.

كان على رأس اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقرّ الرئيسي لهم أشبيلية، وهي المدينة الكبيرة التي تعدّ حاضرة من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إشبيلية واجتمع طويلًا مع أبي الصباح اليحصبي، واتفقا على أن يقاتلا سويًا ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري.

قبل القتال كان عبد الرحمن بن معاوية قد أرسل عدة رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب ودّه وأن يسلم له الإمارة ويكون الفهري رجلًا من رجاله في بلاد الأندلس، بحكم أنه (عبد الرحمن) حفيد هشام بن عبد الملك من رموز الخلافة الأموية، لكن يوسف الفهري رفض كل ذلك، وجهز جيشًا وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية ومن معه.

موقعة المسَارة

من المؤسف حقًا أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات وكثرة الفتن والانقلابات جعلت الحلّ العسكري هو الحلّ الحتمي في ذلك الوقت.

ففي ذي الحجّة سنة 138 هـ= مايو 756 م وفي موقعة كبيرة عُرفت في التاريخ باسم موقعة المسارة أو المصارة، دار قتال شرس بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من جهة وعبد الرحمن بن معاوية الذي يعتمد بالأساس على اليمنيين من جهة أخرى.

وقبل القتال كان أبو الصباح اليحصبي (رئيس اليمنيين) قد سمع بعض المقولات من اليمنيين تقول: إن عبد الرحمن بن معاوية غريب عن البلاد، ثم إن معه فرس عظيم أشهب، فإن حدثت هزيمة فسيهرب من ساحة القتال ويتركنا وحدنا للفهريين.
وصلت عبد الرحمن بن معاوية تلك المقولة، فقام وفي ذكاءٍ شديد يفوق سن الخامسة والعشرين وذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي وقال له: إن جوادي هذا سريع الحركة ولا يمكّنني من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيَني بغلتك فعلت، فأعطاه الجواد السريع وأخذ منه البغلة يقاتل عليها، حينئذ قال اليمنيون: إن هذا ليس بمسلك رجل يريد الهرب، إنما هو مسلك من يريد الموت في ساحة المعركة، فبقوا معه وقاتلوا قتالًا شديدًا، ودارت معركة قوية جدًا، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، وفَرّ يوسف الفهري.

عبد الرحمن الداخل وأمارات نجابة وعلم وذكاء

كان عادة المحاربين في ذلك الزمن أن يتبع الجيشُ المنتصرُ فلول المنهزمين والفارّين، ليقتلوهم ويقضوا عليهم، ومن ثَمّ على ثورتهم، وحين بدأ اليمنيون يجهّزون أنفسَهم ليتتبعوا جيش يوسف الفهري منعهم عبد الرحمن بن معاوية وقال لهم قولةً ظلّت تتردد في أصداء التاريخ، أمارةً على علم ونبوغ، وفهم صحيح وفكر صائب في تقدير الأمور، قال لهم:
لا تتّبعوهم، اتركوهم، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم.

يريد رحمه الله أن هؤلاء الذين يقاتلوننا اليوم سيصبحون غدًا من جنودنا، ومن ثَمّ عونًا على أعدائنا من النصارى وغيرهم في ليون وفرنسا وغيرها.

فهكذا رحمه الله كان ذو نظرة واسعة جدًا تشمل كل بلاد الأندلس، بل تشمل كل أوروبا، بل إني أراه بذلك التفكير يستطيع أن يعيد ملك الشام بعد ذلك أيضًا إلى أملاك الأمويين، وذلك لما يلي:

أولًا: ليس في قلبه غلّ ولا حقد على من كان حريصًا على قتله منذ ساعاتٍ قليلة.

ثانيا: الفهم العميق للعدو الحقيقي وهو النصارى في الشمال.

ثالثا: رغم كونه لم يتجاوز الخامسة والعشرين إلا إنه كان يمتلك فهمًا واعيًا وإدراكًا صحيحًا، وفقهًا وعلمًا وسعة اطلاع، علم به أنه إن جاز له شرعًا أن يقاتلهم لتجميع المسلمين حول راية واحدة، فهو في ذات الوقت لا يجوز له شرعًا أن يتتبعهم، أو أن يقتل الفارّين منهم، ولا أن يُجْهِزَ على جريحهم، ولا أن يقتل أسيرهم، لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام وليس حكم المشركين، وحكم الباغي في الإسلام أنه لا يتتبع الفارّ منهم، ولا يُقتل أسيره، ولا يجهز على جريحه، بل ولا تؤخذ منه الغنائم.

بين عبد الرحمن الداخل وأبي الصباح اليحصبي

بعد انتهاء موقعة المسارة قام أبو الصباح اليحصبي في اليمنيين وقال لهم: لقد انتصرنا على عبد الرحمن الفهري وجاء وقت النصر على غيره، يُعرّض بعبد الرحمن بن معاوية، هذا الذي كان يقاتل معه منذ ساعات، ويرى أنه إن انتصر عليه وقتله (عبد الرحمن الداخل)دانت لهم بلاد الأندلس كلها.

لكن اليمنيين لم يوافقوه على ذلك؛ ليس حبًا في عبد الرحمن الداخل وإنما خوفًا منه، فقالوا له: إن هذا الرجل ليس بالسهل. وتصل هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية، فما كان منه إلا أن أسرّها في نفسه، ولم يُبْدها لهم، ولم يُعلمهم أنه يعلم بما يضمرونه له، لكنه أصبح على حذرٍ شديدٍ من أبي الصباح اليحصبي.

لم يرد عبد الرحمن بن معاوية أن يحدث خللًا في الصفّ المسلم في هذه الأوقات، لم يرد أن يحدث خللًا بين الأمويين ومحبي الدولة الأموية وبين اليمنيين في ذلك الوقت المليء بالثورات والمعارك الداخلية، إنما كان كل همّه هو تجميع الناس ثم حرب النصارى بعد ذلك، وبالفعل وهناك وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل أبا الصباح اليحصبي عن مكانه، واستطاع أن يتملك زمام الأمور كلها في الأندلس.

عبد الرحمن الداخل وبداية فترة الإمارة الأموية

بعد موقعة المسارة والسيطرة على منطقة قرطبة والجنوب الأندلسي لُقّب عبد الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا، كما كان له كثير من الأيادي البيضاء على الإسلام في بلاد الأندلس كما سنرى.

ومنذ أن تولّى عبد الرحمن الداخل الأمور في بلاد الأندلس عُرفت هذه الفترة بفترة الإمارة الأموية، وتبدأ من سنة 138هـ= 755 م وتنتهي سنة 316 هـ 928 م وسميت "إمارة" لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية، سواء كانت في عصر الخلافة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.

بدأ عبد الرحمن الداخل ينظّم الأمور في بلاد الأندلس، كانت هناك ثورات كثيرة جدًا في كل مكان من أرض الأندلس، وبصبر شديد وأناة عجيبة أخذ عبد الرحمن الداخل يروّض هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى، وبحسب ما يتوافق معها أخذ يستميل بعضها ويحارب الأخرى.

وفي فترة حكمه التي امتدت أربعة وثلاثين عامًا متصلة، من سنة 138هـ= 755 م وحتى سنة 172 هـ= 788 م كانت قد قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة، وهو يقمعها بنجاح عجيبٍ الواحدة تلو الأخرى، ثم تركها وهي في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ابن خلكان : وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان،. تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد – القاهرة 1948م.
- المراكشي : وثائق المرابطين والموحدين ، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة 1997 م .

- المسعودي : مروج الذهب ومعادن الجوهر ، تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد ، القاهرة 1958 م .

- المقري : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، ج1 ، تحقيق إحسان عباس ط 1. دار صادر بيروت 1968
- ابن خلكان: وفيات الأعيان ، جزء 2 ، تحقيق إحسان عباس ط 1 ، دار صادر بيروت 1998.

- ابن خير: فهرسة ما رواه عن شيوخه ، تحقيق فرانشيسكو كوديرا ، مكتبة الخانجي ، ط3 ، 1997 م .
- ابن عذاري : البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب". تحقيق : كولان وبروفنسال ، ج2 ، بريل ، 1951م .

- ابن عذاري : البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب". تحقيق : ليفي بروفنسال ، ج3 ، دار الثقافة بيروت ، 1983م .

- ابن عذاري : البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب". تحقيق : إحسان عباس ، ج4 ، دار الثقافة بيروت ، 1983م .
- حسين مؤنس : شيوخ العصر في الاندلس ، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر ، 1965 م .

- حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والاندلس ، دار المستقبل ، القاهرة 1980 م.
- رضوان البارودى : دراسات وبحوث في تاريخ وحضارة المغرب والأندلس ، مركز الإسكندرية للكتاب ، 2006 م .

- الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1984م.
- عبد الرحمن علي الحجى ، تاريخ الاندلس من الفتح الاسلامى حتى سقوط غرناطة ، دمشق 1981 م .
- عبدالحميد العبادي : المجمل في تاريخ الأندلس ، ط 2 ، دار القلم ، 1964 م .
- مصطفى الشكعة : المغرب والأندلس ، آفاق إسلامية وحضارة إنسانية ، ط1 ، دار العلم للملايين 1987 .
 الدوريات :
- دائرة معارف الشعب : عدد رقم 61 مطابع الشعب ، 1959
- دائرة المعارف الإسلامية: تعريب أحمد الشنتناوي وإبراهيم زكي خورشيد وعبد الحميد يونس. مراجعة: د. محمد مهدي علام. دار المعرفة. بيروت. "د.ت".
- دائرة معارف الشعب : عدد رقم 64 ، سنة 1959
- مجلة المناهل : العدد التاسع والعشرون ، السنة الحادية عشرة، جمادى الثانية 1404هـ - مارس 1984م

انور محمود زناتي - كلية التربية - جامعة عين شمس .
 
 
 
 
 
 
 
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

||

أرسل أسئلتك في رسالة الآن هنا

http://abdenour-hadji.blogspot.com/

عنواني على الفايس بوك:

قناتي على اليوتوب

أعلن معنا... إعلانات الآن هنا ...



Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More