صفحات من تاريخ الشرق الادنى القديم
- الاسطورة السومرية
- التاريخ والبحوث الاثارية
- وادي النيل والاساطير
- التاريخ والاثار في مصر
- في بلاد الشام
- حوار الحضارات قبل الاسكندر
- حوار الحضارات في الفترة اليونانية
- المشرق العربي في العصر الروماني
- السلطة الالهية في الشرق الادنى القديم
- العراق القديم
- التجارة في الجزيرة العربية
الحوار الحضاري في المشرق العربي
في أيام الإمبراطوريات القديمة
(1) الأسطورة السومرية
تروي الأسطورة أنه لم يكن ثمة شيء قائما في غابر الأزمان سوى الماء الغَمْر الواسع. كان هذا الغمر يسمى إبْسو وله اله اسمه أَبْسو. وكانت لأبسو زوجة اسمها تِيامات. كانت هذه دميمة الخلق وحشية المظهر ذميمة المخبر فكانت تجمع في نفسها كل مظاهر القوة والرعب، وكانت تتخذ من أشكال الحيوان المائي والبري ما يلقي الرعب أو قد يثير الاشمئزاز والقرف. وعلى شاكلة تيامات كان أولادها الذين كانوا يتخبطون داخل هذا الغمر الواسع. جميع أفراد هذا الفريق كانوا آلهة شريرة.
وكان لإبسو سيد آخر اسمه إيا (أو إنكْي) وهذا كان يملك أسرار المعرفة، ومن ثم لم يكن شريرا بالمعنى الكامل. وكانت زوجته دَمْكِيا بعيدة عن الشر أيضا.
وكان الفضاء الفسيح الذي يعلو الغمر يرئِس الآلهة فيه أنو وكانت زوجته تدعى أَنْتوم. وهذان الزوجان من الآلهة انجبا إلّيل (إنْليل) إله الريح العاتية، وكان له تابع اسمه أنوغي (وسمي غيغي أيضا). وإلّيل هو الذي خلف أباه أََنو لما فاضت روحه.
وكان لألّيل أخت تدعى إنّانا هي إلهة الحب والحرب، وقد انتقلت هذه فيما بعد غربا فصار اسمها عِشتار. وكان بين آلهة الفضاء لوغال دُل زاغا، الذي تبدل اسمه فيما بعد وأصبح مَرْدوخ (وسنستعمل له هذا الاسم في روايتنا). وكان من الطبيعي أن يوجد اله يبادل إنّانا الحب، ومن ثم فقد تم خلق دوموزي، الذي أصبح اسمه في الغرب فيما بعد تموز. وكان ثمة إلهة اسمها إرْشْكيغال هي سيدة العالم السفلي، الذي لم يكن مكانه محددا قط. وهذه كانت تطلق الأوبئة والأمراض حين يحلو لها ذلك. ومع أنه كان ثمة آلهة أخرى، فإننا سنكتفي بهؤلاء الآن إلى أن يرد إله له دور معين فنشير إليه، إلا أننا يجب قبل ذلك إن نشير إلى أدَد الذي لم يكن له عمل معين، ولكنه كان يقوم بالدور الذي يكلف به من قبل الآلهة الكبيرة والقوية. والمهم أنه فيما كان سكان إبْسو آلهة الشر، كانت آلهة الفضاء هي آلهة الخير. والخير والشر يختلفان ويتخاصمان، ويتم ذلك بواسطة أعداد مختلفة من الآلهة الصغرى.
وتِيامات هي التي أثارت الحرب. ذلك إنه عزّ عليها أن يسود السلام والهدوء الفضاء، فجمعت هُوَلَها وتسلم القيادة زوجها أَبْسو ومومو وكِنْغو، وكان على رأس القيادة الخيّرة إيا مع إلّيل وسِن (اله القمر) وشَمَش وأنوكي. لم تطل المعركة، وانتهت بقتل أَبْسـو. وهنا ثارت ثائرة تِيامات فتزوجت كنغو وأخذت تعد لحرب ثانية تثأر فيها لقتل زوجها أَبْسو.
أعدت نفسها وقواتها لمعركة فاصلة مع الآلهة المضادة: زادت أعوانها عددا ونوعا، وجاءت بجماعة من نسل الشياطين الأشداء لنصرتها، وضمت الضباب والغيوم والزوابع والأعاصير والبرق تحت جناحيها، وجعلت كِنْغو على القيادة، أن تزوجته.
أدرك إيا، قائد جناح الخير في المعركة، أنه لن يتمكن من مقاومة هذه القوى الشريرة. فاستشار إنشار الإله الحكيم، فارتأى هذا وجوب عقد مجمع للآلهة لتتخذ القرار المناسب للوضع الراهن. عقد الاجتماع وحضره الإله الشاب مَرْدوخ (ابن إيا) الذي كان قد أصبح الإله الشمس. في هذا الاجتماع عَيَّن الآلهة مَرْدوخ قائدا عاما للحملة ضد تِيامات وجموعها.
أعدّ مَرْدوخ نفسه للمهمة: حمل قوسا ورمحا وهراوة، وملأ نفسه نارا، وسير البرق أمامه، وأخذ شبكة كبيرة لاصطياد تِيامات نفسها، وأثار العواصف الهوجاء، وركب الزوبعة التي جرتها خيول أربعة قوية، وتمنطق بالتعاويذ والتمائم.
لما رأى كِنْغو، زوج تيامات الجديد وقائد القوى الشريرة، استعداد مَرْدوخ أُسْقِط في يده، فحنقت تيامات عليه ومن معه واشتد غيظها. دعاها مَرْدوخ لمنازلته، فقبلت التحدي. وبدأت بالتغريم بقصد تقييده بسحرها ورُقاها، فلم يؤثر ذلك فيه. عندها ألقى مَرْدوخ شبكته حولها، ونفخ الريح في وجهها، فامتلأت أحشاؤها، ثم طعنها بالرمح فشقها شطرين. ولم يستطع أتباعُها الهرب لان مَرْدوخ هاج الرياح الأربع عليهم فتسّمروا في أماكنهم: قيض مَرْدوخ عليهم وداسهم مع قائدتهم، ثم فلق رأسها بهراواته. وأخذ شقي تِيامات فجعل من الواحد الَجلَد (قبة السموات) ومن الآخر الأرض.
أصبح مَرْدوخ رأس الآلهة، فاعد لهم أماكن للسكن، وصنع النجوم كلها ووضع قواعد سيرها وحركاتها.
سُرّت الآلهة بادئ بدء، لكنها لم تلبث أن ضجرت واحتجت بأنه ليس ثمة من يعبدها ويقدم لها القرابين. فأعلن مَرْدوخ أنه سيخلق الإنسان من دم وتراب. واتفق الآلهة على أن يكون كِنْغو الضحية ليمزج دمه بالتراب.
وهكذا تم الأمر؛ قتل كِنْغو، ومزج دمه بالتراب، فتم خلق الإنسان من هذا المزيج.
وأخذ بنو البشر يتزايدون، وكانوا يجمعون قوتهم اليومي من نبات البرية، ويقنصون الحيوانات التي كانت تسرح وتمرح في الأرض الواسعة، ويصطادون السمك من نهري أدِغْلاتو (دجلة) وفُراتو (الفرات) والنهيرات التي تصب فيهما.
وأطلت الآلهة على فئات الشعب التي كانت تقدم لها القرابين فتصعد رائحتها لتزكم أنوفها فكانت تسر بذلك.
عملت الآلهة، بإرشاد مَرْدوخ وإدارته إلى تعليم الإنسان كيف يدجن الماعز والغنم، وحتى الثيران والحمير، وكيف يزرع الشعير والقمح والنخيل. وأَرْشدَ البشرَ إلى إقامة الاخصاص من سعف النخل والأكواخ من جذوعه، وحتى إلى بناء أكواخ من الطين الصلصالي الموجود هناك بكثرة.
إلا أن إلّيل (إنْليل) الذي كان أحد كبار الآلهة واله الرياح والأعاصير، لم يعجبه أن يظل أتباعه متفرقين في بيوت وأكواخ واخصاص متباعدة وأرادهم على أن يجتمعوا في مكان واحد – في مدينة. اختار من الأرض قطعة واسعة، وبنى حولها سورا، وأقام في الجزء المرتفع منها هيكلا سُمي "زاغوراة" لعبادته وحمل الناس على سكنى المكان المسوّر.
كان القوم أول الأمر يخرجون صباحا إلى حقولهم أو مراعيهم أو أماكن الصيد والقنص، ويعودون مساءً، ولم يكن هذا ما قصده إلّيل من تجميع السكان في المدينة. أرادهم أن يقيموا – أو بعضهم على الأقل – في المدينة اليوم كله – نهاره وليله. فحملهم على أن ينقلوا ما يحصلون عليه إلى المدينة، ليتبادلوه فيما بينهم فيها. فكان بدء الاتجار.
ورأى إلّيل أن البيوت والأسوار والزاغوراة (الهيكل) تحتاج إلى صيانة وإصلاح. فارتأى أن يكون ثمة صنّاع يقومون بهذه المهمات. وعندها كان لا بد للمدينة من ينظم شؤونها ويدبر أمورها فكان أن أوجد نظاما كان الملك أو الحاكم يتربع على رأسه. وهذا كان بطبيعة الحال يقوم بعمله نيابة عن الإله.
هكذا أوجد إلّيل مدينة نيبور (نغّار اليوم). أُعجبت الآلهة بالذي أنشأه إلّيل فأخذت ببناء مدن لأتباعها. فبنى إنو أورُك (ورقة أو وركاء) وهي الوارد اسمها في العهد القديم باسم إرك. وأقام إيا أَريدو (بو شهرين) وأنشأ مَرْدوخ برسيبو، ورفع سِن – اله القمر – سِبّار (أبو حبة) ولارْسا (سَنْكرا). أما إنانا (عشتار) فبنت كيش وكانت حصة إرْشْكيغال اور (تل المقير). وكان ثمة مدن أخرى مثل جَرْصو ولاغاش (تِلوة)، هذا فضلا عن مدن أخرى كثيرة سكتت الأسطورة عنها أو نسيها رواة الأساطير فيما بعد.
هذه الأساطير السومرية التي تعود، على ما توصل إليه البحث العلمي فيها، إلى الألف الخامس قبل الميلاد على الأقل. والشعب الذي أعطى هذه الأساطير نماذجها المختلفة أو حتى المتباينة في التفصيل، هو الشعب السومَري الذي استقر في بلاد سومَر (جنوب أرض الرافدين) في أزمنة سحيقة، وهو الذي بدأ حياة المدينة في تلك البقعة من الأرض. ومن هنا فإن الدور الأول للحضارة هناك هو الدور السومَري.
على أنه يتوجب علينا هنا أن نذكر ملاحظة لها الكثير من الأهمية بالنسبة للقارئ. ذلك أن الأسطورة هذه لم يدونها السومَريون مع أنهم كانوا قد اخترعوا الكتابة، بل رويت فترة طويلة تنوعت خلالها الروايات بشأنها، ولم يدون أكثرها إلا في النصف الأول من القرن الثامن عشر قبل الميلاد أو بعد ذلك في بابل. ولذلك فهي معروفة لدى الباحثين بالأساطير البابلية غالبا.
هذه الأساطير التي تتعلق بوجود الإنسان وتطوره الأول في حياته وقيام المدن ووصف الحياة الأولى، هي جزء من الأساطير التي أبدعها الإنسان القديم للتحدث عن مشكلاته وطموحاته. فهناك إلى جانب أسطورة الخليقة أسطورة غلغامش واهتمامه بالحصول على عشبة الحياة الأبدية وأسطورة الطوفان التي دخلت سابقتها وقصة "أدابا" الذي يود أن يرقى إلى صف الآلهة وذلك بالطيران المستمر نحو السماء، وقصة هبوط عشتار إلى العالم السفلي، وقصص إرّا وإتانا وانزو. ومثل ذلك كثير.
(2) التاريخ والبحوث الآثارية
كانت المصادر الوحيدة المكتوبة التي اعتمدها المؤرخون حتى القرن التاسع عشر تشمل "بقية من تاريخ لبابل كتبه (باليونانية) بيروسُّ وهو كاهن بابلي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد.
وهذا التاريخ مجموعة من القصص والأساطير والحكايات مرتبة بعض الشيء. ويقسم الكاتب تاريخ بابل إلى فترتين: واحدة ما قبل الطوفان وثانية بعده. ويروي أن ملوك ما قبل الطوفان كانوا عشرة حكموا ما مجموعه 000ر422 سنة، أما الذين حكموا بعد الطوفان فقد انتظمتهم خمس وعشرون أسرة حكمت مدة 525ر36 سنة!
وكان لدى الباحثين ما ورد في كتب المؤرخين والجغرافيين الكلاسيكيين مثل هيرودتس وبليني وسترابون. وثمة ما جاء في العهد القديم من الكتاب المقدس الذي كان يعتبر مصدرا أصليا للرواية التاريخية الصحيحة يومها. وأخيرا ما ورد عند اخباري العرب الأوائل الذين دونوا ما وصل إليهم. لكن لا يجوز أن يغرب عن البال أن الكثير من هذه الروايات التي نقلها هؤلاء الكتّاب قصد بها العبرة، أي لتبيان ما كان عليه القوم من ضلال قبل أن يصلهم الهدى.
كان ثمة بين يدي المؤرخين بدءا من أواسط القرن التاسع عشر الكثير من الآثار الضخمة واللقى الأكبر عددا نتيجة أعمال التنقيب الأثري الذي قام به البعض تطفلا بادئ الأمر، ولكنه أصبح عملا منظما يقوم به علماء آثار كبار من الأجانب ومن أهل البلاد.
فقد كان بوتا، قنصل فرنسا في بغداد، أول من ضرب معولا في سبيل البحث عن الآثار في أرض الرافدين (1843)، إذ أنه قام بالحفر حول كُويُونْجِك، مقابل مدينة الموصل. وقد اتضح فيما بعد أنها كانت آثار نينَوى الأشورية. وقام بعد ذلك بأعمال حفر في خورسـاباد وهي دار شاروكين المدينة التي بناها سرجون الثاني الأشوري (حكم 721-705 ق.م.) وبعد سنتين من عمل بوتا قام لايارد، القنصل البريطاني، بالحفر في نَمْرود، ولما تخلى عن العمل خلفه رسّام، كما خلف بالاس بوتا.
في أواخر القرن قام لوفتس بالتنقيب بين خرائب وَرَقة (أو الوركاء) فاكتشف أنها كانت أورُك. واكتشف تشرشل أن سَنْكرا هي لارسا القديمة. وبدأ تايلور الحفر في تل المقير فاتضح أنها هي أور، كما تبين نتيجة الحفر في ابوشهرَين أنها هي إريدو وقام دوسارزاك بالحفر في تِلْوة فتبين للآثاريين أنها لاغاش.
وكان ثمة كشف أثري خطف الأسماع في 1926 إذ كان وولي يقوم بالحفر في موقع اور سنوات أربع، فكشف عن عظمة المدينة. (بهذه المناسبة يعود الكشف عن قبر توت عنخ آمون في مصر إلى الفترة نفسها، وكان أيضا كشفا رائعا). وكان بين كبار رجال الآثار الذين أظهروا ثروة البلاد القديمة كولدواي.
ولما عنيت إدارة الآثار العراقية بمراقبة أعمال الكشف الأثري والمشاركة فيها برز عراقيون مثل طه باقر وفؤاد صقر وسواهما الذين قاموا بالتنقيب عن أبو شهرين (إريدو) وسواها لكن هذه التنقيبات التي كشفت عن آلاف الألواح المدونة بالكتابة المسمارية السومرية لم تقرأ لأن رموز الكتابة لم تكن قد حُلت بعد.
ولن نطيل على القراء في رواية قصة حل رموز الكتابة المسمارية، على طرافتها، فالمهم هو أن هنري رولنصون، العالم البريطاني نجح في سنة 1852 في حل رموز الكتابة المسمارية السومرية الأصل، والتي أستعملها أهل أرض الرافدين والجوار بعدهم قرونا طويلة.
عندها انفتح أمام الباحثين مجال واسع. فالمواد الكتابية التي وجدها الباحثون في هذه النقوش وفي آجرات القصور الملكية وفي مكتبة اشور ناصر بعل كانت كافية لأن توضح لنا حضارة قامت في مدنها ولها سياساتها وإدارتها وحروبها وعلومها السماوية والأرضية وأساطيرها. فنحن الآن نجد بين يدينا كل هذا مقروءا مترجما موضحا. وأصبحنا نستطيع أن نؤرخ للسومريين وخلفائهم في أرض الرافدين. فنترك الأسطورة خلفنا ونقرأ للمؤرخين ورجال الآثار. فإذا مللنا قراءتهم عدنا إلى الأساطير نقرأها للذة الأدبية التي تظهر لنا كيف فسّـر هؤلاء القوم الأولون قيام المدن الهامة وتطورها، بعد أن كان القوم مبعثرين أو متجمعين في قرى أو مجرد مجمعات للتعاون على الحياة!
(3) وادي النيل والأساطير
الأسـاطير موجودة أيضا في وادي النيل، والآلهة كثر قبل قيام الدولة الموحدة في أواسط القرن الواحد والثلاثين قبل الميلاد. ولا أساطير بدون آلهة.
وبعض الآلهة الذين ترد أسماؤهم في الأساطير، والذين ظلوا يعبدون في مصر الفرعونية في أزمنة متفاوتة وأماكن مختلفة نذكرهم فيما يلي:
1. حورس اله ذو حلول جلي في أشكال مختلفة، وكان يبدو في شكل رأس الصقر في الوجه البحري.
2. جِب رب الأرباب وهو الذي أشرف على المصالحة بين حورس وست.
3. ست اله الوجه القبلي الأكثر أهمية.
4. بْتاح انجب ثمانية آلهة سمى كلا منهم بْتاح، لكن لما توزعهم السكان على أنحاء مختلفة بدلوا هذا الاسم بأسماء محلية.
5. حَتْحور هي الآلهة التي كانت نظيرة حورس.
6. وثمة ايزيس الآلهة الذكية.
7. توت الذي حكم العالم المليء بالأرواح (مصر؟) في الأزمنة الساحقة لمدة 7726 سنة.
8. نخِبت الهة الرحمة.
وهنا يجدر بنا أن نتذكر أن أرض الرافدين، على تنوع تربتها وتشعب موارد المياه النهرية فيها وقربها من مناطق جبلية في الشرق والشمال (وبعض تلك البلاد هو جبلي في الشمال) والشمال الغربي وتعرضها لهجمات كثيرة من تلك المناطق واستعداد الصحراء المصاقبة لها أن تلقي إليها بأبنائها الذين تضيق بهم من أقدم الأزمنة، ووقوعها على طرق تمر بها من الشرق والغرب والشمال والجنوب جعل منها مجالا للأسطورة خصبا. فالأسطورة تنمو وتترعرع على القوي من الأمور والمتنوع من الأحداث. وذلك يجعل منها شيئا له ضجيج وفيه موضوع كبير تخلق له الأوصاف، وتقام حوله حفلات الفرح والحزن والسرور والألم. وفيه تبدو الشجاعة ويشتد القتال أحيانا. ومن ثم فالأسطورة هناك كان لها ضجيج.
لكن على العكس من ذلك لا نجد القصة/الأسطورة المصرية تتمتع بهذه الصفات. فالماضي كما تم وكما رسمته الأسطورة هو مسار مستقيم ورتيب. فهو ابن النيل الذي يسير مطمئنا في مجراه. يرتفع الماء فيه في أوقات معروفة فيفيض ويحسن إلى الأرضين والناس. وقد لا يرتفع الماء ولا يفيض النهر فيكون البكاء وصرير الأسنان. ولكن هذا يحدث الألم والأسى، كما أن الفيضان يدعو إلى البهجة والسرور. والأول يحمل الناس على الصلاة وما اليها، والثاني يحتفل به في ليال ملاح وأيام بهجة.
فليس ثمة قصص ملحمية توغل في أعماق الزمن وليس هناك موضوع عظيم يتناول الخلق على أيدي آلهة متخاصمة، يربح فيها فريق فيوجِد الناس ليعبدوه، فيقرّبون الضحايا التي تصل رائحتها إلى أنوف الآلهة فتفرح حتى هذه مع الناس. ولا نجد في الأسطورة أو الحكاية المصرية موضوعا عظيما مثل القدر الذي يوقع الإنسان في شباكه؛ أو في محاولته التخلص من واقع قادته إليه نياته السيئة فيخطر في باله التوبة والوعد بتقديم القرابين. وقد يتم له ذلك فتكون ثمة قصة لها مغزى أخلاقي.
والأسطورة الإلهية الأهم في مصر هي تلك المتعلقة بحورس وايزيس واوزيريس. والتي تغيب فيها ايزيس في أواخر الصيف، عند انقضاء الموسم مع فيضان النيل بحثا عن اوزيريس وتعثر عليه في الربيع عندما تبدأ الأرض بالعطاء، فتكون عودته عودة الحياة إلى الأرض. وهي أسطورة رتيبة رتابة مجرى النيل ومسيله.
قبل أن ننهي هذا العرض المقتضب للأسطورة المصرية نرى أن ننقل نموذجا من أسطورة تتعلق بوضع كهنة مَنَف لبيان اللاهوت الـمَنَفي ودونت على بردية في الأيام الأولى للدولة القديمة حوالي 3000 ق.م. لكن في سنة 710 ق.م. رأى شاباكا (ملك مصر النوبي) أن البردية قد تلفت فنقش ما تبقى منها على حجر يعرف باسم "حجر شاباكا" وفي الأصل كان حورس وسِت إلهي الوجهين القبلي والبحري على قدم المساواة، لكن على حجر شاباكا تقلص موضع ست فحُرم فيما بعد من الإرث، إذ كانت البلاد قد توحدت، وأصبح حورس هو الوريث . والنص الذي ننقله هنا يظهر هذه النظرة بوضوح. (أي نص سنة 710 ق.م.)
"أمر جب ربُ الأرباب بأن يجتمع التاسوع لديه. لقد حكم بين حورس وسِـت وأنهى النزاع. وجعل سِت ملك الوجه القبلي في أرض الوجه القبلي، حتى المكان الذي ولد فيه، وهو سو. وجعل جب حورس ملك الوجه البحري في أرض الوجه البحري حتى المكان الذي أغرق فيه أبوه (اوزيريس) وهو تقسيم الأرضَين (اسم لمكان أسطوري). وهكذا وقف حورس فوق إقليم ووقف سِت فوق إقليم. وقد أقرا السلام على الأرْضَين في إيان. وكان ذلك تقسيم الأرضين. وبعد ذلك بدا عن طريق الخطأ أن نصيب حورس كان مثل نصيب سِت. وهكذا أعطى جب ميراثه لحورس لأنه ابن ابنه البكر … أنه حورس الذي نشأ ملكا للوجهين القبلي والبحري، الذي وحّد الأرضين في إقليم الجدار (أي مَنَف). ذلك المكان الذي توحدت فيه الأرضان. ووضع البوص والبردي على بيت بْتِاح المزدوج (معبد بْتاح في مَنَف). وذلك يعني أن حورس وسِت تصالحا واتحدا. لقد تآخيا كي يوقفا القتال حيثما وجدا، لكونهما اتحدا في بيت بْتاح، ميزان الأرضين الذي وزن فيه الوجهان القبلي والبحري".
(4) التاريخ والآثار في مصر
بلاد أرض الرافدين الجنوبية ترابية طينية في معظم أجزائها، ومن ثم فقد كان اللبن العادي أو الآجر هما المادة الرئيسية للبناء. مع الزمن تهدم الكثير مما بني هناك وطمر الطمي والتراب هذا الذي تهدم. لذلك فقد انتظر الباحثون طويلا حتى كشف الرفش والمعول آثار الأولين.
مصر، بالمقابل، وخاصة في وجهها القبلي (أو مصر العليا كما قد يشار اليها) بلد الحجر الصلد – وهذا الحجر استعمل في البناء من الأهرام إلى الهياكل والمنازل الكبيرة. ومن هذا الحجر نحتت تماثيل الملوك الفراعنة، والتي كانت تتميز بضخامتها. ومن ثم فإن الكثير من آثار مصر كان واضح المعالم أمام الباحثين حتى قبل أن يعمل الرفش والمعول في الكشف عما خفي تحت الركام بدءا بعمل مارييت باشا في خمسينات القرن التاسع عشر. وقد وصف الآثار القائمة القدامى والمحدثون. لكن الذي لم يكن لهم سبيل إلى إدراكه فهو هذه النقوش بالكتابة الهيروغليفيه التي غطت الكثير من الهياكل (مثل الدير البحري في طيبة) وجدران الأهرام ومنها المتون الناووسية الكثيرة.
الا أن الكتابة الهيروغليفية حُلّت رموزها على يد شمبليون (سنة 1822) أي قبل حل رولنصون لرموز الكتابة المسمارية (الاسفينية) التي عرفتها المدن السومرية والأكدية في أرض الرافدين.
إلى هذا الذي أشرنا إليه من النقوش العامة فهناك مصادر أخرى ذات أهمية تركها المصريون، ويمكن إجمالها في الآتية:
1. حجر بلرمو، الذي يعود إلى القرن السابع والعشرين قبل الميلاد وقد نقش عليه أسماء ملوك من الأسرة الثانية ومواكب الإله حورس والثروة الزراعية للبلاد مقدرة مرة لكل عامين. كما أن هناك تعيينا لفيضان النيل وسنوات التحاريق. والحجر موجود في متحف بلرمو (جزيرة صقلية) ومن هنا جاءت التسمية.
2. بَردّية تورين (المحفوظة في متحف مدينة تورين بإيطاليا) التي تعود إلى أيام رعمسيس الثاني (بعد 1300 ق.م.) والباقي منها خاص بملوك الدولة الوسطى. لكن الرسوم المنقوشـة عليها تمثل العهود الجماعية "للأرواح" قبل توحيد مصر. ويعلو ذلك قائمة بالآلهة والمدة التي حكم فيها الآلهة البلد، والمدة التي تمتع فيها الإله توت بذلك بلغت
7726 سنة !
3. بردية وستكار التي كتبت في عهد الدولة الوسطى (1991 – 1785 ق.م.) وورد فيها ذكر ملوك الأسرة الخامسة.
4. حجر شباكا منقوش عليه ما تبقى من برديّة قديمة تشرح اللاهوت المنَفِي. لكن تعداد الأحداث لما تبقى منها تعود إلى زمن احتلال النوبة لمصر، وكان أحد هؤلاء الملوك يسمى شِباكا الذي تنبه إلى تهرّئ البردية فنقش ما تبقى منها على حجر (سنة 710 ق.م.)
5. ما نقشه الملوك الأباطرة من أخبار حروبهم في أمكنة متعددة، على نحو ما فعل طحتميس الثالث (القرن الخامس عشر قبل الميلاد).
6. رسائل تل العمارنة التي اكتشفت تحت أنقاض جزء من مدينة أخْت آتون (تل العمارنة) التي بناها أخناتون الملك الثائر دينيا في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. والرسائل هذه بعث بها الأمراء السوريون إلى الملك العظيم مشيرين إلى الفوضى التي شاعت في البلاد ويطلبون منه العون. هذه الرسائل كانت مكتوبة بالمسمارية، وهي الكتابة التي كانت قد شاعت في المنطقة في ذلك الحين.
7. تاريخ مانيتو وهو كاهن مصري عاش في الاسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد ووضع تاريخا لمصر باليونانية. وأفاد كثيرا مما كتبه هيرودوتس أبو التاريخ لمازار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد، ومع أن أكثر ما كتبه مانيتو قد تلف أو ضاع فإن يوسيفوس وغيره نقل عنه لذلك فقد وصلت أجزاء كثيرة مما دونه هذا المؤرخ.
(5) في بلاد الشام
بلاد الشام في عرف الجغرافيين العرب تمتد من جبال طورس في الشمال إلى صحراء سيناء جنوبا ، (والمسافة نحو ألف ومئتي كيلومتر) ومن البحر المتوسط غربا إلى بادية الشام شرقا (ويختلف العرض من نقطة إلى أخرى ولكنه يكون نحو 150 كيلومتر على أبعد تقدير). وقد لوحظ أنه لم تكن في العصور الأولى نقطة قامت فيها الحضارة لتبعد أكثر من 75 كيلومتر عن البحر.
تتكون تضاريس البلاد من سهل ساحلي يمتد من الاسكندرونة إلى مداخل سيناء، لكنه متباين الاتساع في أجزائه المختلفة، إذ أن المرتفعات الغربية التي تصاقبه تقترب في رؤوسها نحو الساحل فتفصل أجزاءه الواحد عن الآخر، وقد لا تعدو هذه الأجزاء من الساحل فجوات أو سهولا صغيرة في أكثر أنحائه، ولا تتسع إلا في الجنوب حول يافا وغزة.
والمرتفعات الغربية تمتد من جبال امانوس شمالا إلى جبال القدس والخليل وتشمل جبال اللاذقية ولبنان والجليل ونابلس. وتقطع هذه السلسلة الغربية أودية واسعة أو مجاري أنهار تخترقها، والتي تكون طريقا طبيعيا بين الداخل والساحل. وأهم هذه الفجوات مجرى نهر العاصي الذي يصب قرب انطاكية، ومجرى النهر الكبير الذي يفصل جبال لبنان الشمالية عن جبال اللاذقية ويكون واديا متسعا يصل بين طرابلس وحمص وحماة، ووادي نهر القاسمية (الليطاني) الذي يصب بين صيدا وصور، ونهرا النعامين والمقطع (وخلف هذا مرج ابن عامر)، وبذلك تنفصل جبال الجليل عن جبل الكرمل وجبال نابلس، ويصبح المرج بذلك نقطة اتصال رئيسية بين الساحل وغور الأردن ومنطقة حوران. والجبال الغربية هذه أكثر ارتفاعا في الشمال منها في الجنوب، إذ تبلغ قمم جبال لبنان الشمالية نحو ثلاثة آلاف متر، أما في الجنوب فلا يتجاوز ارتفاعها ألفا ومئتي متر.
وتقوم إلى الشرق من هذه المرتفعات مجموعة من السهول – سهل حلب، وسهل حماة وحمص، وسهل البقاع، ثم يأتي غور الأردن الذي يمتد إلى البحر الميت الذي يصل انخفاضه عن سطح البحر نحو 400 متر، وإلى الجنوب من البحر الميت يمتد وادي العربة حتى البحر الأحمر.
والمرتفعات الشرقية تبدأ في سلسلة لبنان الداخلية (انتيلبنان) وتتصل بجبل الشيخ (نحو 2725 مترا). وهذا يتصل جنوبا بهضبة حوران (الارتفاع بين 600 و800 متر) وهذه ترتبط بدورها شرقا بجبل العرب. ويفصل وادي اليرموك بين المرتفعات المار ذكرها والمرتفعات الأردنية عجلون والبلقاء والكرك وجبال الشراة. وهذه بدورها يفصل بينها وادي الزرقاء ووادي الموجب على التوالي.
إلى الشرق من المرتفعات الشرقية تمتد بادية الشام.
وتعتمد بلاد الشام في ثروتها المائية على الأمطار أصلا وعلى الثلوج التي تتساقط على أعالي الجبال. فليس فيها نهر كالنيل يوفر لمصر حاجتها من الماء للزراعة وسواها.وليس فيها دجلة أو فرات قد تتدفق المياه فيهما فجأة فتغمر الأرض وتتلف الحياة وبذلك تؤدي إلى أسطورة كأسطورة الطوفان التي تكوّن جزءا من ملحمة غلغامش.
لكن المنطقة غنية بتربتها، وبسبب التضاريس فيها قيض لها أن تكون منتوجاتها النباتية والحيوانية، وهي عماد الحياة في مبتدئها، متنوعة.
وقد بدأت الحياة في بلاد الشام في الوقت ذاته الذي عرفته أرض الرافدين ووادي النيل، على ما تبين من الحفريات التي تمت في أريحا والبيضا في جنوب الأردن ومغارة الزُطِّيّة قرب (طبريا) وفي مغارة الكرمل وتل مرَيْبط (في شمال شرق سورية عبر الفرات) وسواها. عاصرت القرية الشامية القرية في أرض الرافدين ووادي النيل. ولعل تأثر البلاد الشـامية في هذا الوقت، على نحو ما كان عليه الأمر في أوقات أخرى، بأرض الرافدين كان أكبر.
وكما كانت للمنطقتين المذكورتين انطلاقات أسطورية مبكرة فقد كان لبلاد الشام مشـاركة في هذه الناحية بعضها أصلي لعل مهده البحر وآلهته، ومنها ما هو مجلوب لكنه توطن البلاد وتأصل فيها مثل عشتار وتموز. فكانت قصصه فيها أنماط تتفق مع الجبل المرتفع والوادي السحيق والطبيعة الهادئة حينا والصاخبة أحيانا. ولعل الأسطورة الشامية كانت أقرب إلى أسطورة دجلة والفرات لوجود اتصال طبيعي بين المنطقتين.
(6) تاريخ المنطقة
آن لنا بعد هذه المقدمة، أن نجمل تاريخ المناطق الثلاث في تطورها الداخلي – ولكن بالكثير من الاختصار – ثم نتناول الحديث عن تطورها تحت الحكم الأجنبي (وكل هذا في العصور القديمة فحسب) كي نتيح لأنفسنا مجال الحديث عن الحوار الحضاري في هذه المناطق.
1. أول ما يطالعنا عند انبلاج فجر التاريخ في أرض الرافدين أن المنطقة الجنوبية منها كان قد استوطنها شعب مجهول الأصل والهوية أطلق عليه أسم السومريين. لا نعرف متى تم قدوم هذا الشعب إلى المنطقة، ولا نعرف موطنه الأول، ولكنه من المؤكد، من الدراسة اللغوية التي قام بها الباحثون، أنه لم يكن شعبا ساميا مثل الشعوب التي استقرت في المنطقة فيما بعد والتي تشمل الأكّديين (الأكّاديين) والبابليين والأشوريين والكلدانيين والأراميين والعرب.
ويبدو أن التجمع القروي، أي الانتقال من الصيد والقنص إلى التركز في نقاط معينة حيث كان القوم قد دجنوا الماعز والأغنام والبقر وأصبحوا يزرعون الحبوب. هذا التجمع القروي بدأت أولياته في أواخر الألف السادس قبل الميلاد.
2. بين 5000 و4000 ق.م. ينتقل القوم من التجمع القروي الصغير إلى المدينة الأولى التي كانت صغيرة لا تتجاوز مساحتها الهكتار الواحد. ومعنى هذا أن هؤلاء السكان كانوا قد انتظمت شؤونهم دينا وإدارة وإنتاج بعض صناعات تمكنهم من البناء وصناعة أدوات للزراعة، وجر الماء إلى الأرض حيث تكون بحاجة إليه، وبناء قوارب تمكنهم من التجول في الأنهار لنقل ما تنتجه المدينة الواحدة إلى المدينة الأخرى. وقد اتضح للباحثين أنه في أواخر الألف الخامس كان القوم قد حفروا قنيا يتراوح طول الوحدة منها بين ثلاثة وخمسة كيلو مترات. وهذا يدلنا على وجود إدارة ونظام لشق مثل هذه القني وصيانتها. والمدن الأولى التي ظهرت كانت في الجنوب الأقصى من أرض سـومر، أي الأرض الأقرب إلى الخليج العربي. والمدن الأولى التي تم فيها الكيان المدني – أي السور والقلعة والزيغوراة (الهيكل) والملك والكاهن – هي أريدو وأور وأورُك.
وكان نمو هذه المدن سريعا فقد بلغت أريدو حول 4000 ق.م. 12 هكتارا وكانت مساحة أور نحو عشرة هكتارات.
3. وعندما ننتقل إلى الألف الثالث (4000 – 2960) نجد أن المدن أصبحت تكسو المنطقة السومرية بأكملها ومن أهم المدن التي برزت في هذه الفترة نيبور التي أصبحت مركز تجمع الآلهة والعاصمة الروحية والفكرية للبلاد. وقد ظلت على ذلك مدة طويلة.
ويمكن تلخيص التطور الذي أصاب سومر في هذه الفترة في أن المدن قويت شوكتها وازداد عددها وبرزت بينها لاغاش وإِسِن ولارْسا، بحيث كان نصف سكان سومر يقطنون المدن. وفي أُورُك مثلا كان هناك زيغوراتان واحدة للاله أَنو وثانية للألهة إنّانا. وبلغت المدن والأرض المحيطة بها عشرات الهتكارات. وقد تتقوى مدينة على سواها فتحتلها، لكنها لم تكن تلغي وجودها ونظمها. إذ أن الفكرة التي كانت ترتبط بوجود المدينة هي أنها للإله. وأن الملك أو الزعيم الذي يستولي على مدينة فهو يحكمها بإسم إلهها أو الهتها، بحيث أنه لو اضطر إلى هدم جزء منها أثناء الحرب أو الحصار فإنه كان يسرع إلى ترميمه أو بنائه من جديد مجرد أن تنتهي العملية العسكرية.
وفي حوالي السنة 3300 ق.م. ظهرت الكتابة المسمارية (الاسفينية) وأول مدون بهذا الخط عثر عليه يعود إلى سنة 3100.
وحري بالذكر أن "المدينة" التي نشأت سومرية في بلاد الرافدين، استمر نموها، مع تقلب الدول، حتى القرن السادس عشر قبل الميلاد.
4. بين 2960 – 2310 قامت عدة محاولات لتغلّب مدينة على سواها، وخاصة المدن الكبرى. لكن المحاولة الأولى التي كان لها بعض النجاح هي التي قام بها ملك لاغاش (الحبة) المسمى إنّاتُم في أواسط القرن السادس والعشرين قبل الميلاد وأنشأ في الجنوب أسرة قوية دام سلطانها قرابة القرنين. وإذا صدقت النقوش التي خلفها إنّاتُم آخر ملك من هذه الأسرة فقد بلغ هذا ماري (تل الحريري) على الفرات غربا وعيلام شرقا، وكانت له ولمدينته تجارة واسعة في الجنوب بلغت الخليج.
ومن معاصري هذه الأسرة غِلغامِش ملك أُورُك، بطل الملحمة المسماة باسمه، وهي من أمتع الملاحم القديمة. ومع ذلك فإن الذي أقام أول دولة سومرية ونظم شؤونها على الأسس المتعارف عليها من حيث بناء ما قد يتهدم أثناء القتال والمحافظة على نظم المدينة هو لوغال زاغيزي (2335 – 2310 ق.م.) ملك أوُرُك. وقد نجح في السيطرة على المدن السومرية كلها لكنه طغى وتجبر ونهب وفجر، لذلك اعتبر سقوطه على يد سرجوت الأكّدي والتمثيل به عقابا له، على ما قال معاصروه.
5. كانت إحدى الجماعات السامية الكبرى التي خرجت من الجزيرة العربية واستقرت في المنطقة شبه الصحراوية المصاقبة للفرات (غربه) والتي تشرف على سومر من جهتها الشمالية الغربية، يتزعمها سرجون، الذي له في الأسطورة منـزلة خاصة تتعلق بأصله وطموحه وعناية الآلهة به. في سنة 2310 ق.م. احتل سرجون (شارو-كين/الملك الشرعي وهو الاسم الذي اتخذه لنفسه) كيش وجميع مدن سومر، وبنى أكّد (أكّاد) عاصمة له وهذه لم تكتشف بعد. ومن هنا سميت اسرته الأكّدية (الأكادية)، وأطلق الاسم على الجماعة التي جاء منها أصلا.
اتسعت إمبراطورية سرجون، على ما هو مدون في نقوش من أيامه بحيث ضمت فضلا عن سومر بأجمعها عيلام والخليج ومدينة إبْلا (تل مرديخ) التي تقع إلى الجنوب من حلب، والتي كانت دولة قوية في شمال سورية، وكانت تحول دون سرجون والوصول إلى أخشـاب أمانوس والأناضول ولبنان ومعدني الفضة والنحاس من الأناضول. ولذلك فإن سرجون نقش أنه كان يملك الأرض الواقعة بين البحرين (الخليج والمتوسط).
وخلف سرجون أسرة ملكية حكمت الإمبراطورية حتى سنة 2164. وكان حفيده نارام سِن جديرا بهذه الصلة بجده، فقد كان حاكما قويا.
وأهم ما حدث خلال الامبراطورية السرجونية (2310-2164) فضلا عن التقدم التجاري والصناعي هو أن اللغة الأكّدية (الأكادّية) السامية حلت محل اللغة السومرية، بحيث أن هذه اختفت مع الوقت ولم تعد تستعمل الا في أماكن قليلة. وكان هذا ايذانا بتغلب اللغات السامية تدريجا على المنطقة أيام البابليين والشوريين والكلدانيين وسواهم.
لكن في مقابل ذلك اخذ الأكّديون (الأكّاديون) ومن خلفهم الكتابة المسمارية، التي ظلت تستعمل في المناطق المجاورة الشرقية حتى القرن الخامس قبل الميلاد.
ومن طريف ما أدخله سرجون في العبادة هو أنه عين ابنته كبيرة كاهنات معبد سِن في أور، واستمر هذا العرف حتى نهاية عهد الملك نبونيد، آخر ملوك الكلدانيين، 539 ق.م.
إن اختلاط العنصر السومري بالسامي (الأكّدي – الأكّادي) أدى إلى انتعاش في حياة السكان، إذ كان القادمون الجدد بعد نشيطين لم تنل منهم الحضارة نصيبا.
6. تعرضت أرض الرافدين الجنوبية، بين سنتي 2160 و2122 ق.م. إلى هجوم جاء من الشمال الشرقي، إذ انقضت جماعة جبلية بربرية تسمى غوتْيان وتمكنت من تدمير بعض المدن. لكن قوة الحضارة التي كان عمرها قد تجاوز ثلاثة آلاف سنة مكنها من السير قدما. ولم تلبث أن قامت نهضة جديدة سومرية الروح على يد ملك أُورُك الذي طرد الأعداء وأخرجهم وبدأ عهدا يتصف بالسلطة المركزية القوية وأقام تنظيما لم يعرف له من قبل مثيل. وهذا الأمر أتمه ملوك أُور الذين وقع على عاتقهم القيام بأمور الدولة لمدة هي الأطول في هذه الفترة.
الإدارة الملكية العسكرية في هذه الفترة أوصلت الجيوش غربا إلى مملكة إبْلا (تل مَرْديخ)، التي احتلتها ودمرتها. ويبدو أن دعوى نارام-سِن في نقوشه أنه هو الذي احتلها وهدمها كانت دعاية فقط. والمهم أن هذه الفترة كانت فترة توسع تجاري كبير، فقد وصل النحاس من ماغان (عُمان؟) ومن الأناضول ووصلت الأخشاب حتى من الهند.
وتبع هذه السيادة فترة (2017-1763) سادت فيها إسِن ولارسا. لكنهما لم تضبطا الأمر على نحو ما تم على أيدي أُورُك وأُور.
وقد انتهى هذا الزمن الجيد بزمان يكاد يكون رديئا إذ أن المدينتين اللتين حلتا في مركز السيادة الآن، إسِن ولارْسا (2017-1783)، كانتا على خصومة وحرب أهلية فيما بينهما وفيما بين حلفاء الواحدة أو الأخرى من المدن المتعددة. فضلا عن ذلك فقد كثرت التحرشات الخارجية بالبلاد الفنية المتحضرة إما لنهب ثرواتها أو للاستمتاع بها مستقرين فيها. وكانت قبيلة العموريين السامية قد خرجت أيضا من الجزيرة العربية في الألف الثالث قبل الميلاد وكانت منتشرة إلى الشرق من أرض الرافدين الجنوبية، وهذه كانت أكثر جماعات الجوار أذى. وأخيرا احتل زعيمها سَموأبوم المنطقة بأسرها وأنشأ الإمبراطورية البابلية الأولى.
7. قامت هذه الإمبراطورية سنة 1894 واستمرت إلى 1595، أي أنها دامت ثلاثة قرون. وأشهر ملوكها هو حمورابي (1792 – 1750). وقد بنى هذا الملك عاصمة خاصة بدولته سماها بابل ( = باب إيل، أي باب إله)، ومن هنا جاء اسم الدولة. وكانت بابل على بعد عشرة كيلومترات من مدينة الحلّة.
كانت هذه إمبراطورية حقيقية من حيث السعة والنشاط والاقتصاد والقانون. "وقانون حمورابي" الذي يمثل تطور الأمور القانونية لعقود قبله والذي أضاف إليه الكثير ظل معمولا به، إلا أن بعضه عُدّل أو أهمل، قرونا طويلة.
8. كان الاشوريون شعبا ساميا وقد استوطن الشمال الغربي من أرض الرافدين الجبيلة، بعد خروجه من الجزيرة العربية في الألف الثالث قبل الميلاد وفي أوائل الألف الثاني قبل الميلاد تململ الاشوريون، الذين كانوا من قبل شبه اتباع لسومر، واستولوا على شمال أرض الرافدين وأنشأوا دولة لم تلبث، في أوائل القرن الخامس عشر حتى استولت على المنطقة بأسرها وقضت على الدولة البابلية. ثم شمل سلطان الاشوريين ميديا – في غرب إيران الحالية وأرض الرافدين وشمال بلاد الشام إلى البحر المتوسط. وهذا يسر لها أن تسيطر على طرق التجارة التي تصل أواسط آسيا بغربها.
وكانت ثمة هبة ثانية لأشور في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فأخضعت، على ما جاء في نقوش تغلت بَلاسر، البابليين والاراميين وصدت الحثيين عن أرضها. لكن أشور اضطرت إلى التراجع مؤقتا. وأخيرا جاء عصر الإمبراطورية الاشورية بالمعنى الصحيح بين 745 و 612 ق.م. إذ احتل الاشوريون بلاد الشام ومصر حتى مدينة طيبة. وكانت عاصمة الإمبراطورية الاشورية نينَوى.
لكن هذه الإمبراطورية، على غرار ما سبقها مما يشبهها انتهى أمرها سنة 612 لما قامت دولة الكلدانيين (وتسمى بابل الثانية لأنها اتخذت من مدينة بابل الأولى عاصمة لها بعد أن أعيد بناؤها) التي تمثل الدور الأخير للسيادة السامية في أرض الرافدين. وقد دامت منذ سنة 612 إلى سنة 539 لما استولى الفرس الاشمونيون على بابل. وهذه الدولة الكلدانية احتلت بلاد الشام ومصر أيضا.
يجدر بنا أن نشير هنا إلى أنه منذ أواسط القرن الثالث عشر حتى أواسط القرن العاشر قبل الميلاد كانت أرض الرافدين وآسية الصغرى وبلاد الشام تتعرض لما يمكن أن يسمى تنقل الشعوب هجرة واحتلالا وقتالا. وهذا الاضطراب الناشئ عن قيام هذه الدول التي أشرنا إليها فضلا عن دويلات وزعامات قبلية متعددة ظهرت في المنطقة مثل الاراميين (الساميين) والحثيين والفرس الاشمونيين (الآريين) وسواها. ولعلّ هذا هو السبب في قصر المدة التي كانت الدول تظل فيها صاحبة السيطرة التامة، أو أن تقوم دولة واحدة في فترات متلاحقة تتخللها فترات انسحاب من الميدان لمصلحة آخرين، كما حدث للاشوريين.
9. والفرس كانت لهم إمبراطورية بدأ دورها سنة 549 ق.م. على يد كورش الذي قضى على دولة الكلدانيين 539 ق.م. وتبعه إبنه قمبيز الذي احتل بلاد الشام ومصر وأخيرا جاء دارا الكبير الذي قاد حملات عسكرية إلى بلاد الشام ومصر ونظم الإمبراطورية. وهو الذي اشتبك مع المدن اليونانية بما عرف باسم الحروب الفارسية (512-437 ق.م.)
واستمرت الإمبراطورية الفارسية حتى سنة 330 ق.م. لما قضى عليا الاسكندر.
وعند هذه النقطة نتوقف لأن هذه هي نهاية الدول الشرقية في أرض الرافدين وبلاد الشام ومصر. فالتاريخ بعدها كان صورة مختلفة واتجاها مغايرا، سنعود اليهما عند الحاجة.
10. قد يتساءَل الواحد لماذا توحدت أراضي وادي النيل في وقت مبكر نسبيا، الأمر الذي لم يتح لأرض الرافدين؟ هذا مع العلم أن العناصر التي يمكن أن تؤدي إلى توحيد سياسي لم تكن قائمة في وادي النيل.
فلم تكن ثمة منافسة على الموارد الغذائية إذ أن البلد غني والسكان قليلون. ولم يكن ثمة حاجة للاتجار الواسع المدى الذي تمهد له الدولة الموحدة المجال والحماية الضروريتين. ولم تكن مصر معرضة لتهديد من الخارج في تلك العصور القديمة. ولعلنا نجد في ديناميكية الحياة الزراعية المستقرة في مصر ما يفسر قيام مجمعات من المدن التي لا بد أن مصر عرفتها. والواقع أن مصر عرفت خلال بضعة قرون قبل إتمام الوحدة النهائية تجمعات من مدن تمت بالقوة العسكرية، بحيث أصبحت مصر في تلك الفترة فيها الدويلات أو الولايات التالية. فقرية نَقّادة التي تقع 26 كلم شمالي الأقصر وهي نُبْت القديمة، كانت قبل عهد الاسرات مركزا مهما لعبادة سِت وكانت لها قوة عسكرية فاستطاعت أن تتسع شمالا وجنوبا. ومثلها هيراكونبوليس (نُخْن) إلى الجنوب من سابقتها، وقد توسعت مثلها صعودا مع النيل. وعلى شاكلة هاتين الدويلتين كانت تقوم ولاية ثيس. والولايات الثلاث هذه كانت في الجنوب. وكان هناك ثلاث ولايات أو دويلات تقع في الشمال هي بوتو في وسط الدلتا والكاب على البحر المتوسط ومَرْمَدّة بني سلامة، في موقع المعادي (على مقربة من القاهرة). لكن دويلات المدن الست هذه، مع أن الرقعة التي كانت تتبعها كانت واسعة، لم يكن لها دور في الحياة السياسية والحضارية، كما كان لدول المدن في أرض الرافدين أو بلاد الشام، أو على الأقل لم يتضح لها دور خاص لأنها انتهى بها الأمر أن أصبحت مصر القديمة كلها مملكتين، ثم توحدت هاتان سنة 3050 ق.م. وهنا يبدأ دور مصر الحضاري والسياسي.
11. وقد قسم المصريون تاريخ بلادهم على أساس الأسر أو السلالات التي حكمت البلاد. حتى الحكام الأجانب أعتبرهم المصريون بين هذه الأسر الحاكمة كما لو كانوا أسرا مصرية. وهذا الترتيب اتبعه الباحثون المحدثون في تاريخ مصر القديمة. وفيما يلي جدول بهذه الأسر مع السنوات التي تولت الحكم فيها.
أ - عصر الاسر المبكر
الأسرتان الأولى والثانية 3050-2695 ق.م.
الدولة القديمة (الاسر من الثالثة إلى الثامنة) 2695-2160 ق.م.
ب- عصر الانتقال الأول
(الاسر 9 إلى 11) 2160-1991 ق.م.
الدولة الوسطى
(الاسرة الثانية عشرة) 1991-1785 ق.م.
ج- عصر الانتقال الثاني
(الاسر 13 إلى 17) 1785-1540 ق.م.
الدولة الحديثة
(الاسر 81-20) 1540-1070 ق.م.
د- عصر الانتقال الثالث
(الاسر من 21-24) 1070-712 ق.م.
الحكم النوبي/الاشوري
(الاسرة الخامسة والعشرون 712-656 ق.م.
العصر الصيادي (مصري)
الاسرة السادسة والعشرون 664-525 ق.م.
العصر المتأخر
(الاسر 27-31) 525-332 ق.م.
فتح الاسكندر 332 ق.م.
ولسنا ننوي تقصي تفاصيل هذه الفترات الزمنية، ولكننا نود أن نذكر بضعة أمور ذات علاقة بالتطور الحضاري.
أ- عرفت مصر الكتابة الهيروغليفية قبل اتحاد الدولتين حول سنة 3050، لكن الاستعمال تم حول 3050 ق.م.
ب- ظلت مصر الدولة داخل بلادها ولم تخرج منها عسكريا الا لما اعتدي على مناجم النحاس في سيناء، التي كانت مصر تستغلها، فخرجت حملة وصلت إلى جنوب فلسطين.
ج- كانت ثمة شعوب أجنبية تحكم مصر قبل قيام الدولة الحديثة 1540 ق.م. هذه الشعوب هي المعروفة باسم الهكسوس. وكان قيام الدولة الحديثة متفقا مع إخراج هؤلاء الأجانب. وقد نقل هؤلاء إلى مصر الحصان والمركبات. ومطاردة الهكسوس أدت إلى احتلال بلاد الشام موقتا أولا، ثم على نحو دائم على أيدي طحتموس الثالث، بدءا من 1478 ق.م. هذه الإمبراطورية المصرية ظل نفوذها قائما في بلاد الشام حتى نحو سنة 1200 ولو أن هذا النفوذ أخذ يضعف ويضطرب قبل ذلك بنحو نصف القرن.
د- ومع أن الفترات الأخيرة من التاريخ المصري تدلنا على قيام حكام أجانب، فإن المصريين لم يعتبروهم كذلك، بدليل أنهم اعتبروهم حكاما من أسرهم. لكن مجيء الاسكندر كان نقلة خاصة.
هـ- وحري بالذكر أن مصر عرفت في أيام الإمبراطورية دعوة دينية فيها عنصر قوي من التوحيد على يد الفرعون اخناتون من أواخر الاسرة الثامنة عشرة. فقد قبل هذا الملك قوس الشمس المجنح رمزا للإله الواحد امون-رع، وتخلى عن بقية الآلهة المصرية. لكن سلطة الكهنة كانت أقوى منه، فلما توفي، عاد إلى الآلهة الكثيرة دورها التقليدي، بل لعله تقوى كثيرا.
و- كانت لمصر القديمة علاقات تجارية قوية خاصة مع المدن الساحلية المتوسطية، مثل جبيل وسواها، لأنها كانت تستورد الأخشاب من جبال لبنان. وكانت لها امبراطورية استمرت نيفا وقرنين ونصف. ومع ذلك فان التأثير المصري في بلاد الشام كان أقل مما كان عليه التأثير القادم من أرض الرافدين.
12. ننتقل الآن إلى بلاد الشام لنستعرض تاريخها باختصار، على ما فعلنا بأرض الرافدين ومصر. ويمكن القول مبدئيا أن بلاد الشام عرفت المدن في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، لكن الدول – المدن، أي نظام الحكم الذي ساد البلاد، تعود إلى الألف الثالث، مثل أريحا وحازور وجازر وصور وصيدا وماري وإبْلا وأوغاريت ومدن مؤآب. وبسبب التضاريس التي تتميز بها بلاد الشام التي تفصل المناطق واحدتها عن الأخرى، ظل هذا هو ما خبرته المنطقة إلا في الفترات التي كانت تخضع فيها لحاكم أجنبي – عندها كانت تتوحد. ولم تكن هذه الفترات قصيرة، ولو أنها لم تكن متتابعة. فقد تعرضت بلاد الشام أو أجزاء منها أحيانا لاحتلال الملك سرجون الأكّدي وحمورابي البابلي وملوك أشور والكلدانيين، وذلك في فترات متقطعة، بين القرن الحادي والعشرين والقرن السادس قبل الميلاد. وأخيرا وقعت البلاد تحت الحكم الفارسي سنة 539 ق.م. وظلت على ذلك حتى سنة 333 ق.م. لما احتلها الاسكندر.
13. وقفنا في عرضنا للمناطق الثلاث، أرض الرافدين وبلاد الشام ومصر عند فتوح الاسكندر، لأن ما لحق من تاريخ يختلف عما سبق. هذه السنوات الإسكندرية هي حد فاصل رئيسي بالنسبة للمنطقة. فالدول السابق ذكرها مدنا كانت أم ممالك أم إمبراطوريات، كانت جميعا من المنطقة نفسها: منها جاءت (باستثناء السومريين وفئات أخرى صغيرة) وفيها نشأت وفيها بلغت حضارتها أوْجَها. وقد تبادلت الإنجازات الحضارية.
لكن الفترة الممتدة من الاسكندر إلى الفتح الإسلامي دخل فيها الحكم القادم من الخارج. فالحكم اليوناني في بلاد الشام ومصر امتد نحو ثلاثة قرون. وجاء بعده الرومان الذين حكموا المنطقة حتى الفتح الإسلامي (وان كانوا سموا، اعتبارا من القرن الرابع الميلادي البيزنطيين أو الرومان الشرقيين أو الروم على ما سماهم العرب.
هذه الجماعات الجديدة حملت الأولى منها معها لغتها اليونانية وفكرها وفلسفتها وبعض علومها وفنونها. وأقامت، حاكمة، ثلاثة قرون كانت لها بالفئات المحلية صلات. وكان أن نشأ في المنطقة أدب جديد المظهر والمخبر. ولما جاء الرومان حملوا معهم لغتهم اللاتينية وقوانينهم ونظمهم وفن العمارة. صحيح أن لغة الفكر ظلت يونانية، لكن لغة القانون والإدارة والتنظيم كانت اللاتينية.
والمهم بالنسبة للفترة الرومانية أن المسيحية التي نشأت في فلسطين وبدأ انتشارها في مناطق سورية، كان لها دور كبير في الحركة الفكرية، بل الدينية، في المنطقة. وكان بعض ما كتب فيها، فضلا عن اليونانية، جاء بالارامية (السريانية).
فالساحة الثقافية اختلفت بعد الاسكندر عما كانت عليه قبله: في روحها وعناصرها وأساليبها، ذلك بأن تمازجا حضاريا قد تم خلال القرون التسعة التي مرت بين قدوم الاسكندر والفتوح العربية الإسلامية.
حوار الحضارات قبل الاسكندر
الحضارة، كما أراها، تشمل جميع شؤون البشر: المادية ومنها شؤون المعاش بجميع مقتضياته من عمل في الأرض أو في المصنع لإنتاج ما يحتاجه المرء في حياته؛ والمعنوية أي الروحية والفكرية، أدبا وشعرا وفلسفة،؛ والاجتماعية تنظيما وعلاقات شخصية ومؤسسات تعنى بخير الإنسان وتعليمه؛ والسياسية حكما ونظاما ودفاعا؛ والاقتصاد توزيعا وسوقا وتجارة.
وقد عرفت أرض الرافدين وبلاد الشام ومصر هذا كله – ولكن على النحو الذي اقتضته أحوالها ووضعها في تلك الأزمنة السحيقة.
ونحن عندما نتحدث عن حوار الحضارات في هذه الأيام لدينا من الوسائل والسبل ما لم يكن متيسرا لأهل الحضارات القديمة. فالصحافة والكتب والتلفزيون أتاحت لنا وسائل فنية سريعة التناول والتبادل والحوار حول هذه الشؤون جمعاء. أما تلك الشعوب والأقوام فكان مجال الاتصال والتحاور فيما بينهم محدودا. ويمكن إجمال ذلك بالتقليد بسبب الجوار والعيش المشترك، والتجارة. إذ أن التاجر الذي كان يحتاج أياما، وأحيانا أسابيع وشهورا، كي يحمل سلعه من مكان إلى آخر وكي يتمكن من بيعها تبادلا ومقايضة، كان ينقل ما عند جماعته من قصص وحكايات وأدب وشعر (في بعض الحالات) مع سلعه ويتحدث عنها عندما يسمر مع تجار آخرين أو في الأسواق. وكانت الحرب والانتصار فيها أو الانكسار كثيرا ما يؤدي إلى نوع من تقليد الفريق الواحد للفريق الآخر.
وفي هذه الحالات جميعا، وبسبب التجاور، فإن الأمور الأكثر جاذبية كانت هي المتغلبة على الأقل منها، خاصة فيما يتعلق بالعاطفة البشرية الرفيعة أو بما يحيي الآمال أو ما يمكن الناس من اتقاء الشرور والمآسي. والأقوى قد يفرض أحيانا ما عنده على الأضعف. ولكن قد يؤدي الأمر إلى عكس ذلك. وقد تكون نتيجة حرب واحدة وانتصار كبير الأمرين معا. فلما احتل الاكّديون بلاد سومر وأخضعوها لسلطانهم بعض الوقت، تعلم المنتصرون الكتابة السومرية وانتشرت لغة الأكّديين السامية في بلاد سومر. كما أن المنتصرين أخذوا بأساليب اللباس السومري، على الأقل عند الملوك ومن حولهم، كما يتضح ذلك من التماثيل التي عثر عليها في تلك الديار.
ولعلّ أول ما يلفتنا هو انتشار الأساطير السومرية أصلا في بلاد الشام شفويا أصلا، ثم عن طريق النص المدون اعتبارا من حول القرن السابع عشر قبل الميلاد، لما دونت هذه الأساطير بالكتابة المسمارية واللغة السامية على آجرات عثر على المئات منها مؤخرا في الأماكن التي تم الكشف عنها وخاصة في المكتبة الملكية الآشورية. ولم يقتصر انتشارها على بلاد الشام بل تعدت ذلك، فيما بعد إلى اليونان. ويرى بعض دارسي هومر، الشاعر اليوناني، أنه قد تأثر ببعضها في الإلياذة.
والأسطورة البابلية (كما سميت بسبب تدوينها في أيام الدولة البابلية الأولى 1894-1595ق.م.) لم تكن مجرد حكاية للتسلية، بل إنها كانت تعبر عن إلهيات تلك الأيام وأشواق الإنسان نحو الارتفاع ورغبته في الحصول على الحياة الأبدية وخوفه من غضب الآلهة فيما إذا صنع الشرفي عينها. ولنمثل على ذلك بالنماذج الآتية:
1. أسطورة الخلق، التي أوردنا بعض تفاصيلها في مفتتح هذا الحديث. إن الإنسان، في تأليفه هذه الأسطورة، الأمر الذي لعله احتاج إلى وقت طويل حتى وصلت إلينا على ما انتهت إليه، أراد أن يحلّ لغز وجود هذا الكون ووجوده فيه. فاعتبر أن الأمر حدث بسبب قوة قادرة على ابتداع الأشياء، ومع أن تطلعاته كانت كبيرة، فإن أفقه كان محدودا إلى درجة كبيرة. فتصور أن آلهة متعددة، لا إلها واحدا، هي التي فعلت هذا كله. وقد انتشرت هذه الأسطورة، أسطورة الخليقة، في المنطقة جمعاء وكان أن ظهرت في أسفار التوراة (من الكتاب المقدس). إلا أنها هنا تقول أن صانع هذا كله هو اله واحد. لكن التفاصيل تكاد تكون واحدة. ولولا أننا نخشى الإطالة (وقد طال بنا الحديث كثيرا حتى الآن) لكنا نقلنا عبارات من المصدرين ليطلع القارئ بنفسه على مدى التشابه بين النصين.
2. وثمة أسطورتان أخريان هما أسطورة أدابا وأسطورة برج بابل. وهاتان تمثلان شوق الإنسان إلى الارتفاع نحو السموات العلى. فالأول سلّح نفسه بما يعينه على الارتفاع لكنه سقط لأنه لا يجوز لإنسان أن يصل إلى مكان الآلهة. أما أسطورة برج بابل فالأصل الأول فيها كان محاولة لتكريم الآلهة ببناء "زقوراة" لا مثيل لها لتكريم إله المدينة، أي مدينة التي كانت يومها الأغنى والأقوى. لكن لما وصلت إلى التوراة كانت قد تبدلت طبيعتها فأصبحت تقول أن البشر أرادوا أن يبنوا برجا للوصول إلى الإله ومقارعته. لذلك بَلْبَلَ الإله ألسنتهم – أي نوعها بحيث لا يفهم الواحد كلام الآخر – فلم يستطيعوا إتمام العمل أي أنه فشّلهم. لكن اسم بابل – المدينة والبرج – مشتقة من كلمتي باب وإيل، وإيل معناها إله. وبرج بابل سمّي باسم المدينة. والذي عليه الباحثون أن كلمة بابل لا علاقة لها بكلمة "بَلْبَل" الواردة في التوراة، وهذا القول تحريف للاسم الأصلي.
3. وأسطورة الطوفان (التي ترد في ملحمة غِلغامِش) هي تفسير القوم للعقاب الذي يستحقه أولئك المخالفون لأصول تكريم الآلهة وعبادتها. عقابهم أن تطغى مياه المطر الغزير على بلادهم فتقضي عليهم. لكن لأنه يوجد بين الأشرار الكثر بعض الصلحاء، فإنه يجب إنقاذهم. وتختلف وسائل الإنقاذ باختلاف الرواية. وهذه الأسطورة وصلت أيضا إلى "التوراة"،ودونت فيها على نحو يناسب الذين دونوها، فسموها طوفان نوح. ولنشر هنا إلى أن تدوين أسفار التوراة بدأ في القرن العاشر قبل الميلاد، لكن النص النهائي الذي بين أيدينا لم يتخذ شكله المعروف إلا بعد نحو عشرة قرون.
4. وملحمة غِلغامِش التي لعلها من أمتع ما وصلنا من أساطير أرض الرافدين، تروي حكاية ملك أورُك الذي رغب في الحصول على الحياة الأبدية. وبعد مجازفات في اجتياز طرق مخيفة ومزعجة والمرور بصعوبات كبيرة، وصل إلى "عشبة الحياة الأبدية" وتملكها. لكن وهو في طريق عودته إلى مدينته طلب الراحة، وأغفى، فخرجت حية سرقت منه "عشبة الحياة الأبدية". فعاد صفر اليدين. هذه الأسطورة الملحمة، مثل حكاية "أَدابا" تقول للإنسان أن الحياة الأبدية لن تعطى له.
والمهم أن هذه الأساطير كان لانتشارها الواسع أثر كبير في تطوير أساطير أخرى نشأت في المنطقة مثل قصة عشتار وتموز عند الفينيقيين وسواها مما عرف في أوغاريت (راس الشمرا – شمال اللاذقية). وكان الجو الطبيعي الذي تنشر فيه الأسطورة وتتطور يؤثر في تركيبها وصيغتها. فالأسطورة البابلية نشأت في سهول يخترقها نهرا دجلة والفرات وتفرعات لهما وأنهار أصغر تصب فيهما، أما ديار الانتشار فتختلف بين آسيا الصغرى الجبلية وبلاد الشام الجبيلة والسهلية والساحلية التي يحاذيها "البحر الكبير" في عرف الأساطير الآتية من الشرق.
وكما وزعت أرض الرافدين أساطيرها وقصصها تقبلت من جيرانها في الشرق والشمال بعض ما عندهم. ولعل هذه أثرت في الأسطورة الأصلية، فاختلف طعمها تبعا لذلك كما تبدلت صياغتها. هذا واضح في نسخ الآجرات المختلفة لبعض هذه الأساطير في أجزاء منها. وأقدّم مثلا واحدا لذلك جاء في ملحمة غِلغامِش. فيها ذكر لغابة الأرز. فاية غابة أرز هي المقصودة – هل هي التي في جبال لبنان الشمالية أم تلك التي في جبال زَغْروس الإيرانية؟
بدءا من مدينة نيبور، مدينة إلّيل التي خُلِقَ فيها الإنسان أول ما خلق، والمدينة ذات البهاء والزقورات الفخمة، والتي عرفت سرجون الأكّدي فاتحا لها محترما إياها (سنة 2310ق.م.)، وبذلك تمكنت من السير قدما في توجهها العلمي. فقد نبش علماء الآثار الأميركيون في القرن التاسع عشر حوالي أربعين ألف رقيم تحتوي في مجملها لوائح بأسماء الآلهة والملوك وبالأمثال والدين والطب والقوانين والأدب، ولكن ثمة بينها ما يختص بعلوم الفلك والرياضيات والفيزياء.
وعيّن هؤلاء العلماء دورية الكواكب وتعاقب أطوار القمر ودوران الشمس والدورات الزراعية. والتقويم الذي استنبطه هؤلاء القوم ظل مستعملا قرابة ألف وتسعمئة عام أي حتى عصر الاسكندر.
والكثير مما عرفه علماء نيبور انتشر في المنطقة غربا، وأصبح أساس ما تكشف لسواهم فيما بعد، وخاصة التقويم القمري.
حكم حمورابي بين سنتي 1792 و 1750 ق.م. والرجل فضلا عن مقدرته الإدارية وعنايته بالعمران والحياة الاقتصادية هو الذي وضع أقدم قانون متكامل ونقشه على مسلة أسطوانية جميلة، وأمر بنحت نماذج متعددة منها نصبها في أنحاء مملكته. ولعل المسلّة الموجودة في متحف اللوفر (باريس) هي المسلّة الأصلية.
كان قانون حمورابي يمثل أعرافا ومراسيم سابقة وقوانين جزئية سنها ملوك سبقوه، وقد نقشوها على لويحات من الصلصال في اور وفي نيبور. لكن قانون حمورابي كان الأوفى وكان الكثير منه نتيجة عمل الملك نفسه، ونتيجة للإصلاحات التي أدخلها في المملكة. والقانون بحد ذاته يرسم صورة عن المجتمع البابلي.
ولسنا ننوي أن نفصّل ! لكننا نشير إلى أن العقوبات التي نص عليها القانون روعي فيها، جرما وعقابا، الوضع الاجتماعي للجاني والمجني عليه، إذ كان المجتمع يتكون من طبقات ثلاث هي: الناس الأحرار وهم المواطنون الذين يتمتعون بالحقوق كاملة؛ والتابعون الذين ينالون بعض الحقوق لقاء ما يقدمون للدولة من خدمات؛ والعبيد الذين كانوا أسفل السلّم الاجتماعي. وتظهر في هذا القانون أمور خاصة مرتبطة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية. فهو يميل نحو إفادة التجار. وقد فرض عقوبات قاسية للاغتصاب ونظّم الزواج وحمّل البنّاء مسؤولية تهدّم البيت غير المدعّم. وهكذا دواليك.
وكثر ما أفادت الجماعات المجاورة والتابعة زمنا من هذا القانون. وهو أيضا وجد طريقه إلى التوراة. وفيها ذكر أنه هبة من يَهْوه (الإله الأعظم).
وهنا نأتي إلى واحد من أهم ما أنتجته أرض الرافدين وانتشر في المنطقة التي نتحدث عنها باستثناء مصر – والمقصود الكتابة المسمارية الاختراع الأكبر أثرا. فهذه الكتابة قبلها الاكّديون وكتبوا بها لغتهم وكتبت بها لغات أخرى في عيلام إلى الشرق. وكانت هي التي استعملتها مصر للتراسل مع امبراطوريتها الشامية أيام أخناتون على ما كشفته رسائل (أرشيف) تل العمارنة (افق آتون) التي كانت عاصمة الدولة في زمنه. كانت لمصر كتابتها الهيروغليفية لكن إستعمالها ظل مقصورا على مصر.
ولعله من المناسب أن نتحدث هنا عن تطور الكتابة في العالم القديم بحيث انتهى الأمر إلى اختراع الألفباء. إذ أن هذه الناحية تمثل التواصل الحضاري الأهم في تاريخ الشرق القديم.
عرفنا أنه كان ثمة نموذجان للكتابة – السومرية والهيروغليفية – اللذان ظهرا في الألف الرابع قبل الميلاد. وكان أسلوب تدوين الكتابة السومرية بأن تنقش بما يشبه المسمار على ألواح الصلصال، ثم تُشوى هذه، فيثبت ما نقش عليها ويبقى (وقد بقي قرونا) أما الهيروغليفية فكانت تنقش على جدران الهياكل والنصب التذكارية من أعمدة وتماثيل وهذه كانت طقسية ورسمية.
وفي أحوال أخرى كانت تكتب على البردي.
ومن حيث المبدأ فإن الكتابتين السومرية والهيروغليفية متشابهتان من حيث أنهما صوريتان وقد مرتا بأطوار ثلاثة تكاد تكون متشابهة أيضا. ففي الطور الأول كانت الصورة تمثل الشيء نفسه وتعنيه. هذا هو الدور الصُوَري. وفي أوائل الألف الثالث قبل الميلاد كانت الكتابتان قد تطورتا فلم تعد الصورة تقتصر على الشيء بالذات بل أصبحت تعبر عن فكرة مرتبطة بها. فصورة "قَدَم" تعبر عن أفكار أخرى مثل بدء الجبل أو المشي أو الأمر بالسير أو الذهاب، وذلك باضافة إشارة صغيرة إلى الصورة الأصلية. ويأتي الطور الثالث عندما تصبح الصورة تمثل مقطعا لفظيا لا يمت، بالضرورة، إلى المعنى الأصلي. لنمثل على ذلك من الكتابة الهيروغليفية:
الصورة اللفظ المعنى الأصلي المعنى الجديد
خنفساء حِبر خنفساء الصيرورة
صقر وَر صقر كبير، مرتفع
مَن خشب للعب البقاء أو الاستقامة
ويأتي بعد ذلك أن تمثل الصورة مقطعا لفظيا أو الحرف الصوتي الذي هو أول صوت في الكلمة الأصلية فحِبر تمثل "ح" و وَر تمثل "و" ومِن تمثل "م"، واسم البحر يعني حرف "ص" وهو الحرف الأول من اسم البحر وصورة الثعبان تمثل الحرف "ض" أو "ج" لأن أيا منهما يمكن أن يكون هو الحرف الأول من كلمة ثعبان ضَت أو جَت.
وهذا أقرب ما يمكن إلى الحرف في الكتابة ولما كانت اللغة السومرية أحادية المقطع اللفظي، وكذلك اللغة الأكّدية التي اتخذت تلك الكتابة سبيلا لها، لما احتل الأكّيديون سومر وأسسوا لهم إمبراطورية واسعة، فإن التطور فيها كان أيسر من الهيروغليفية ولعله كان أسرع.
فضلا عن ذلك فإن الهيروغليفية كانت أصلا كتابة للأمور الدينية والطقسية، الأمر الذي اخر تطورها. أما الكتابة السومرية – الأكّدية، كما يجب أن نسميها منذ الآن، فقد كانت مرتبطة أصلا بحاجات التجارة والحسابات والفواتير والإيصالات. فضلا عن ذلك فقد أصبحت كتابة تعبر عن الإنجازات الأدبية والعلمية كالرياضيات وسواها التي تمت على أيدي سكان أرض الرافدين.
يضاف إلى ذلك أن الهيروغليفية لم تستعمل خارج مصر، فيما انتشرت الكتابة السومرية، الأكّدية خارج أرض الرافدين. فقد استعملها العيلاميون (في سوسة شرقي بلادها الأصلية) وحتى في سنة 2500 ق.م. كانت مملكة إبْلا (تل مرديخ إلى الجنوب من حلب في سورية) تستعمل الكتابة المسمارية (السومرية) لتدوين وثائقها. ولما ازدادت الحاجة إلى الكتابة والقراءة خلال الألف سنة التالية اقتبست شعوب كثيرة، في سورية وفلسطين، هذه الكتابة المسمارية لتدوين لغاتها في جميع حاجاتها الدينية (الطقسية) والأدبية والتجارية والزراعية.
وعلى العكس من ذلك فإن الهيروغليفية المصرية لم يستعملها أحد خارج مصر. وبهذه المناسبة فإن استعمال الحروف لم ينتشر في مصر بحيث تسيطر هذه على الكتابة، فظلت لها صفتها العالية، الدينية والملكية وما إليهما. وقد تطورت كتابة خاصة التي استعملت تجاريا وما إلى ذلك كانت تعرف باسم الهيروطيقية. حتى لقد كان ثمة نوع ثالث من الكتابة يعرف باسم الديموطيقي أي الشعبي. وهذه الكتابات الثلاث لم تكن مسيرتها متوازية زمنيا، بل جاءت على سبيل التتابع الزمني وعند اقتضاء الحاجة.
كانت المدن الواقعة على سواحل البحر المتوسط الشرقية المجال الذي تشابكت فيه المصالح المصرية مع مصالح بلاد الشام من جهة والبلاد الواقعة إلى الشرق منها، وكانت هذه العلاقات تجارية. فمصر كانت تستورد خشب الأرز من لبنان منذ 2600 ق.م. وكان تجار أرض الرافدين يتاجرون مع الموانئ المذكورة حتى قبل ذلك على ما تدل الأساطير السابقة والقيود اللاحقة.
ويبدو أنه في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد كانت كتابة الفبائية أولية قد بدأت تظهر في كل من أوغاريت (رأس الشمرا) وفي جبيل (بيبلوس). وقد ظهر من الحفريات التي تمت في اوغاريت أن الكتابات التي استعملت لمختلف أنواع المراسلات والقيود كانت لا تقل عن خمس: الهيروغليفية المصرية والسومرية الأكادية (المسمارية) والهيروغليفية (التصويرية) الحثية والقبرصية/الميناوية وكتابة خامسة لا تزال مجهولة الهوية. واللغة الاوغاريتية، بهذه المناسبة لغة سامية من الفئة الغربية. والذي دُوِّن بهذه الكتابات المختلفة، والكتابة الاوغاريتية كانت بينها، يشمل أولا الموثقات المحلية من رسائل مع الخارج ونصوص قانونية وإدارية. إلا أن أشياء أخرى دونت بالكتابات المذكورة. وهذه تشمل الأدب والأساطير والطقسيات الدينية. ويبدو أن أنواعا من الكتابة الألفبائية انتشرت في مناطق مختلفة في سورية وفلسطين.
والذي انتهى إليه البحث حول هذا الموضوع، إلى الآن، أنه بين القرن الرابع عشر والقرن الحادي عشر قبل الميلاد، استعملت هذه الألفبائيات المتنوعة في أغراض مختلفة بما في ذلك نقوش على الصخر لدى كنعانيي فلسطين.
وقد اختلفت أعداد الحروف في هذه الألفبائيات. فالاوغاريتية كانت مؤلفة من ثلاثين حرفا، والفينيقية (جبيل) كان فيها اثنان وعشرون حرفا، وبسبب أن اللغات السامية متقاربة جذورا، فإن اقتباس أي منها لكتابة لغة معينة أو أخرى كان أمرا شبه عادي. على أنه يجب أن نتذكر أن الالفباء الجبيلية كانت الأسبق عهدا ولأن جبيل كانت مركزا تجاريا كبيرا ولأن التجار كانوا يهتمون بالكتابة التي تيسر أعمالهم، تغلبت الكتابة الفينيقية (الجبيلية) على سواها. وأقدم نص كامل بالألفباء الجبيلية هو النص الموجود على قبر أحيرام ملك جليل ويعود إلى حوالي سنة 1000 ق.م.
ومن هذا الأصل الفينيفي (الجبيلي) تحدّرت الكتابات الأخرى في العالم، إلا ما أعتمد في الصين وجوارها من الكتابة الصينية.
لو أننا أردنا أن نتابع التبادل الحضاري الأدبي والديني (الطقسي والمجرد) لوجدنا أن حضارة المنطقة في القرون السابقة لفتوح الاسكندر كانت مزيجا كبيرا من كل تجربة مرت بأرض الرافدين وبلاد الشام ومصر، إلا أن ما انتشر من حضارة مصر كان أقل بكثير مما أنتشر وترعرع من البلاد الشرقية.
مع أنه قامت في مصر حركة دينية توحيدية أيام أخناتون، فقد كان أثرها محدودا في بلاد الشام. أنها لم تنتقل إلى هذه المنطقة الأخيرة، ولعل ذلك يعود إلى أن الفكرة الأخناتونية بالذات لم يكتب لها البقاء طويلا في مصر. ذلك بأن توت عنخ آمون خليفة أخناتون وكبار رجال الدين قاوموها بعنف داخل مصر، فلم يكتب لها البقاء طويلا بحيث تتجذر وتنمو.
حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين كان العهد القديم من الكتاب المقدس يعتبر مصدرا تاريخيا موثوقا به. وهناك من المؤرخين المعنيين بتطور الآراء الدينية خاصة والنواحي الاجتماعية والاقتصادية يجمعون على ذلك. لكن "النقد الداخلي" لهذه الأسفار انتهى إلى القول بأنها لم تكن من حيث النص أصلا على نحو ما وصلنا، بل أنها لما بدأ تدوين الأخبار فيها (في القرن العاشر قبل الميلاد) كانت قد مرت على البلاد تطورات وتبدلات لم يدون منها شيء، بل كل ما فعلته أنها نقلت فكرة الإله الواحد "يهوه" إلى نحو القرن الثامن عشر قبل الميلاد وأن اختيار يهوه لشعبه المختار وما قيل عن أرض الميعاد (فلسطين) لم يتم القول فيها إلا قبيل المسيح ببضعة قرون. والبحث الحديث أثبت أن هذه الآراء، التي اعتبرت أصلا في الدين اليهودي، هي نتيجة تبديل وإعادة النظر في مواد الكتاب. ومن ثم لم يثبت الطرح الكتابي أمام هذا النقد، ولم يعد ينظر إليه على أنه يتمتع بالحصانة التي أُصِّلت له.
إلا أن ثمة من المؤرخين الذين ظل عندهم الاعتقاد بأن الرواية الكتابية صحيحة وصادقة، حاولوا أن يقولوا بأن حركة أخناتون التوحيدية لعلها كانت ذات أثر في نمو التوحيد الالهي عند اليهود؛ أنهم رأوا أن موسى هو الذي حمل فكرة التوحيد من مصر إلى فلسطين. لكن مثل هذا الرأي لا يقبله الكثرة من الباحثين. ومن الطبيعي أن لا يقبله اليهود المتمسكون بحرفية العهد القديم لأنه يعطى التوحيد اليهودي عنصرا فيه آثار الوثنية.
إننا نسمح لأنفسنا بإبداء ملاحظة عن التبادل الحضاري في هذه الفترة الطويلة من التاريخ. أن عناصر الحياة على تنوعها وتطورها، وقضايا الأدب على ما فيها من نزوع نحو الحق والحياة والجمال والحب، وأمور التشريع والإدارة على ما قد تحويه من محاولة لإحقاق الحق، والإيمان بما يحمله من دعوة إلى عبادة إله واحد أو آلهة متعددة، والعبادات وما يدور حولها من تراتيب طقسية – كل هذا تمازج وتقارب وتطور ونما وتبدل بسبب الإحتكاك المستمر والتنقل الدائم والحروب التي لا بد أن يكون فيها منتصر ومهزوم. فكان من ذلك كله هذا المزيج الرائع، الذي انتقل فيما بعد شرقا وغربا منح سكان تلك البلاد، حتى النائية منها، الكثير من عناصره التي كانت ذات أثر في تطوير الحياة الروحية والأدبية والفكرية والعلمية. ولعلنا لا نستغرب أن نقع على بعض هذه الهبات تقطن في ضمير الحياة المعاصرة.
حوار الحضارات في الفترة اليونانية
دخل الاسكندر آسيا الصغرى فاتحا من جهة الغرب سنة 334 ق.م. وسار في فتوحه إلى بلاد الشام فمصر فأرض الرافدين ففارس حتى وصل شمال الهند. وعاد منها محاذيا للبحر في جنوب فارس إلى بابل. وكان هناك يخطط لمستقبل هذه الامبراطورية الواسعة. لكنه حم وتوفي سنة 323ق.م.
زوبعة عاتية هبت من بلاد اليونان على الشرق. لكن الاسكندر، على ما يرى المؤرخ اليوناني بلوتارك (ح46-120م)، كان ينوي توحيد العالم كي تزول منه الحروب والعداوة وتقطنه المحبة والوئام. وكان يرى، على نحو ما يقول عدد من المؤرخين المحدثين، أن نشر الحضارة اليونانية بنظمها السياسية وفلسفتها وعلومها وآدابها في العالم الذي فتحه (وحتى الذي كان يأمل في فتحه) هو العلاج الوحيد لأمراض البشرية جمعاء وبذلك يقوم عالم جديد: الناس فيه سواسية، والعقل هو المرشد، والمعرفة اليونانية هي الدليل. ولسنا نحسب أن الاسكندر لم يعن بما كان الشرق قد أنتجه فيقضي عليه بالمرة. لعله أراد مزج ما عند اليونان وخير ما في الشرق، ليحصل على ما حسبه العلاج الشافي.
لكن أحلام الاسكندر ونياته وتصوراته ذهبت، بعد وفاته سنة 323 ق.م.، أدراج الرياح. كان الاسكندر قد أنشأ إمبراطورية واسعة. لذلك دخل قواده في حروب طويلة، وكل يأمل أن يقتطع الجزء الأكبر من هذه الإمبراطورية الواسعة. وفي سنة 301ق.م. تم الاتفاق على تقسيم الإمبراطورية. وبالنسبة إلى المنطقة التي تعنينا الآن فقد صارت مصر إلى بطليموس الذي أنشأ فيها دولة كانت حتى 192ق.م. تشمل سلطتها الجزء الجنوبي من بلاد الشام أيضا. وحكم سلوقس جميع الأملاك الآسيوية، باستثناء آسيا الصغرى. وظل جنوب بلاد الشام موضع نزاع بين السلوقيين والبطالمة حتى 192ق.م. إذ ضم إلى الأملاك السلوقية. لكن الدولة السلوقية سرعان ما فقدت سيطرتها على أملاكها الآسيوية الواقعة إلى الشرق من دجلة. هذه كانت خارطة المشرق العربي في فترة الحكمين السلوقي والبطلمي حتى مجيء الرومان في القرن الأول ق.م. فتغير الحاكم.
كان الاسكندر يرى في بناء المدن سبيلا للحكم والعناية بالتجارة وتقدم الصناعة، لكنه كان يرى في المدينة "نواة الحضارة الأصلية"، والنقطة التي ستشع منها الحضارة اليونانية. والذي سار عليه أسلافه يشمل هذه الأمور جمعاء. وكان السلوقيون شديدي العناية ببناء المدن. بعضها كان من انشائهم أصلا: إنطاكية (التي أصبحت العاصمة فيما بعد) واللاذقية وسلوقية الميناءان المهمان على شاطئ المتوسط الشمالي وأفامية (في حوض العاصي) وهذه كانت العاصمة العسكرية للسلوقيين، إذ كانت تحفظ فيها الأفيال وتربى فيها الخيول.
كما بنى السلوقيون: خلقيس (عنجر) وهليوبوليس (بعلبك) في جبال لبنان وإنطاكية (نصيبين) وإنطاكية (إديسّا) (في مناطق الجزيرة الفراتية) وإنطاكية (على بحيرة طبريا) وأكاروس (فيلكه في الجزيرة المسماة بهذا الاسم في الخليج العربي وهي جزء من دولة الكويت).
أما ما رمم وأعيد إليه بهاؤه في المملكة السلوقية فمنه: بوريا (حلب) وابيفانية (حماة) وهيرابوليس (منبج) وزوغما (الجسر) وهذه تقع في شمال شرق بلاد الشام. وفي أرض الرافدين بنيت سلوقية/دجلة وسواها، وأصلحت مدن أخرى.
ولم يقم السلوقيون مدنا جديدة في الجزء الأوسط من الساحل الشامي، لأن المدن الفينيقية كانت قد انتظم أمرها أيام الحكم الفارسي إذ نشطت تجاريا وكانت مراكز للأسطول في الحروب التي قامت بين دارا الفارسي واليونان.
والمدينة الوحيدة التي عني بها السلوقيون في فلسطين كانت القدس، بسبب ما قام فيها من خلاف في الرؤية الكونية بين اليهودية والوثنية – السلوقية.
أما البطالمة فقد اكتفوا مبدئيا بالإسكندرية (التي بناها الاسكندر نفسه) التي أصبحت أهم مدينة في المنطقة بأجملها والتي كانت مركز العلم والفلسفة والأدب على أعلى المستويات في تلك الفترة والفترة التالية. وبنى البطالمة مدينة ميليتوس (في مصر العليا) وأعادوا إلى نيوكريتس دورها (وهي ميناء يوناني يقع غرب الإسكندرية ويعود إنشاؤه إلى القرن السابع قبل الميلاد).
لكن الانتشار اليوناني التجاري كان واسعا في وادي النيل.
والمدن التي بناها الاسكندر، والتي بنيت فيما بعد جاءت على غرارها. فهي مدن تقع في أماكن استراتيجية للحماية أو على الطرق التجارية (برية وبحرية ونهرية). وكانت خاصة أصلا بالمقدونيين واليونان – يسكنها أفراد الجيش والمتقاعدون من الجندية والتجار والمستثمرون في مجال الصناعة والزراعة ورجال الأدب ورجال الدين ومن لفَّ لفَّ هؤلاء.
كانت المدينة يونانية التنظيم، مستقلة تدبر شؤونها على أساس ما عرفته المدينة اليونانية عن طريق مسؤولين منتخبين ومجلس "بوله" وقوانين يونانية الصيغة. وكان يقوم حول هذه المدن منشآت سكانية يقيم فيها البعض من أهل البلاد أو حتى الطارئين، والجميع يعمل في المهن التي تزود السكان اليونان بحاجاتهم. هؤلاء لم يكونوا مواطنين بالنسبة للمدينة.
لكن من الناحية العملية فإن المدن التي أقيمت في الدولة السلوقية خاصة كانت تقوم بعون كبير من الملك – أرضا ومالا وعمالا (في بعض الأحيان) ولذلك فقد كانت تدفع ضرائب معينة للملك. وكان للملك من ثم بعض النفوذ.
ماذا كان نصيب حوار الحضارات هنا؟ لما دخل الاسكندر مصر فاتحا توجه إلى واحة سيوه ودخل الهيكل وهناك أُخْبِرَ على أنه ابن الإله آمون. وقبل الاسكندر إلها في مصر، وفي بلاد الشام وأرض الرافدين روّج له بذلك. فكان الملك الإله. ولأن هذا الأمر كان مقبولا في مصر وأرض الرافدين فلم يكن ثمة صعوبة. لكن الأمر بدا غير ذلك في فارس – أن الملك الاوتوقراطي هناك لم يعتبر إلها. ولكن اليونان والمقدونيين لم يكونوا يعتبرون صاحب السلطة، مهما علت رتبته، إلها.
ورث السلوقيون والبطالمة فكرة تأليه الملك. بدءا كان يؤلّه بعد وفاته، ثم أُلِّه في حياته. لكن، مع أن الفكرة كانت طبيعية في المشرق، فإن اليونان لم يتقبلوها – هم أصلا لم يتقبلوا فكرة الملكية، فكيف بألوهية الملك. لكن يبدو أن الفكرة أخذت تتجذّر حتى بين اليونان أنفسهم. ولعلّ ذلك جاء من عدوى الجوار بين الشعبين.
يرى بعض الباحثين في تاريخ الدولة السلوقية أن اليونان – حكاما ومواطنين – لم يحاولوا تعليم اللغة اليونانية لأبناء البلاد، ولم يتعلم الحكام وسواهم اللغات المحلية. وكان الشعبان بذلك يقفان، الواحد من الآخر، متجاورين لكن صامتين – لا سبيل إلى التفاهم. ومن ثم فلم يكن تبادل حضاري، واذا فلن نجد حوارا حضاريا.
إن تصور مثل هذا الوضع أمر صعب.
لنبدأ من الأعلى: الحكم الملكي له آلته وطقوسه ورسومه. فهناك أولا القصر الملكي بالعرش والرسوم المحيطة به وآلة الاحتفاظ بذلك وطقوس قبول الحكام واستقبال الرسل. هذه أمور لم يحملها اليونان معهم، فكان لا بد من تعلمها وممارستها على أيدي من خبروها من قبل. وكل هذا لا يمكن أن يتم إلا بالاختلاط والتعليم والتعلم والممارسة. هذه ناحية من الاقتباس الحضاري على مستوى رفيع.
وإذا نزلنا السلم حتى نصل إلى العامة من الناس وجدنا أنه لم يكن بد من تبادل المصالح والمعارف المتعلقة بشؤون الحياة والمجتمع من لباس وأثاث وطبخ. فالمواد المتوفرة في المشرق العربي لتدبير شؤون المعاش لها أساليبها التي يجب أن يتعلمها القادم من الخارج، كي يتدبر أموره. والثياب تجري على مثل ذلك.
والمدينة إذ تُبنى أو تؤهل تحتاج إلى من يبني ومن يزخرف. ولعل الزخرف كان من حيث العامل والنوع يونانيا في أكثر الحالات. لكن ثمة البنّاء المحلي وقصاب الحجارة ابن البلدة. وهما إذ يساعدان يتعلمان ويقومان ببعض ذلك في أبنية يقيمها الأثرياء وأصحاب النفوذ حتى في الأماكن النائية ومن هنا هذه الافاريز والأعمدة والواجهات التي يعثر عليها بعيدا عن المدن. هذا اقتباس فني ينقله المحلي عن الوافد.
ولا بد والتشابك بين أفراد الفريقين أو حتى جماعات منهما أحيانا على ما ذكرنا، من أن "يرطن" البعض من أبناء البلد باللغة اليونانية، ويقلده اليوناني فيتعلم لغة الجماعة التي هي أقرب التصاقا به.
وثمة أمر لا بد أن التبادل (أو الاستعارة) فيه كان لها أثر في التطور الحضاري. ففيما يتعلق بالأديان والآلهة والعبادات التي كانت تتبع في هذا العالم الذي غيّر سادته لكنه لم يغير طبيعته كثيرا. فلا بد من تبادل أو اقتباس حول هذه الآلهة المحلية (وحتى القادمة) من حيث طبائعها أو قصصها أو مغامراتها. وإلا فكيف وصلت بعض هذه الأساطير الشرقية إلى اليونان على ما ظهر في الأساطير اليونانية المتأخرة.
وهناك القواعد والقوانين التي كانت تسود المنطقة، والتي تتحكم في السوق وما يقارب السوق، ألم يكن لها حظ في أن تستمر وتؤثر في العلاقات بين شعبين عاشا متقاربين متجاورين يتعاملان معا. وثمة سرقة أو تسارق لألفاظ من اللغة البلدية إلى اليونانية، وتجامل عند البعض في أن يرطن باليونانية.
وهكذا فإننا نرى آثار هذا الحوار العملي بين الحضارتين الأصلية والمجلوبة. وقد يزداد هذا الأمر في الفترة التالية.
لكن، على ما يبدو، كان ثمة مجال واحد كان لمدن الساحل فيه مشاركة. هذه المدن كانت قد بدأ الإتجار مع بلاد اليونان في القرن الثامن قبل الميلاد، وكان الأمر مستمرا في عهد السلوقيين. وكان من أثر ذلك أن معرفة سكان هذه المدن باليونانية، وحتى ببعض نواحي الفكر اليوناني، سابقة حتى لفتوح الاسكندر. ومما يمكن أن يحدث هو تقوي هذه الصلات في الفترة الجديدة. ومن هنا فإننا نجد أن الفلسفة اليونانية تجد لها مسرحا هنا فالمدرسة الرواقية يونانية أصلا، فصاحبها هو ابيقور المولود في ساموس سنة 342 ق.م. وقد أنشأ مدرسته سنة 306 ق.م. عرفت في السواحل الشامية بعض الشيء.
وهناك المدرسة الرواقية التي أنشأها زينون الفينيقي، المولود في كيتيون (اوكيسيون) في قبرص 342ق.م. ولكنه أنشأ مدرسته في أثينا، التي دعا فيها إلى التخلي عن الفلسفات السابقة التي لم تعن بالإنسان، والنظر في شؤون هذا العالم من حيث أنه مكان يقيم فيه البشر.
لما ذهب زينون إلى أثينا ليبدأ تعليمه فلسفته جديا لم يجد مكانا يدرس فيه، فاستعمل الرواق المدهون (الأزرق؟)، لذلك سميت فلسفته الرواقية. قالت الرواقية بأن العقل (الذي قُصد به الإله) هو أساس الكون، وإن النفس البشرية هي شعلة من النار المقدسة، وأن الرجل العاقل هو الذي يعيش باتساق مع الطبيعة. (توفي زينون سنة 270ق.م. التاريخان احتماليان).
وعرفت فينيقيا أقليدس الرياضي، الذي انتقل إلى الإسكندرية حيث تم له إعداد كتابه "المبادئ"، الذي جمع فيه المعرفة الهندسية في قواعد أساسية منتظمة. وقد ظل هذا الكتاب أصلا في تعليم الهندسة حتى أوائل القرن العشرين. (وقد تعلمت أنا في دار المعلمين بالقدس 1921-1924 في كتاب وضعه بالإنكليزية هول وستيفنس، ونقل إلى العربية في وزارة المعارف في مصر ونشر للاستعمال في المدارس المصرية سنة 1910 أو 1912).
عني السلوقيون بإنشاء مدارس ومكتبات في بعض المدن مثل أديسا وسرديس (آسيا الصغرى) وانطاكية، وكان ثمة تعليم حتى للفلسفة لكن هذه أفاد منها أبناء اليونان. ومهما قيل فإن الكثير المتفرق من شؤون الفلسفة انتشر في بلاد الشام وأرض الرافدين. وكان يحتاج إلى بعض الوقت حتى يؤتي أُكله.
أما المدينة التي احتضنت العلم والفلسفة والأدب والتاريخ بحثا وتعليما واستنباطا واختراعا وتعليما ومناقشة فهي الإسكندرية. إن الوسائل والأسباب والفرص للبحث والدرس التي أتيحت لهذه المدينة لم تتح لمدينة أخرى في الأزمنة القديمة. مكتبتها ومجّمعها كانا ملتقى جميع أصناف أهل المعرفة. ولكن لأن العمل كله فيها كان باليونانية فقد ظل نطاق عملها محدودا. صحيح أنه جاءها باحثون وطلاب من أثينا وبرغاموس (آسيا الصغرى) وليبيا وصيدا وصور، ولكن ظل المجال محصورا بالذين يعرفون اللغة.
لكن ما قيل عن الدولة السلوقية يقال هنا أيضا عن مصر: أن الفكر اليوناني بأدبه وفلسفته وعلومه وفنونه قد حط رحاله في المشرق العربي. لم يؤثر يومها فلا بد أن يكون له أثر فيما بعد. فالتربة صالحة للإنتاج، كما دل عليه تاريخها، لكن الزرع والغرس الأخيرين كانا محدودين.
المشرق العربي في العصر الروماني
(حوار حضاري؟)
حكم الرومان المنطقة ستة قرون ونيف (كانت الدولة بيزنطية منذ أوائل القرن الرابع). وكان الاحتلال على فترات متفاوتة، امتدت من القرن الأول قبل الميلاد حتى أوائل القرن الثاني بعد الميلاد. لكن القسم الأكبر منها (مصر وبلاد الشام وجزء من الجزيرة الفراتية) كان قد خضع للرومان خلال نحو مئة سنة منذ مجيء بومبي سنة 63ق.م.
لا يختلف قدوم الرومان عن قدوم اليونان من حيث الغاية-التوسع والاستعمار وضمان الطرق التجارية مع آسيا والمحيط الهندي.
حمل الرومان معهم إلى الشرق فن المعمار بكل تطوراته الإغريقية المتأخرة والرومانية المبكرة. وليس من شك في أن العمارة الرومانية زادت صنعة ورونقا واتقانا بعد التجربة الرومانية في إمبراطوريتها الواسعة. وهذه التقنية المعمارية الفائقة تألقت بشكل خاص في الهياكل الضخمة وعمدانها الممشوقة ودور التمثيل وما فيها من تنسيق للممثل والحاضر التمثيل وفي الكنائس التي أقيمت بعد أن اعتنق الرومان المسيحية رسميا!
على أن أحد نواحي التفوق عند الرومان هو هذه الطرق التي رصفوها تيسيرا لنقل الجيوش، فأفاد منها التجار فائدة قصوى. واهتمام الرومان بالتجارة وسبلها وأسبابها وأسواقها حرية بالاهتمام.
وحمل الرومان معهم أحد مظاهر عبقريتهم وهو القانون الروماني.
وكان من الطبيعي أن تكون لغتهم اللاتينية لغة الإدارة والقانون.
لكن اللغة اللاتينية لم تنتشر في البلاد إلا في منطقتين هما بيروت وبعلبك بسبب التمركز الإداري والعسكري أولا وبسبب مدرسة الحقوق التي أقيمت في بيروت والتي ظلت حتى الزلزال الكبير سنة 551م، فقد كانت اللاتنينية لغة التعليم فيها.
وظلت اللغة الفينيقية منتشرة في المناطق الساحلية، والآرامية لغة الداخل من بلاد الشام ومنطقة الجزيرة الفراتية ومركزها إديسّا (الرها) وظل لليونانية ما كان لها من انتشار شبه عادي في أماكن محدودة.
على أن الأمر الذي طرأ على المنطقة في الفترة الرومانية هو ظهور المسيحية، التي لقيت، حتى قبل أن يشتد ساعدها، الاضطهاد من خصوم ثلاثة أشداء: اليهودية والهلينيستية والدولة الرومانية.
ولد المسيح في بيت لحم (سنة 4ق.م.)، ونشأ وترعرع ودعا إلى المسيحية في فلسطين. ومن المرجح أنه وصل جنوب لبنان في رحلاته التبشيرية.
فما هي هذه الدعوة الجديدة التي قضت مضجع الخصوم؟
كانت اليهودية قد ادعت، وبدلت في التوراة (من أسفار العهد القديم) ما شاء لها أن تبدل في سبيل تثبيت ذلك، فقالت أن يهوه هو الإله الحي الوحيد وأنه اختار شعبا خاصا به هو إسرائيل (أي اليهود بشكل عام) وأنه وعد هذا الشعب المختار بأرض المعياد أي فلسطين. ومع أنه قامت فرق يهودية متعددة وتباينت آراؤها في أمور تتعلق بالعبادات والطقوس، فان الكل أصر على هذه الأمور على أنها أساس العقيدة.
وقالت المسيحية بأن أساس عقيدتها أقانيم ثلاثة متوحدة هي الله، وأن المسيح واحد من الأقانيم، وأنه مساو للآب. ولم تقبل المسيحية بأن يخص الله بشعب واحد؛ وقالت أن ملكوت الله للبشر أجمعين، وأن الحصول عليه يتم بالتوبة – بالطهارة القلبية – بالولادة الثانية.
وانتشرت المسيحية على أيدي تلاميذ المسيح وآخرين قبلوا الإيمان وعملوا على نشره. وكتاب المسيحية هو الكتاب المقدس، ولكن التشديد هو على العهد الجديد. وأسفار العهد الجديد تشمل الأناجيل الأربعة التي كتب ثلاثة منها تلاميذ المسيح (بين سنتي 65 و 90م). وكتب يوحنا الإنجيل الرابع في العقود الأولى من القرن الثاني للميلاد. أما أعمال الرسل (أي المبشرين) والرسائل فإنها تحوي أخبار أعمال التبشير في الفترة الأولى من الزمن المسيحي (تقريبا إلى حول 100م).
كانت خصومة اليهودية للمسيحية واضحة في الدورين. الأول يشمل العقود الأولى. فقد اعتبر اليهود في القدس أن هؤلاء المسيحيين فرقة خارجة من الدين اليهودي وعليه، ولذلك وقع اضطهاد كبير على المسيحيين. والدولة الرومانية لم يكن لها يومها موقف، إذ اعتبرت الأمر انقساما داخليا بين أبناء دين واحد.
لما ثار اليهود على الحكم الروماني وقضى تيطس على الثورة سنة 70م، غضب اليهود حيث كانوا يقيمون، وحزنوا ومزقوا الثياب حدادا على تدمير الهيكل. ولأن المسيحيين لم يهمهم الأمر، اتضح أنهم لم يكونوا فرقة يهودية خرجت عن القطيع، بل أنهم أصحاب دعوة جديدة.
وكانت المسيحية خلال ذلك تنتشر في فلسطين وحوران وشمال سورية والساحل الشامي. وأصبحت للمسيحيين شخصية معينة ولو أنها لم تتضح تماما للحكام الرومان. فالأرشيف الروماني في القرن الأول م مثلا، لا إشارة فيه إلى المسيحية أو المسيحيين.
وإذا نحن أخذنا سنة 100م نقطة لتدبر الأمور التي كانت قد تمت وجدنا أن المسيحية كانت قد ثبتت مواقعها في فلسطين والساحل الشامي من جهات غزة (غزة لم تدخلها المسيحية إلا في القرن الرابع) إلى صور وصيدا وفي إنطاكية وما حولها وإديسّا، ثم في بيثينيا وبنطس (آسيا الصغرى) وقبرص وكريت والإسكندرية وفي أرمينية.
لكن النجاح الذي حققته المسيحية في الفترة التالية، أي في القرن الثاني الميلادي، هو الذي جلب عليها النقمة الكبيرة من خصومها. وهؤلاء الخصوم كانوا اليهود في كل مكان؛ والجماعة الهلينيستية، أي أولئك الذين كانوا من أتباع الفلسفة والفكر اليونانيين، والذين ظهروا في العصر الروماني؛ ثم الدولة الرومانية نفسها.
اليهود هاجموا المسيحية لأن المسيح (1) قضى على العهد المزعوم بين يهوه والشعب (الشعب المختار وأرض الميعاد). (2) تخطى الشريعة اليهودية فيما يتعلق بالقوانين المتعلقة بالطقوس الدينية. (3) دعا إلى مساواة الابن للآب. وأضاف اليهود إلى ذلك أن المسيحيين يختفون وقت الصلاة (لأنهم يمارسون طقوسا شائنة).
واتباع الهلينستية كانوا يخاصمون المسيحيين على مستويين: فالمتعلمون كانوا يعتبرون خصومهم جهلة، لأنهم لا يفهمون الفلسفة. والبعض كان يتهمهم بالتعصب وضيق الأفق العقلي. ومعنى هذا أنهم يقبلون إلها واحدا، فيما كانت الفلسفة والديانات الشرقية الأصيلة تقبل بتعدد الآلهة والأسرار المرتبطة بالآلهة.
وفي مطلع القرن الثاني الميلاد دخلت الدولة الرومانية على خط الخصومة. وكانت شديدة لأنها اعتمدت الاضطهاد والعقوبات القاسية التي كانت تتصف بالوحشية. ومع أن نيرون، الإمبراطور الروماني 37-68م، كان أول من اضطهد المسيحيين، فإن القرن الثاني والثالث هما اللذان شهدا العنف والظلم يقع على المسيحيين. وقد كان سبب ذلك أن المسيحيين رفضوا تقديم القرابين للإمبراطور (على أنه إله)، إذ أن هذه كانت العبادة الرسمية في الإمبراطورية. ومن يرفض تقديم القرابين يعد ثائرا على الدولة ومن ثم حقّ عليه العقاب.
فضلا عن ذلك فقد صدرت نشرات رسمية تذم المسيحية وتتهم المسيحيين بإتيان الموبقات أثناء تجمعاتهم السرية (أي أوقات عبادتهم) من قتل وشرب دم وتحلل خلقي.
ولن نتابع قضية الاضطهاد هذه، بل نكتفي بذكر بعض الشهداء الأوائل الذين كانوا من كبار أهل العلم والقلم في تفسير المسيحية والدفاع عنها أمام الدولة والناس. وهم اغناطيوس (115م) كان أسقف (أي رئيس كنيسة من الدرجة الأولى) إنطاكية ثم أصبح أسقف رومه؛ ويوستين (165م) وهو مبشر بالمسيحية أصله من نابلس (فلسطين) لكنه استشهد في رومه؛ وبوليكارب (165م) الذي استشهد في أزمير. لكن كان إلى جانب هؤلاء الأفراد اضطهادات شملت جماعات كبيرة، وقد قتلت بأساليب شرّيرة.
من المهم أن نتنبه إلى أن المسيحية نشأت وتطورت في الأدوار الأولى في جزء من العالم كان متباين النزعات الأدبية والفلسفية والدينية، وإنه كان يرث تجارب حضارية عمرها آلاف السنين. وإن هذا الجزء من العالم كان سكانه مختلفي الأرومة واللغة. ففي الجزء الشرقي منه كانت السريانية (أي الأرامية الجديدة المتطورة) لغته، وكان الأراميون سكانه، مع كثير من الشعوب السامية التي سبقت. أما غرب بلاد الشام وآسية الصغرى وبلاد اليونان والإسكندرية فقد غلبت عليها اللغة اليونانية. وقد تزامنت المسيحية مع فترة إحياء الفلسفة الأفلاطونية فيما عرف باسم الأفلاطونية الحديثة.
فمن المتوقع إذن أن تقوم داخل المسيحية بدع تمثل اتجاهات مختلفة. فثمة محاولة للتوفيق بين الفلسفة والمسيحية، بشكل دعوة إلى الأفلاطونية الحديثة. كان فيلون (20ق.م.-50م) اليهودي الاسكندري قد حاول التوفيق بين فلسفة أفلاطون والدين اليهودي، وتابعه في ذلك المؤرخ اليهودي يوسيفوس (37-100م) لكن ذلك لم يكتب له النجاح (وما كان لُيكتب له نجاح!) وعادت هذه الفلسفة مجددة نفسها على يد أفلوطين (تو 270م) وكانت قد تأثرت بالتصوف الهندي الذي غزا الإسكندرية مع التجار الهنود الكثر. هذه هي الأفلاطونية الحديثة. ولا بد أنها امتصت بعض آراء من الديانة المصرية القديمة.
كان ثمة في الإسكندرية مدرسة لاهوتية، هي الأقدم في تاريخ المسيحية. ومع أننا لا نعرف تاريخ إنشائها فالمعروف أنها كانت قائمة سنة 190م. وكان أعضاؤها هم المسؤولون عن صياغة الأفكار المسيحية اللاهوتية وعن وضع التفاسير للكتب المقدسة. ولكن مما يلفت النظر أن هذه لم تقتصر على تعليم اللاهوت المسيحي بل كانت تُدرّس فيها الإنسانيات (أي جماع الأدب والفكر القديم وأكثره من اليونانية) والعلوم والرياضيات.
وكان في الإسكندرية بطْرِيَرك على نحو ما كان في رومه وإنطاكية (وكل يدير الكنيسة في المنطقة التي كانت من قبل ولاية رومانية). وقد ظلت مدرسة الإسكندرية حرة حتى سنة 231م، إذ تبعت للبَطْرِيَرك، وذلك لما تخلى عن رئاستها اوريغون (تو 254 في قيسارية قيصرية/فلسطين).
والكتّاب المسيحيون كثر، ولكن لن نتوقف عندهم. إنما نود أن نشير إلى أن أسلوب الجدل والمناقشة كان أساس الحوار. ومن هنا صدرت يومها كتب توضح المسيحية أولا على شكل حوار بين وثني ومؤمن. وممن فعل ذلك أرسطو وهو مواطن من فِحل (بلاّ) في غور الأردن.
ولكن كان ثمة من يكتب ردا مباشرا. فقد وضع كِلْسوس (سنة 180م) كتابا شنع فيه على المسيحية فادعى بأن انتشارها زعزع أركان الإمبراطورية الرومانية وقال بأن المسيحيين قوم محتالون وما يتبع ذلك من كلمات السوء. فرد عليه اوريغون مفندا أخطاءه موضحا الفضائل التي تدعوا اليها المسيحية مع شرح واف للعقيدة نفسها.
ولنعد إلى إديسّا للتذكير فقط. كانت هي المدينة الأهم للمسيحية في العالم الارامي أي شرق بلاد الشام وأرض الرافدين؛ ومدرستها اللاهوتية كانت ذات شأن كبير في صياغة المسيحية الشرقية.
هذا الجو المعقد ذو الوجوه المختلفة، وبعضها متنافر، وذو الخبرات العقلية والروحية المتنوعة، وأكثرها متخاصم، هو الذي نمت فيه المسيحية وتطورت ومن ثم تباينت الكنائس رأيا. ولعلنا نستطيع في هذه القرون المسيحية التي تمتد من أوائل الثاني حتى السادس للميلاد أن نقع على معنى الحوار الحضاري على نحو واضح، بعد أن ما عثرنا عليه قبلا كان تبادلا واقتباسا حضاريا.
يمثل القرن الرابع الميلادي نقلة مهمة بالنسبة للمسيحية. ذلك أن قسطنطين (حكم 305-337م) اعتنق المسيحية. وفي أيامه اعتبرت المسيحية دينا من أديان الإمبراطورية الرسمية (لم تصبح المسيحية دين الإمبراطورية الرسمي إلا في أواخر القرن الرابع).
يتوجب علينا أن نوضح هنا بضع كلمات كان لها في القرن الرابع الميلادي وما بعده دلالة خاصة.
لما اتخذت الكنيسة النظام الروماني الإداري من حيث تقسيم الولايات والوحدات الإدارية الأصغر أساسا لها، حتى في القرن الثالث، أصبح للكنيسة قوامون على أمرها. فالولاية الكبيرة كان يرئسها بَطْرِيَرْك – وكان ثمة في بادئ الأمر بطاركة وهم بطريرك رومه (الأول منـزلة) ثم بطريرك الإسكندرية، ويلي هذا بطريرك إنطاكية. فلما اعتنق قسطنطين المسيحية أصبحت البطريركيات أربعا: رومه والقسطنطينية والإسكندرية وإنطاكية. وأعيد ترتيبها فأصبحت على الترتيب التالي: رومه والقسطنطينية والإسكندرية وإنطاكية (أما القدس فلم تصبح بطريركية إلا سنة 451م). أما الأسقف فكان رئيسا لكنيسة هي جزء من الولاية كأن تكون محافظة مثلا.
وكانت القضايا الكنسية تعالج عند الحاجة في مجلس أسقفي وهو الذي يدعو إليه البطريرك، ويدعى إليه رجال الدين من البطريركية نفسها ولا يتعداهم. وتبحث هذه المجالس في شؤون أكثرها إدارية. أما القضايا اللاهوتية الكبرى فكانت تعالج في مجمع مسكوني (أي من المسكونة المسيحية). وقد دعي أول مجمع مسكوني سنة 325، وكان الداعي إليه قسطنطين بالذات. (لكن كان يجوز لبطريرك ما أن يدعو أخوته البطاركة إلى مجمع مسكوني).
وثمة أمر هام يجب توضيحه قبل التحدث عن القضايا التي اختلف فيها المسيحيون وتحاوروا (وحتى تخاصموا) بشأنها.
إن الإمبراطور الروماني كان، بحكم تطور تاريخي سابق هو الحَبْر (الكاهن) الأعظم لكل دين يقوم في رومه وإمبراطوريتها. ويعني هذا المزج بين الرسمية والأبوية أنه كان يعتبر "رأس" تلك الديانة. ولما اعتنق قسطنطين المسيحية اعتبر نفسه حَبْرها (كاهنها) الأعظم أي رأس الكنيسة الرسمي، لكنه لم يكن رأس الكنيسة اللاهوتي، إذ أن هذا موضع اهتمام البطريرك. لكن قسطنطين وخلفاءه من بعده تصرفوا تصرف صاحب السلطة في هذا المنصب.
كانت القضية الأولى التي اختلف المسيحيون بشأنها، وكان ذلك على درجة عالية من الخلاف، هي: القول بأن المسيح (الابن) يساوي (الأب) في الجوهر. هذا ما كان يسمى "الأرثوذكسية"، وأتباعها يسمون الأرثوذكس أي أتباع الرأي القويم (أو المستقيم). ولكن اريوس (256-325م) لم ير هذا الرأي فقال بأن الأب هو وحده الجوهر الأول وهو الذي يستحق لقب الإله. أما الابن فلم يكن سوى إله ثانوي منخفض الرتبة. لكنه تميز عن بقية المخلوقات في أنه كان صورة الأب في جوهره. ومن الطريف أن ألكسندروس (أسقف الإسكندرية) دعا أريوس إلى مناقشة علنية كانت، على ما روي عنها، ممتعة جدا. هذا هو الحوار الذي كنا نبحث عنه من قبل تحقق في تلك الأيام.
دارت مناقشات وحوارات وتشاور وتنابذ بين الفريقين ودامت وقتا طويلا. لكن لم ينته الأمر إلى نتيجة (وما كان له أن ينتهي إلى ذلك). فالقضية لا تحلها المناقشات. وأخيرا دعا قسطنطين إلى "مجمع مسكوني" (325) هو الأول من نوعه. (وتبعته على طول الزمن مجامع كثيرة) وقد عقد في نيقية (في شمال غرب آسيا الصغرى) ولذلك فإنه يسمى مجمع نيقية أو المجمع النيقاوي. وحضره جميع الأساقفة من أنحاء الإمبراطورية لبحث هذه القضية.
ترأس حفل الافتتاح قسطنطين نفسه (بوصفه "الحبر الأعظم" لهذا الدين الذي اعتنقه حديثا).
وانتهى المجمع إلى إقرار ما يسمى قانون الإيمان المسيحي. وقد جاء في هذا القانون أن المسيح مساو للآب في الجوهر. أي أنه أخذ بالرأي الأرثوذكسي. ولم يقبل أريوس وأتباعه بذلك وخرجوا ينشرون فكرتهم في المشرق، لكن الأريوسية بالذات ضعف شأنها في المشرق وانتقلت إلى أوروبة ومن ثم إلى شمال إفريقيا.
وكان من آثار الخلاف الذي استمر بعد المجمع أن الأباطرة كانوا يختارون الأرثوذكسية أو الأريوسية أساسا لمعتقدهم، وكان كل يؤيد جماعته وقد يقع بعض الاضطهاد على الخصوم. وعندنا في أواسط القرن الرابع خبر ماوية ملكة العرب في بادية الشام التي كانت جماعتها على الأرثوذكسية، وكان الإمبراطور البيزنطي (التسمية بدأت بإنشاء مدينة القسطنطينية، على أنقاض بيزنطة، على يد قسطنطين إشارة إلى فترة جديدة وعهد جديد ونظام جديد). فالنس (364-378) اريوسيا، فأراد الضغط على ماوية وقومها عن طريق تعيين أسقف اريوسي لجماعتها الأرثوذكسية. فثارت مع قومها وانتصرت على الجيش الإمبراطوري وحملت فالنس على السماح بأن يُرسم لها أسقف أرثوذكسي (اسمه موس) على يد أساقفة أرثوذكس كان فالنس قد سجنهم في فلسطين أو سيناء.
والمسألة الثانية الكبرى التي تحاور المسيحيون بشأنها زمنا ووضعوا الكتب حولها هي طبيعة المسيح.
والقضية هي: أن المسيحية تعتبر المسيح ابن الله أي أن له طبيعة إلهية. والمسيح عاش على الأرض حياة إنسانية عادية. فما هي الطبيعة التي كانت للمسيح أثناء وجوده على الأرض. كثرت الآراء لكن في النهاية تركزت حول رأيين: الأول أنه كان للمسيح طبيعتان وهو على الأرض أي أن طبيعته الإلهية ظلت قائمة ولكن قائمة مع طبيعة بشرية. والثاني هو أن الطبيعتين امتزجتا فأصبحتا طبيعة واحدة.
القرن الرابع كان، كما رأينا، زمن نشاط وخلاف من جهة، ولكنه كان فترة انتشار واسع أيضا. لعل هذه الخلافات لفتت الناس إلى المسيحية. ثمة أمر آخر نشير إليه وهو أن عدد كبيرا من الكنائس الهامة بنيت في بيت لحم والقدس وسواها أيام قسطنطين الأمر الذي كان مدعاة للاهتمام.
وعلى كل فإن الخلاف حول طبيعة المسيح استمر. وقد أضيف عنصر آخر للقضية على يد نسطوريوس (380-451م) الذي قال بأن الطبيعتين في المسيح لم تتحدا، وظلتا منفصلتين.
هذا الرأي النسطوري انتشر خارج منطقتنا التي نحن بها معنيون، إذ طرد النساطرة منها.
ولنخلص إلى القول أن منطقة المشرق العربي كانت في القرن السادس قد توزع فيها الرأيان الأصليان – الطبيعة الواحدة والطبيعتان – على أساس لغوي. فاليعاقبة، كما أصبح أتباع الطبيعة الواحدة يسمون يومها، انتشروا في أرض الرافدين وشرقي بلاد الشام، وتكلموا السريانية وكتبوا بها. وكانت مصر أيضا يعقوبية المذهب. أما القائلون بالطبيعتين فكانوا يقيمون، بالنسبة إلى منطقتنا، في الأجزاء الغربية، وكانوا في الغالب، يلجأون إلى اليونانية وكان اتصالهم بالعالم اليوناني أقوى.
ولكن مما يجب أن يذكر هو أن هذا الانقسام الطائفي كانت له دلالة سياسية أيضا. إن أتباع الطبيعة الواحدة اضطهدوا رسميا، فأصبح مذهبهم، بالنسبة إلى الدولة البيزنطية يمثل العصيان ضدها وبالنسبة لهم كان مذهب المقاومة الوطنية ضد الحكم البيزنطي: اضطهاد وظلم من الحاكم (القائل بالطبيعتين) يقع على القائلين بالطبيعة الواحدة.
وظل الأمر على ذلك إلى زمن الفتوح العربية الإسلامية.
لم يقتصر الاقتباس والتبادل في شؤون الحضارة على ما ذكرنا. فقد حمل الرومان إلى المنطقة فنهم المعماري الذي انتج هذه الآثار التي تقع عليها العين في كل بقعة من المنطقة، فتمتلئ النفس سرورا بما تشاهد من أماكن عبادة وبقايا قلاع وآثار طرق على ما أشرنا إليه.
وكان لا بد، وقد وجد الرومان هنا ستة قرون ويزيد، من أن تتأثر البلاد بما كان عند القوم من قانون ونظم. فمدرسة الحقوق في بيروت، وقد كانت من أكبر المعاهد لتدريس هذه الموضوعات في الإمبراطورية، لا بد أنه كان لها أثر في تربية الحس التشريعي والفكرة الحقوقية. وقد عثر المستشرق ساخَو على نسخة من مخطوطة لكتاب سماه، إذ نشره، "كتاب القانون الروماني السوري" يعود إلى القرن السادس الميلادي يوضح دون ريب أن شمال شرق بلاد الشام تأثر بالتشريع الروماني.
لكننا توقفنا عند الحوار المسيحي المسيحي لأنه كان الأهم والأوضح.
منطقة كان قد مر عليها، لما فتحها العرب المسلمون في أوائل القرن السابع الميلادي، نحو سبعة آلاف سنة من التجارب الحضارية، على جميع أنواعها وتعدد أصنافها – الاقتصادية والسياسية والدينية والأدبية والعلمية. وتبدلت فيها دول، واختلطت فيها شعوب وتنوعت فيها ألوان الحياة. فكان لها من ذلك تجربة فريدة. تبادلت شعوبها الخبرات واقتبس الشعب الواحد من الآخر. وكان التبادل أفقيا معاصرا كما كان عمودا زمنيا. وكان هذا الذي وجده العرب فيها لما دخلوها. وتأثروا بتجاربها وأفادوا من خبراتها. ومر بهم، لما استقر بهم المقام، بعض ما مر بمن سبقهم. فأنتجوا حضارة رائعة، واختلفوا فيما بينهم فكرا وأدبا وشعرا. فكان ثمة تراث عظيم، سببه هذا التحاك الذي ينتج عن حوار الحضارات. ولا يزال الحوار قائما في الدنيا، وهو في صالح البشرية يقودها دوما إلى الأمام.
السلطة الالهية
في الشرق الادنى القديم
في الالف الرابع قبل الميلاد كان الجزء الجنوبي من ارض الرافدين قد استقرت فيه جماعة اسمها السومريون وفي اواخر الألف الرابع كان قد تم لهذه الجماعة اقامة مدن يبلغ عددها نحو ثلاثين في هذه الرقعة الصغيرة لان الارض خصبة وتنتج الكثير وكانت حاجات الناس نسبيا قليلة.
هذه المدن كانت مستقلة واحدتها عن الاخرى وكان يحكم كل منها ملك. وكانت اتساعاتها مختلفة بين واحدة كبيرة مثل نيبور (نيفار الحديثة) وبين ممالك صغيرة تقع في الجزء الجنوبي الشرقي. وكانت لكل منها الهها.
يروي التاريخ ان هذه الجماعات بنت المدن بإرشاد من الملك وقد يكون هذا صحيحا. ولكن الانسان، قديمه وحديثه، يبحث في الغالب عن قوة اخرى تساعده. والمساعدة جاءت من الاله بمعنى ان الاله كلّف الملك ان يبني المدينة. وكان للاله هيكل كبير في كل مدينة يتوقف حجمه على سعة المدينة واهميتها. هذا كان يُسمى زيغورات. الزيغورات كان مقر الكهنة. والكهنة كانوا يقدّمون الذبائح او يقبلون الذبائح والتقدمات من الشعب المرفوعة الى اله المدينة. هذا الاله هو الذي بنى المدينة واذن فهو الذي يحكمها. لكن لان الاله لا يجب ان يقوم بالحكم مباشرة ويتدخّل في الخصومات والادارة والتنظيمات فقدّ اوكل الامر الى الملك. فالملك كان يمثل الاله في كل مدينة ومن ثم فان الشعب يمكنه ان يقوم بالعمل، ولكنه يتوجب عليه ان يقبل ما يأتيه على انه آت من الاله. وهذه الالهة بالذات، التي كانت ألهة المدن، كانت في الوقت ذاته وفي احيان كثيرة الهة لمظاهر الطبيعة المختلفة: الرياح، الامطار والزوابع والهدوء والشمس والقمر والظلام. كل هذه كان لكل منها اله يتصرّف فيها وقد يحدث ان يكون الاله اله مدينة واله لشيء اخر. فانليل الذي كان اله مدينة نيبور، كان ايضا اله الرياح والعواصف.
ثمة امر في غاية الاهمية بالنسبة لهذه المدن. كانت تقوم بين المدينة الواحدة ومدينة اخرى خصومات. وقد تؤدي هذه الخصومات الى معارك. وقد يكون ثمة نوع من الاحتلال. وفي اثناء الحرب قد يهدّم جيش مهاجم جزءا من اسوار المدينة المهاجمَة. عندئذ يتوجّب على الملك المنتصر ان يعيد بناء هذه الاجزاء التي تهدّمت لان هذا الامر، اذا لم يتم، يعني اعتداءا من الاله المهاجم على الاله المغلوب. وهذا امر لم يكن يُقبل به واذن فهذا يُصلّح ويعاد الى ما كان عليه ارضاء لاله المدينة، لا قياما بالواجب.
من هنا نرى ان كل شيء: بناء المدينة، الحراثة، الزراعة، التجارة، بناء القوارب للاستعمال في نهري دجلة والفرات، المتاجرة مع انحاء اخرى بعيدة مثل جزيرة البحرين، ديلمون القديمة، وحتى ابعد من ذلك في الالف الثالث قبل الميلاد منوط بالملك نيابة عن الاله. وعندنا في واقع الامر وثيقة تعود الى سنة 2225ق.م هي وصلٌ بعث به تاجر من مدينة سومرية الى عميله في ديلمون في البحرين يُنبؤه ان البضاعة وصلت وانه سيحول اثمانها اليه. والثمن لم يكن نقدا، فالنقود لم تكن قد عرفت بعد، ولكنه كان اما بضاعة مماثلة أي سلعا تجارية او قطعا من الذهب او الفضة.
هذا الشعب السومري كان اول شعب في تاريخ البشرية اهتدى الى كتابة. كتابته تسمى الكتابة المسمارية. سميت كذلك لانه ما كان يجب ان يُكْتب كان يحفر على الواح من الطين ثم توضع هذه القطع الطينية في الافران لتيبس وعندئذ تصبح وثيقة صالحة للنقل. وقد كشف الباحثون الاثريون في العراق عن عشرات الالاف من هذه الوثائق. الكتابة التي اخترعها السومريون كانت كتابة مقطعية بمعنى انه لم تكن لها حروف. كانت هناك صور تمثل مقاطع. مقاطع فيها عدد كبير من الاصوات احيانا، لكن القوم عرفوها وقرأوها.
اواخر الالف الثالث قبل الميلاد وفي اوائل الالف الثاني احتل قوم بدوٌ ساميون كانوا قد استقروا الى الغرب من العراق هم الأكاديّون فاحتلوا المنطقة بأكملها. فاصبحت ثمة بلاد سومر وأكّد. هذه المدن تهدم بعضها لكن الحضارة بقيت وآثار العمل استمرت. الا انه حدث تغيران مهمّان هما ان اللغة السومرية اختفت يومها وحلت محلها اللغة الأكّادية التي هي واحدة من اللغات السامية كما ان الأكّاديين الاميين تعلموا الكتابة السومرية، وكانت اللغة الجديدة ايسر على القوم كما يبدو. ومن ذلك الحين أخذت اللغات السامية المختلفة تنتشر في جهة بين النهرين وفي سوى ذلك من بلاد الشام وما جاورهما.
هنا يجب ان نتوقف لنقول ان ما كان عند السومريين من عقيدة دينية لم يتبدل بمجيء الاكاديين. وظل الملك ملكَ المدينة ولو انه كان الان له سلطة اوسع فهو الذي يمثل الاله على الارض ويحكم باسمه. ولكن هذه المرة كان هذا الاله يتحكم في رقعة واسعة من البلاد.
فلما قامت دولة حمورابي، الدولة البابلية الاولى القديمة، والتي كان اكبر ملوكها حمورابي الذي عاش في النصف الاول من الالف الثاني قبل الميلاد واتسعت دولته لانه احتل مناطق خارج هذه المنطقة في الشمال وفي الغرب. حمورابي ينسب اليه قانون حمورابي. والمهم في القانون، فضلا عن نصوصه التي لا مجال للحديث عنها الان، هو تمثال لحمورابي يتناول فيه لوحين حجريين من الاله فيهما هذا القانون الذي عُرف فيما بعد باسم قانون حمورابي. وظل حمورابي يمثّل الاله الذي في السماء لكن هذه المرة كان ممثل واحد لاله السماء هو حمورابي ملك المنطقة بأكملها.
وبعد الدولة البابلية الاولى جاءت الدولة الاشورية. الدولة الاشورية قامت في الجزء الشمالي من العراق في الجزء الجبلي وهو الابرد في العراق، ولم تلبث ان احتلت بقية بلاد الرافدين. لكن هذه الدولة التي يمثلها أشّور ناصر بعل مثلا لم تكتف بان تكون لها سلطة في ارض الرافدين فقد اتجهت غربا وافتتحت بلاد الشام بأكملها ولذلك كانت لها امبراطورية، ولعلها اول امبراطورية في التاريخ. وكان الاله أشّور هو صاحب السلطة والملك كان مهما كانت قوته ونفوذه وادراكه ومعرفته لانه يمثل الاله. هذه القضية مهمة جدا للاحتفاظ بها لحديثنا في المستقبل.
بعد اشور قامت الدولة البابليّة الثانية او الجديدة او الدولة الكلدانيّة كما تسمى. وهذه كان منها نبوخذنصر الامبراطور المشهور. هذه افتتحت المناطق التي كانت تتبع للدولة الاشورية وحكمتها لكن مدتها لم تطل. فقد كانت في الهضاب الشرقية المصاقبة لارض الرافدين جماعة تنمو تدريجيا ويزداد عدد السكان فيها وتريد ان تحتل ارضا خصبة. جربّت قبل ذلك لكن الدول التي كانت في ارض الرافدين كانت قوية فحالت دونها ودون احتلالها. بعد سقوط الدولة الكلدانية او البابلية الثانية كان من اليسير على اهل الهضبة ان ينحدروا الى بقية العراق فيحتلوه ثم يتجهوا غربا فيحتلون بلاد الشام واكثر من ذلك يحتلون وادي النيل. فيقيمون امبراطورية واسعة هي الدولة الاخمينية.
كان سكان هذه الهضبة وهم الفرس يعبدون الهين اله الخير واله الشر ويتمثّل اله الخير بالنور واله الشر بالظلام. ومن هنا كان هذان الالهان المتحكمين في شؤون البلاد والعباد. وكان الامبراطور يمثل هذين الالهين المجتمعين في اله واحد في قوة واحدة.
وانتهى امر هذه الدولة لضعفها اولا ثم بالقضاء عليها على يد الاسكندر المقدوني. لما احتلّ المنطقة باسرها من شرق بلاد اليونان الى الهند بما في ذلك بلاد الشام ووادي النيل. وانشأ اول امبراطورية واسعة في التاريخ، لكنها لم تدم طويلا لان الرجل نفسه مات وهو في شرخ الشباب.
ننتقل الان الى المركز الثاني للحضارة القديمة في العالم وهو وادي النيل. وادي النيل عرفت فيه كتابة تسمى الهيروغليفية. وهي كتابة مقطعية صورية اكثر منها مجرد مقاطع. هذه الكتابة ظهرت بعد كتابة السومريين بنحو نصف قرن.
الفرق الجغرافي الطبيعي بين ارض الرافدين ووادي النيل هو ان ارض الرافدين تعتمد نهرين لكن هذين النهرين يضاف اليهما فيضان في اوقات مختلفة. في وادي النيل كان ثمة نهر واحد هو الذي يجتاز البلاد من الجنوب الى الشمال وله موسم فيضان واحد في السنة. وعليه تتوقف حركة الزراعة واقامة القرى والمدن ونشوء الدويلات الصغيرة او الامارات. لكن لان هذا النهر كان يجب ان يُضبط بعض الشيء ليروي الاراضي لا في اوقات الفيضان فحسب التي تأتي في الخريف ولكن في الاوقات الاخرى. لذلك كان من الضروري ان تكون الوحدة السياسية فيه اكبر مما كانت عليه في ارض الرافدين. فكان ثمة دولتان شمالية وجنوبية. لكن الامر انتهى في اواسط الالف الثالث قبل الميلاد او اواخره الى اتحاد الدولتين فاصبح وادي النيل يحكمه ملك واحد هو الذي كان يسمى الفرعون. الملك هذا كان بالنسبة للسكان لا يمثّل الاله ولكنه يجسّد الاله على الارض. ومن هنا فقد كانت منـزلة الفرعون الملك اكبر واوسع واشد مما كانت عليه سلطة الملوك الصغار او حتى الاباطرة في ارض الرافدين وما جاورها. هذان النموذجان التمثيل الملكي للاله في ارض الرافدين وما اليه وتجسيده في وادي النيل هما الامران اللذان يطبعان التاريخ القديم من نواحي مختلفة.
كان هناك امور كثيرة يجب ان تفسر منها خلق العالم ومنها الطوفانات التي كانت تحدث. من هنا نجد في الاساطير السومرية قصتين مهمتين الواحدة خلق العالم والثاني طوفان نوح. هذان حولهما اساطير. لكن هذه الاساطير المختلفة التي عرفت في ارض الرافدين ايام السومريين لم تسجل الا في ايام الدولة البابلية الاولى في الالف الثاني قبل الميلاد ومن ثم عرفت تاريخيا باسم الاساطير البابلية على اساس زمن التسجيل. وفي مصر كان ثمة اساطير اخرى لكنها من الاصل سجلت باللغة الهيروغليفية. وهذه الاساطير كلها تدور حول مقدرة الالهة واختفاء الالهه وظهور الالهة.
بين ارض الرافدين ووادي النيل تقع بلاد الشام. وبلاد الشام كانت لها مدنها التي ظلت دوما مستقلة واحدتها عن الاخرى الا حين يأتي من يحكمها جميعها من الخارج. وكان لكل دولة، اي لكل مدينة كبيرة وارباضها الهها. انما التأثر بالجهة البابلية كان اوسع مع ان المصريين احتلوا بلاد الشام من اواخر القرن الخامس عشر الى اواسط القرن الثاني عشر احتلالا مستمرا وانشأوا لهم فيها ادارة واسعة. لكن اساطيرهم لم تنتشر في البلاد على النحو الذي انتشرت فيه اساطير بين النهرين. ثمة آثار مصرية عُثر عليها في بلاد الشام. على سبيل المثال. ثمة هيكل مصري اكتشف في مدينة جبيل (بيبلوس) ، لكن هذا لم يكن يتعبد فيه جماعة من اهل جبيل. هذا كان يتعبد فيه التجار الذي كانوا يأتون من مصر بشكل خاص للتجارة بالاخشاب التي كانت تنقل من لبنان الى مصر. هؤلاء التجار كانوا يقضون اوقاتا طويلة فكان لهم هيكل وكانت لهم تماثيلهم. لكن فيما توصل اليه الباحثون حتى الان لم يكن هناك اثر ديني مباشر للمصريين في بلاد الشام.
الاثر الذي جاء عن طريق انتقال اساطير كثيرة فيما بعد ما اورده العبرانييون واعتبروه انه جزء من كتابهم المقدس بدءا باسطورة الخليقة. ودأب يهوه على محاربة الالهة الصغيرة حتى استطاع فيما رأوا ان يصبح الاله الوحيد للعالم. لكن وحدانيته كانت مشوبة بأمرين: انه خص شعبا به هو الشعب العبراني واله العالم لا يمكن ان يخص شعبا به دون الشعوب الاخرى. والامر الاخر ان يَعِد هذا الشعب بأرض تكون له ارض الميعاد هي فلسطين. وهذه نقطة اخرى سوداء في العقيدة اليهودية. ولانها دخلت في الكتاب المقدس في عهده القديم كتاب اليهودية اصبحت جزءا اساسيا من العقيدة اليهودية.
الذي يمكن ان نصل اليه من هذا العرض المختصر هو ان كل حاكم حكم في المنطقة باشملها من شمال ايران الى جنوب وادي النيل كان يجسّم الها ولم يكن يحكم بنفسه. كان الحكم الهيا فالتسلط الذي كان يفرضه الملك او الامبراطور فرعونا كان او من ملوك بابل كان تسلطا باسم الاله لا تسلطا من جهته. ومن هنا فلم يكن من اليسير ان يثور الشعب على الحاكم لان معنى هذا انهم يثورون على الاله وهذا امر لا يجوز.
في القرن الرابع قبل الميلاد جاء الاسكندر المقدوني بجيشه الذي لم يكن كبيرا ولكنه اضاف اليه بعض المرتزقة في الطريق فافتتح اسيا الصغرى وبلاد الشام ووادي النيل وارض الرافدين وفارس حتى وصل الهند. وكانت هذه كما اشرنا قبلا اول امبراطورية واسعة في التاريخ.
لما وصل الاسكندر الى مصر ذهب الى واحة سِيوَه حيث دخل هيكل الاله أمّون ولما خرج اعلن الكاهن ان الاسكندر هو ابن الاله أمّون. واذن الاسكندر يُعْبَد ولا يحكم فقط. هو اله حل محل الفرعون واكثر قليلا. وبهذه الروح صار يحكم البلاد على انه هو يمثل اعلى سلطة في العالم لانها سلطة استُمِدّت من السماء وقد قُبل الامر لانه لم يكن غريبا على المناطق التي احتلها. لكن امبراطورية الاسكندر الشخصية لم تدم طويلا فقد مات الرجل في شرخ الشباب في بابل. وبعدها تقسمت هذه الامبراطورية الواسعة وملكها اولئك الذين يسمون خلفاء الاسكندر. لكن ظل الحاكم يُنظر اليه على انه اعلى من مجرد رئيس دولة. له هذه السلطة القديمة التي جاءت من السماء.
وهنا يمكن القول انه على هذا الاساس حُكمت مصر فالبطالمة خلفاء الاسكندر اعتبروا كأنهم تتمة لحكم الفراعنة. وسجلت اسماؤهم باعتبار انهم سلالات تابعة للسلالات المصرية القديمة. هكذا اعتبرهم الكهنة وهكذا اعتبرهم الشعب. فقد ظل اذا للسلطان الملك الوهرة، لعله لم يكن له نفس المقام الذي كان للقدماء لكن الفكرة عند الشعب ظلت هي هي: أن هذا السلطان هذا الحاكم يجسد الاله الذي يعبده المصريون.
وفي بلاد الشام اعتبر الاسكندر انه يمثل الالهة. ألَم يقبل به كهنة آمون على انه من نسل آمون (فاذن يقبل به الاخرون.) ولم يكن ثمة صعوبة فالناس معتادون على ان يحكمهم ملك او سلطان هو في الاصل ممثل للاله. وكان الامر اسهل حتى في بين النهرين اسكندر وخلفاء الاسكندر اعتبروا انهم يمثلون الالهة.
ظلت القضية على هذا الامر اعتبار السلطان ممثلا للاله. لما جاءت المسيحية وانتشرت لم يكن لها نظام اداري ولا سلطة ملكية ولم يقبلها الاباطرة ولذلك ظل الامبراطور الروماني، (والذي اسس الامبراطورية هو اغسطس في القرن الاول ق.م.) ظل هو الذي يمثل الاله ثم انتهى الامر ان اصبحت عبادة الامبراطور وروما وتقديم الضحايا لهما الدليل على ان الناس يقبلون بالسلطة. فكأن الاله نزل بعض الشيء وتجسّد في الامبراطور. وظل الامر على هذا المنوال في المنطقة التي حكمها اليونان السلاقسة في سورية والبطالمة في مصر، وكانت تابعة للامبراطورية وظلت تعبد هذا الاله.
فلما ظهرت المسيحية ولم يقبل اتباعها ان يقدموا الذبيحة للاله الامبراطور وروما اضطهدوا اضطهادا كبيرا مرا مؤلما الى ان جاء قسطنطين اول امبراطور بيزنطي 312-337م واعتنق المسيحية فتبدل الامر باعتبار ان قسطنطين هو ملك مسيحي لا يمكن ان يكون ممثلا لهذا الاله الواحد الله، لان الله لا يقبل ان يكون له ممثل. ولكن كان المألوف ان الامبراطور كان هو الكاهن الاكبر للديانة الوثنية فأصبح الكاهن الاكبر للمسيحية. ولبس ثوبه. فكأنه جعل نفسه رأسا للمسيحية من حيث الاشراف عليها. وهنا جاء تفسير جديد. ان هذا الامبراطور يحكم بامر من الله. لا يمثله تماما ولكن في الوقت نفسه لا تكون مخالفته جائزة.
الامبراطور الذي كان الها قبل اعتناق قسطنطين المسيحية لم يظل الها ولكنه ظل له منصب خاص في زاوية من زوايا الدين يستمد منه سلطة خاصة او تكسبه ثوبا خاصا او وضعا خاصا. هذه الحالة استمرت في المنطقة واستمر الحكام مستبدين منفردين متسلطين ولا يمكن ردعهم الا عن طريق الثورة اذا جازت واذا انتصر الشعب قد يقتل الملك واذا انتصر الملك فانه يعاقب الشعب عقوبة شديدة.
الآن نأتي الى الاسلام. ظهر الاسلام في الحجاز. القرآن اوحي به كله في مكة والمدينة. فما الذي كان يميّز في مكة المسلمين عن غيرهم سوى انهم كانوا يؤمنون بالله. هذا الاله القوي القدير المتحكم بشؤون العالم يصرّفها كما يشاء. لكن هذا الامر لم ينجح في مكة ولذلك هاجر النبي الى المدينة. وفي المدينة مع الوقت انشأ ما يمكن ان يسمى حكومة دينية. كان هو رئيسها وكان لم يزل يتقبل الوحي لأنه نبي. وكان هو الذي يفسر الامور في الاحاديث الشريفة.
لما انتقل الرسول (ص) الى الرفيق الاعلى بدأ الخلفاء الراشدون القيام بالامر لم يكن امامهم سوى ان يكون الخليفة هو المتسلط الوحيد يعيّن من يساعده، وكان هناك اية في القرآن الكريم تشير الى الشورى ولكن الشورى شيء يختلف عما يسميه الناس برلمان الان. الشورى ان يستشير الخليفة الحاكم الآمر السلطان من يختار اما افرادا او جماعات. فلما خرج المسلمون اول الامر من المدينة على ايام علي بن ابي طالب اذ انتقل الى الكوفة فعلى اي اساس يتصرف في السلطة ؟ هو انه مسلم وانه من آل الرسول. فاذن هناك امران جزء من النبوة وجزء من الحكم ولان الحكم كان حكما فرديا فكان كل شيء بيد الخليفة. وجاء الامويون وتولوا السلطة. وكان الخليفة يحكم على انه هو الحاكم بأمر الله.
قيام الدولة العباسية وفي ارض الرافدين وعلى مقربة من الفرس ومتأثرة اصلا بالفرس وآراء الفرس، عندها رأى الخليفة نفسه انه هو الذي يحكم في الارض. فقال الخليفة المنصور "نحن ظل الله على الارض". بذلك ختم ما قد تم في البلد من الالف الرابع قبل الميلاد الى ذلك الوقت لان السلطان الحاكم الملك لمدينة او لرقعة واسعة انما هو يحكم لامر الله باذن الله. فهو ظِل الله على الارض.
العراق القديم
(1)
يعود اهتمام اوروبا بالمشرق الى القرون الوسطى ، وذلك بسبب الحركة التجارية التي نشطت على ايدي البنادقة والجنوبيين وايام الحروب الصليبية . وحتى اكتشاف طريق جنوب افريقيا الى المحيط الهندي لم تقض على الحركة التجارية بين اوروبا والبلاد الشرقية .
على ان هذا الاهتمام التجاري لم تلبث ان اضيفت اليه نواح سياسية مهمة . ويعود ذلك خاصة في العصور الحديثة الى ظهور ثلاث قوى اوروبية كانت لها في اقطارنا الشرقية اهتمامات ومصالح وهي روسيا وبريطانيا وفرنسا . وزادت هذه الاهتمامات لما اصاب الدولة العثمانية التضعضع السياسي والحربي . فتفتحت العيون على احتمال اقتطاع اجزاء من هذه الدولة. وقد تم هذا الامر في اوروبا بالذات اولا" ثم في المنطقة الاسيوية ( والافريقية ) في القرنين التاسع عشر والعشرين .
ومع ان الرحالين والتجار الذين زاروا البلاد الشرقية كتبوا عتها الكثير فقد كانت كتاباتهم، على وجه العموم لا تعدو الوصف السطحي لاثارها ومعالمها . اذ ان المصادر التي يمكن الاعتماد عليها ،لدراسة بلاد مثل العراق ، كانت شحيحة ولا تتسم ،الا فيما ندر،بأي دقة او معرفة وثيقة .
ويمكن اجمال هذه المصادر فيما يلي(1) كتاب وضعه بيّروس وهو كاهن بابلي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد في تاريخ العراق القديم . وهو في الواقع مجموعة من القصص والاساطير والحكايات . ويقسم فيه تاريخ بابل القديم الى فترتين ، واحدة ما قبل الطوفان وثانية ما بعده . ويروي ان ملوك ما قبل الطوفان كانوا عشرة حكموا (422.000) سنة اما بعد الطوفان فقد حكمت البلاد خمس وعشرون اسره لمدة (36.525) سنة .
وكان لدى "الباحثين " ما ورد عند كتاب اليونان والرومان ، مثل هيرودتس وبليني وستيرابون، وهو قليل ولا يتناول الازمنة الموغلة في القدم . وكان العهد القديم من الكتاب المقدس يعتبر " التاريخ الصحيح" لتاريخ ارض الرافدين ، بما فيه من اساطير وقصص ترتبط بتاريخ العبرانيين اصلا" . وكانت ثمة اخبار وردت في كتب العرب المبكرة ، ولكن اكثر تلك الاخبار كان المقصود منها تبيان ما كان عليه القوم من ضلال قبل ان يصلهم الهدى .
(2)
كانت اثر الشعوب والدول القديمة ماثلة للعيان ، ولكن كل ما يمكن ان يقال عنها هو وصف ، مع بعض " التحزر " احيانا" ؛ هذا مع الانتباه الى ان الكثير من الابنية الهامة في جنوب البلاد كان قد زالت معالمه لانه كان مبنيا" من اللبن الذي لم محروقا" دوما" ،اما آثار الشمال فقد غلب عليها البناء الحجري ، ومن ثم كانت معالمها اوضح . لكن من اين المعلومات والاخبار .
والمعروف ان الامم القديمة كانت قد تركت نقوشا" وآجرات كتيرة في البلاد . لكن هذه , مع ان الكثير منها جُمع او نُقش ، لم تكن منها فائدة لان رموز الكتابة لم تكن قد حُّلت بعد .
الا ان الامر تبدّل بعض الشيء , لما بدأ الاوربيون ، الذين كانوا اصلا من العاملين في السلك القنصلي ، ينبشون عن هذه الاثار ويدونون ما حصلوا عليه ويصّورونه وينقلون النقوش . وكان اول من ضرب معولا للحفر الاثري في العراق بوتا-“Botta”( سنة1842 في نينوى، قرب الموصل ، حيث كان مركز عمله كقنصل لفرنسة . ثم انتقل الى شروكين حيث كشف عن قصر سرجون الثاني الاشوري ( 721-705 ق.م.) .لكن الحفر الجدي الاثري بدأ في العراق على يد لايارْدْ (Layard) سنة (1817-1894) القنصل البريطاني في الموصل ، الذي عمل مدة اطول وكان عمله منظماً . فهو الذي كشف عن قصور الاشوريين ووصف الفن الاشوري المعماري في نمرود ونينوى وسواهما .
وجاء بعد ذلك دور لوْفتوس (Loftus) الذي عمل في بابل – في الجزء الجنوبي من ارض الرافدين – فتم على يديه درس وَرْقة ( أوروك القديمة ، والتي يرد اسمها إرْك ( في الكتاب المقدس ) . فضلا ًً عن ذلك فقد اخرج من الاثار نقوشاً تعود الى ازمنة قديمة ( اتضح فيما بعد انها تعود الى الالف الثاني ق. م.) .
وحضر تايلور (Taylor ) في اور ( تل ألمقير ) في الجنوب ايضا" .
(3)
وجاء الفرج لما انتهى رولنصن (Rolinson) الى حل رموز الكتابة المسمارية (1856) والواقع ان العمل على ايدي عدد من الباحثين ، لكن رولنصن كان دوره اكبر فهوالذي انتهى العمل على يديه . عندها اصبح في يد الباحثين المصدر الاصلي للتاريخ البابلي كله ، فكان ذلك ايذاناً بالبدء في كتابة تاريخ موثق – الى درجة كبيرة . ذلك ان آلاف الوثائق والنقوش اصبح من الممكن كشف اسرارها .
الا ان اعمال الحفر الاثري لم تتوقف الا بعض الشيء في اواخر القرن التاسع عشر ليعود اليها النشاط على شكل اوسع بين الحربين العالميتين – الاولى والثانية . ومما هو جدير بالذكر ان ارض الرافدين وقعت تحت الحكم البريطاني ، فكان ايسر على الباحثين ان يحصلوا على الاذن اللازم للعمل .
فقد حفر وولي (Woolley) في اور ( بين 1952 و 1934 ) . وحفر مالوان (Mallowan) مع وولي في أوْرْ اولاً ثم في قرية صغرة في شمال سورية (الجزء المجاور لشمال العراق ) تسمى تشغار بازار ، بحثا" عن الاصول الزراعية .
وجدير بالذكر انه بعد الحرب العالمية الثانية قام علماء الآثار العراقيون مثل طه باقر ومحمد صقر وسواهما بحفريات كان لها شأن في توضيح امور كثيرة . ولعل عمل طه باقر في الكشف عن اسطورة جلجافش حرية بالذكر على نحو معين .
(4)
وفي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين طرأ على البحث الاثري – التاريخي فكرتان جديدتان ، اخذ علماء الآثار ، بدءاً ببريدوود ( Braidwood ) وزميله هاوْ (Howe ) ، يهتمون بهما : الاول بدء الحياة الزراعية والثاني قيام المدن ونشوء فكرة الدولة : هذا بعد ان كان البحث الاثري يتناول الابنية الضخمة والتجارة ووسعها ومراكزها . وفي سبيل تحقيق فكرة نشوء الزراعة ، مثلا" ، اخذ بريدوود فريقاً فيه علماء الدراسات الارضية ونباتيون وخبراء في قضايا العظم الى منخفضات الزعزوس في العراق حيث عثر الفريق بعد التنقيب هناك على حال لا يقبل الشك يوضح قيام الزراعة وتربية الحيوانات الاليفة في جارمو في الالف السابع ق.م.
اما مالوان الذي حفر في تل ابراشية فيما بعد فقد ثبت له ان هذه القرية كان لها حكومة محلية بين 5000 و4000 سنة ق.م.
وقبل ان نتحدث عن الدول التي اقامتها الشعوب المختلفة في العراق القديم ، نود ان نشير الى الاصل الاسطوري للبلاد . ويتلخص هذا في ان المنطقة بأجمعها كان يغمرها الماء المسمى إبْسُو . وكانت تيامات وزوجها الهة الشر في الفضاء الواسع كما كانت زعامة الهة الخير قد انتهت الى إيا وإّليل . وقد وقعت الحرب بينهما والتي اثارتها هي تيامات . لكنها انكسرت ، وعز عليها ذلك ، واعدت العدة لحرب ثانية كان خصمها في هذه المرة مرْدوخ ، الذي انتصر عليها وشقها قسمين نصب واحداً منهما قبة السماء ، وجعل النصف الاخر الارض .
واكرم مردوخ ، الالهة فبنى لها القصور ، لكنها لم تلبث ان ملّت الحياة الرتيبة . فطلبت من مردوخ ان يخلق لها من يعبدها – مصليا ومقدما لها القرابين . فخلق مَرْدوخ الانسان من مزج دم احد الهة الشر كنفو بالتراب .
وتزايد بنو البشر وكانوا يجمعون قوتعم اليومي من نبات ويقنصون الحيوانات ويصيدون الاسماك . وعملت الالهة الى تعليم الانسان كيف يدجن الماعز والغنم ، وكيف يزرع الشعير والقمح والنخيل وكيف يبني الاخصاص من الطين الصلصالي .
ولم يعجب إّليل(إبليل ) اله الرياح والاعاصير ان يظل اتباعه متفرقين في اماكن سكن متباعدة ، فأختار قطعة من الارض بنى فيها مدينة وجمع اتباعه فيها ، وحملهم على السكنى الدائمة على ان يتنقلوا حولها لاعمالهم . سمى إّليل المدينة " نيبور " ( نفار الحالية ) . واعجب الالهة بعمل إّليل فقلدوه وبنوا مدناً لاتباعهم : إنو أوُرك ( ورقة اووركاء ) وإيا اريدو(بوشهرين)،
وسِنْ سيار ( ابو حبة ) ولارْسا ( سنكرا )، وعشتار ( وكان اسمها الاول إنانا ) كيش .
وبنيت الهياكل ( الزيغورات ) واماكن للملك الخ .
(5)
ولننتقل الان الى التاريخ لنضع خلاصة له .
1- في مجر التاريخ كان شعب يسكن جنوب ارض الرافدين يعرف بالسومريين : شعب مجهول اصل جنسه لكنه لم يكن سامياً .
في اواخر الالف السابع ق.م. كان هذا الشعب قد اهتدى الى الزراعة ودجن الحيوان واقام القرى لسكناه حوالي سنة 5500 ق.م. بدأ الشعب يتنقل من القرية والريف الى المدينة . وقد تم ذلك بسرعة . كانت المدن مستقلة في حكومتها واعمالها . وقد تستولي مدينة ما على اخرى ، لكن ذلك لم يكن يدوم طويلا .
وفي اواسط الالف الثالث ق.م. كان ثلاثة ارباع سكان الجنوب يعيشون في مدن واسعة ، اذ ان معدل المسافة كانت حول 40 هكتارا .
يبدو انه في الالف الرابع ق.م. اخترع السومريون الكتابة المسمارية ، وثمة نقوش وآجرات رسمت بهذه الكتابة تعود الى حوالى 3000 ق.م. واقدم نص يعود الى سنة 3100 ق.م.
وكانت لهذه المدن علاقات تجارية مع الشمال والجنوب وخاصة مع عُمان (قفان ) مورد معدن النحاس الاساسي .
2-استولى الاكدّيون ( الاكاديون ) وهم شعب سامي الاصل على ارض سومر 2310 ق.م. اخذ الاكديون الكتابة السومرية لكنهم منحوا لغتهم السامية للسكان جميعا. واختلط الفريقان ونتج عن ذلك حضارة سومرية –أكّدية .
3- قامت دولة سامية جديدة في اوائل القرن التاسع عشر ق.م. في المنطقة هي الدولة البابلية واشهر ملوكها حمورابي ( 1792-1750 ) ، بني بابل واتخذها عاصمة له. كانت امبراطورية واسعة ( امتدت الى شمال سورية ) كبيرة النشاط تجارياً وتنطيمياً فهذا الملك هو صاحب "قانون حمورابي" الذي كان يمثل تطور التشريع منذ ايام السومريين حتى ايامه .
4- جاء بعد ذلك دور الاشوريين ، الذين كانت دولتهم تقوم في شمال البلاد ، فلما تقووا احتلوا المنطقة بأكملها ووصل حكمهم حتى مصر . وهذه قضى عليها الكلدانيون سنة 612 ق.م. ( واتخذت بابل عاصمة لها لذلك تسمى الدوولة البابلية الجديدة ). وهذه قضى عليها الفرس سنة 539 . وهي الدولة التي ظلت سيدة المنطقة الى ان فتح الاسكندر البلاد سنة 330 ق.م.
(6)
يجدر بنا وقد تناولنا هذه الدول التي قامت في وادي الرافدين ، والتي تم قيام الحضارة الاولى العالمية على ايديها ان نضع خلاصة بسيطة لما تم على يد هذه الشهوب متفردة ومجتمعة وممتزجة ومتبادلة المصالح والمنافع والانجازات .
1- كانت الحضارة السومرية حضارة مدن ، بما يتبع ذلك من تطور حضاري لا تعرفه الاماكن التي ظلت تسودها حضارة الريف والقرى . ويتضح هذا في هذا الكم الضخم من التقدم في العمران مثل حفر القني لنقل المياه الى ضواحي المدن الكبيرة التي كانت تبعد عن مجرى دجلة والفرات وديالي وقارون والخابور .
فضلاً عن التطور الصناعي والفني الذي تشهد به آثار القوم على المواد الخام من اماكن قاصية – عمان ، وآسيا الضعرى واواسط آسيه .
2- كانت الحكومة عند السومريين ملكية، وكان الملك يمثل الاله الذي بنى المدينة
( بحسب الرواية السائدة ) . وعمل الملك الاصلي انه يعنى بشؤون القضاء واحقاق العدل ، لكنه لم يكن كاهناً اذ ان هذا المنصب كان له الشخص الموكل به من حيث قيادة المصلين وتقديم القرابين للآلهة . ولم يكن الملك السومري ، الا فيما ندر ، قائداً للجيش . لكن هذا الامر بالذات يبدو انه قد تبدل فيما بعد، لان الملوك كانوا هم قادة الجيوش والحملات العسكرية.
3- يبدو ان المجتمع السومري لم يعرف الرق ، ولو ان الشعب كان يتقسم الى طبقات
اجتماعية متفاوتة المكانة والاهمية .
لكن يبدو من قانون حمورابي انه في ايامه ، وقبل ذلك طبعاً ، كان الامر قد
تبدل .
فالقانون يفرق في العقوبة بين الاحرار والارقاء .
(7)
قولنا ان هذه الحضارة العراقية استمرت حتى الفتح اليوناني سنة 330 ق.م. لا يعني ان التطور الحضاري توقف . انما القصد من ذلك ان مؤثرات حضارية جديدة دخلت المنطقة – يونانية ورومانية – وكانت الاولى اكبر اثرا .
واخيراً وليس آخراً ، دخل الاسلام المنطقة وقامت الخلافة العباسية (749م) في بغداد ولنقل اجمالاً ان الحضارة الاسلامية في العراق كانت في مقدمة ما قام من حضارة هناك .
يمكن ان نتصور هذا الكم الكبير من النتاج الحضاري الذي كشفت عنه يد المنقب الاثري.
ومن سوء الحظ فان الكثير من الاثار التي عثر عليها في بدء عهد النبش الاثري قد نقل الى الخارج . ويمكن مشاهدته على سبيل المثال في لندن ( المتحف البريطاني ) وباريس ( في اللوفر) وفي برلين ( المتحف الشرقي ) وفي كثير من المدن التي ساهم اثريون في الحفر فيها ، فنقلوا ما امكن نقله الى بلادهم .
ولكن الذي ظل في البلاد اكثر عدداً وكمية ، وقد حفظ هذا حفظاً تاما في المتحف العراقي . ويعود الفضل الاول في انشاء المتحف العراقي في بغداد الى غرترود بل (Gertrude Bell ) التي كانت مستشارة في دار الاعتماد البريطاني في بغداد . لكن الذي بدأته كان عملاً صغيراً . وقد نقل المتحف بعد ذلك الى مكان اوسع ، وقد زرته سنة 1956 . لكن بعد ذلك اقامت الحكومة العراقية بناءً خاصاً للمتحف الذي كان على نطاق كبير وتنظيم علمي متقن . وقد اتيحت لى زيارته في السبعينات . فكان روعة في الشكل والمحتوى .
هذا هو الذي نهب في نيسان ( ابريل ) 2003 ، ولست ادري اذا كان بالامكان تحديد الخسارة المادية . اما الخسارة المعنوية والتاريخية فلا احسب انه يمكن تقديرها قبل بعض الوقت .
التجارة في الجزيرة العربية
قبل الاسلام
كانت قِنا في الدرجة الاولى ثم عدن في الدرجة الثانية مكان تجمع التجار والسلع القادمة من الهند والقرن الافريقي وفيها التوابل والحرائر والطيوب ، هما البلدان اللذان يقصدهما التجار القادمون من الشمال يحملون بعض الزخارف والمواد الخام والاقمشة الصوفية والقطنية . وفي الميناءين المذكورين كانت تتبادل سفن اليم وسفن الصحراء احمالها واثقالها .
واول ما يتبادر الى ذهن القارىء هو هذا الجمل الذي كان يحمل التجار والسلع من الشمال الى الجنوب ومن الجنوب الى الشمال . لعل هذا الامر اصبح واقعا منذ اوائل الالف الثاني قبل الميلاد اي نحو سنة 2000 او بهدها بقليل .
ذلك ان الجمل الذي يبدو انه كان يكثر في الصحراء العربية كان القوم يصطادونه للحمه ، ثم دجّنوه حول 2500 ق.م. للسبب ذاته . ولم يكتشفوا انه الحيوان المثالي لاجتياز الصحراء الاحول 2000 ق.م. اما الحيوان الذي دُجّن فبل ذلك ، اي حول سنة 3000 ق.م. او بعدها بقليل فهو الحمار .
كان هذا هو دابة التنقل والسفر وحمل السلع في الجزيرة وخارجها . الفرس لم يصل الى بلادنا الاحوال 1800 ق.م. ولم يستعمل الا للركوب والجندية حتى انتجت من انواع مختلفة منها للركوب – للفرسان – ومنها للحمل مثل البغل والكديش الا حول 1500 ق.م.
ولان الحمار كان بحاجة الى مرعى وماء في طريقه ولانه لا يمكن ان يبقى بدونهما مدة طويلة ، فقد اقتضى الامر ان لا يبعد عن طريق فيه مرعى وماء . وكانت قوافله تنتقل من جنوب الجزيرة – من اليمن – الى الحجاز ومنها الى الشمال .
وكانت المدينة واحدة من المراكز المهمة لتبادل السلع ، بحيث يمكن للتجار ان يعودوا الى بلادهم مع دوابهم .
لكن لما دُجّن الجمل اختلفت القضية اختلافا جذريا" . فالجمل يصبر اياما على الجوع والعطش . فكان من اول ما حدث ان القوافل اصبحت تتجه ، فضلا عن بلاد الشام الى العراق راسا من المدينة . كما امكن نقل السلع من اجزاء من الجزيرة الى اجزاء اخرى .
ولكن من كان يتقبل سلع الجنوب المحلية مثل البجور المستورد ويزود القوافل والتجار سلعا بدلها ؟. كانت القوافل تحمل سلع الجنوب الى دمشق – اقدم مدينة في العالم ! – حيث توزعها هذه على الاسواق الشامية . وكانت القوافل تنقل سلع الجنوب الى غزة في جنوب فلسطين . ومنه هذه المدينة الساحلية كانت السفن تحمل البضائع الى جزر المتوسط القربية مثل كريت .
كما كانت تصل الى صور وهذه كانت لها اسواقها الواسعة في البحر المتوسط- قرطاجة في تونس وسواها . وكانت هذه المدن تحمل بحراً بعض ما ينتج في الجزر وما عندها من مصنوعات فنية زخرفية او صالحة للاستعمال بحيث تنقلها القوافل من تلك الموانئ الى اسواق الحجاز الرئيسية في المدينة ومنها الى موانئ الجنوب وفي الهند اسواق لذلك كله . فأرض الله واسعة .
هذه الطرق والمواقف الرئيسية الواقعة عليها استمرت تخدم الشرق البعيد والغرب القريب وكانت تتزايد مع الزمن ومع تطلب الناس في المنطقتين لما كان ينتج في الجهات الاخرى. وتفنن الناس في الصناعة وازداد انتاجهم وتوسعت الاسواق على الجانبين وفي الطريق وذلك لتلبية حاجة السكان في المنطقة الواحدة او الاخرى .
وتبدلت الاحوال السياسية ، فبعد ان كانت المنطقة باسرها من جنوب الجزيرة الى شمالها ومن الى الشمال – بلاد الشام والعراق – يحكم اجزاءها ملوك وامراء محليون . قامت دول وتوسعت امبراطورية بابل الثانية ( القرن السادس قبل الميلاد ) كما توسعت دولة فارس وامتد نفوذها فيمتد الى مناطق في الجزيرة في الاجزاء الجنوبية(اليمن وما اليها ). وكانت الامبراطورية الرومانية ، بنت القرن الاول قبل الميلاد ، قد توسعت شرقا وحاولت الاستيلاء على اليمن ( القرن الاول ق.م. ) . ولكنها فشلت فأكتفت بالسيطرة على مصر . الا ان الدولة البيزنطية , التي قامت في القرن الرابع الميلادي وكانت عاصمتها القسطنطينية ، وهي خليفة روما هذه نجحت بعض الشىء في ان يكون لها نفوذ قوي في غرب شبه الجزيرة تركز في نجران وما حوله .
من هنا ازدادات المراكز التجارية في الجزيرة العربية اهمية ، واصبح ثمة اربع طرق رئيسية تلتقي في المدينة وأرباضها و توصلها بشرق الجزيرة اولاها الى مناطق الخليج العربي وثانيتها الطريق الى اليمن وثمة الطرق الى الشام وهي الثالثة والطريق الى العراق وهي الرابعة .
ولما جاء الاسلام وبدأ انتشاره في تلك الجهات زادت اهمية هذه الطرق لانها اصبحت طرق الحجاج
وهكذا فالجزيرة العربية التي كان ينظر اليها دوما كأنها صحراء خالية ، كانت فيها حركات من اقدم الازمنة وكانت تتقدم بتوسع الاسواق الخارجية .
انها الجزيرة العربية ذات التاريخ الطويل المتطور مع الزمن .
0 التعليقات:
إرسال تعليق