**الســلام عليكـم**

ابحث عن موضوعك في موقعي هنا

ترجمة/Translate

الاثنين، 3 نوفمبر 2014

حوار الحضارات قبل الاسكندر



حوار الحضارات قبل الاسكندر
              الحضارة، كما أراها، تشمل جميع شؤون البشر: المادية ومنها شؤون المعاش بجميع مقتضياته من عمل في الأرض أو في المصنع لإنتاج ما يحتاجه المرء في حياته؛ والمعنوية أي الروحية والفكرية، أدبا وشعرا وفلسفة،؛ والاجتماعية تنظيما وعلاقات شخصية ومؤسسات تعنى بخير الإنسان وتعليمه؛ والسياسية حكما ونظاما ودفاعا؛ والاقتصاد توزيعا وسوقا وتجارة.
              وقد عرفت أرض الرافدين وبلاد الشام ومصر هذا كله – ولكن على النحو الذي اقتضته أحوالها ووضعها في تلك الأزمنة السحيقة.
              ونحن عندما نتحدث عن حوار الحضارات في هذه الأيام لدينا من الوسائل والسبل ما لم يكن متيسرا لأهل الحضارات القديمة. فالصحافة والكتب والتلفزيون أتاحت لنا وسائل فنية سريعة التناول والتبادل والحوار حول هذه الشؤون جمعاء. أما تلك الشعوب والأقوام فكان مجال الاتصال والتحاور فيما بينهم محدودا. ويمكن إجمال ذلك بالتقليد بسبب الجوار والعيش المشترك، والتجارة. إذ أن التاجر الذي كان يحتاج أياما، وأحيانا أسابيع وشهورا، كي يحمل سلعه من مكان إلى آخر وكي يتمكن من بيعها تبادلا ومقايضة، كان ينقل ما عند جماعته من قصص وحكايات وأدب وشعر (في بعض الحالات) مع سلعه ويتحدث عنها عندما يسمر مع تجار آخرين أو في الأسواق. وكانت الحرب والانتصار فيها أو الانكسار كثيرا ما يؤدي إلى نوع من تقليد الفريق الواحد للفريق الآخر.
              وفي هذه الحالات جميعا، وبسبب التجاور، فإن الأمور الأكثر جاذبية كانت هي المتغلبة على الأقل منها، خاصة فيما يتعلق بالعاطفة البشرية الرفيعة أو بما يحيي الآمال أو ما يمكن الناس من اتقاء الشرور والمآسي. والأقوى قد يفرض أحيانا ما عنده على الأضعف. ولكن قد يؤدي الأمر إلى عكس ذلك. وقد تكون نتيجة حرب واحدة وانتصار كبير الأمرين معا. فلما احتل الاكّديون بلاد سومر وأخضعوها لسلطانهم بعض الوقت، تعلم المنتصرون الكتابة السومرية وانتشرت لغة الأكّديين السامية في بلاد سومر. كما أن المنتصرين أخذوا بأساليب اللباس السومري، على الأقل عند الملوك ومن حولهم، كما يتضح ذلك من التماثيل التي عثر عليها في تلك الديار.
              ولعلّ أول ما يلفتنا هو انتشار الأساطير السومرية أصلا في بلاد الشام شفويا أصلا، ثم عن طريق النص المدون اعتبارا من حول القرن السابع عشر قبل الميلاد، لما دونت هذه الأساطير بالكتابة المسمارية واللغة السامية على آجرات عثر على المئات منها مؤخرا في الأماكن التي تم الكشف عنها وخاصة في المكتبة الملكية الآشورية. ولم يقتصر انتشارها على بلاد الشام بل تعدت ذلك، فيما بعد إلى اليونان. ويرى بعض دارسي هومر، الشاعر اليوناني، أنه قد تأثر ببعضها في الإلياذة.
              والأسطورة البابلية (كما سميت بسبب تدوينها في أيام الدولة البابلية الأولى 1894-1595ق.م.) لم تكن مجرد حكاية للتسلية، بل إنها كانت تعبر عن إلهيات تلك الأيام وأشواق الإنسان نحو الارتفاع ورغبته في الحصول على الحياة الأبدية وخوفه من غضب الآلهة فيما إذا صنع الشرفي عينها. ولنمثل على ذلك بالنماذج الآتية:
  1.   أسطورة الخلق، التي أوردنا بعض تفاصيلها في مفتتح هذا الحديث. إن الإنسان، في تأليفه هذه الأسطورة، الأمر الذي لعله احتاج إلى وقت طويل حتى وصلت إلينا على ما انتهت إليه، أراد أن يحلّ لغز وجود هذا الكون ووجوده فيه. فاعتبر أن الأمر حدث بسبب قوة قادرة على ابتداع الأشياء، ومع أن تطلعاته كانت كبيرة، فإن أفقه كان محدودا إلى درجة كبيرة. فتصور أن آلهة متعددة، لا إلها واحدا، هي التي فعلت هذا كله. وقد انتشرت هذه الأسطورة، أسطورة الخليقة، في المنطقة جمعاء وكان أن ظهرت في أسفار التوراة (من الكتاب المقدس). إلا أنها هنا تقول أن صانع هذا كله هو اله واحد. لكن التفاصيل تكاد تكون واحدة. ولولا أننا نخشى الإطالة (وقد طال بنا الحديث كثيرا حتى الآن) لكنا نقلنا عبارات من المصدرين ليطلع القارئ بنفسه على مدى التشابه بين النصين.
  2.   وثمة أسطورتان أخريان هما أسطورة أدابا وأسطورة برج بابل. وهاتان تمثلان شوق الإنسان إلى الارتفاع نحو السموات العلى. فالأول سلّح نفسه بما يعينه على الارتفاع لكنه سقط لأنه لا يجوز لإنسان أن يصل إلى مكان الآلهة. أما أسطورة برج بابل فالأصل الأول فيها كان محاولة لتكريم الآلهة ببناء "زقوراة" لا مثيل لها لتكريم إله المدينة، أي مدينة التي كانت يومها الأغنى والأقوى. لكن لما وصلت إلى التوراة كانت قد تبدلت طبيعتها فأصبحت تقول أن البشر أرادوا أن يبنوا برجا للوصول إلى الإله ومقارعته. لذلك بَلْبَلَ الإله ألسنتهم – أي نوعها بحيث لا يفهم الواحد كلام الآخر – فلم يستطيعوا إتمام العمل أي أنه فشّلهم. لكن اسم بابل – المدينة والبرج – مشتقة من كلمتي باب وإيل، وإيل معناها إله. وبرج بابل سمّي باسم المدينة. والذي عليه الباحثون أن كلمة بابل لا علاقة لها بكلمة "بَلْبَل" الواردة في التوراة، وهذا القول تحريف للاسم الأصلي.
  3.   وأسطورة الطوفان (التي ترد في ملحمة غِلغامِش) هي تفسير القوم للعقاب الذي يستحقه أولئك المخالفون لأصول تكريم الآلهة وعبادتها. عقابهم أن تطغى مياه المطر الغزير على بلادهم فتقضي عليهم. لكن لأنه يوجد بين الأشرار الكثر بعض الصلحاء، فإنه يجب إنقاذهم. وتختلف وسائل الإنقاذ باختلاف الرواية. وهذه الأسطورة وصلت أيضا إلى "التوراة"،ودونت فيها على نحو يناسب الذين دونوها، فسموها طوفان نوح. ولنشر هنا إلى أن تدوين أسفار التوراة بدأ في القرن العاشر قبل الميلاد، لكن النص النهائي الذي بين أيدينا لم يتخذ شكله المعروف إلا بعد نحو عشرة قرون.
  4.   وملحمة غِلغامِش التي لعلها من أمتع ما وصلنا من أساطير أرض الرافدين، تروي حكاية ملك أورُك الذي رغب في الحصول على الحياة الأبدية. وبعد مجازفات في اجتياز طرق مخيفة ومزعجة والمرور بصعوبات كبيرة، وصل إلى "عشبة الحياة الأبدية" وتملكها. لكن وهو في طريق عودته إلى مدينته طلب الراحة، وأغفى، فخرجت حية سرقت منه "عشبة الحياة الأبدية". فعاد صفر اليدين. هذه الأسطورة الملحمة، مثل حكاية "أَدابا" تقول للإنسان أن الحياة الأبدية لن تعطى له.
              والمهم أن هذه الأساطير كان لانتشارها الواسع أثر كبير في تطوير أساطير أخرى نشأت في المنطقة مثل قصة عشتار وتموز عند الفينيقيين وسواها مما عرف في أوغاريت (راس الشمرا – شمال اللاذقية). وكان الجو الطبيعي الذي تنشر فيه  الأسطورة وتتطور يؤثر في تركيبها وصيغتها. فالأسطورة البابلية نشأت في سهول يخترقها نهرا دجلة والفرات وتفرعات لهما وأنهار أصغر تصب فيهما، أما ديار الانتشار فتختلف بين آسيا الصغرى الجبلية وبلاد الشام الجبيلة والسهلية والساحلية التي يحاذيها "البحر الكبير" في عرف الأساطير الآتية من الشرق.
              وكما وزعت أرض الرافدين أساطيرها وقصصها تقبلت من جيرانها في الشرق والشمال بعض ما عندهم. ولعل هذه أثرت في الأسطورة الأصلية، فاختلف طعمها تبعا لذلك كما تبدلت صياغتها. هذا واضح في نسخ الآجرات المختلفة لبعض هذه الأساطير في أجزاء منها. وأقدّم مثلا واحدا لذلك جاء في ملحمة غِلغامِش. فيها ذكر لغابة الأرز. فاية غابة أرز هي المقصودة – هل هي التي في جبال لبنان الشمالية أم تلك التي في جبال زَغْروس الإيرانية؟

              بدءا من مدينة نيبور، مدينة إلّيل التي خُلِقَ فيها الإنسان أول ما خلق، والمدينة ذات البهاء والزقورات الفخمة، والتي عرفت سرجون الأكّدي فاتحا لها محترما إياها (سنة 2310ق.م.)، وبذلك تمكنت من السير قدما في توجهها العلمي. فقد نبش علماء الآثار الأميركيون في القرن التاسع عشر حوالي أربعين ألف رقيم تحتوي في مجملها لوائح بأسماء الآلهة والملوك وبالأمثال والدين والطب والقوانين والأدب، ولكن ثمة بينها ما يختص بعلوم الفلك والرياضيات والفيزياء.
              وعيّن هؤلاء العلماء دورية الكواكب وتعاقب أطوار القمر ودوران الشمس والدورات الزراعية. والتقويم الذي استنبطه هؤلاء القوم ظل مستعملا قرابة ألف وتسعمئة عام أي حتى عصر الاسكندر.
              والكثير مما عرفه علماء نيبور انتشر في المنطقة غربا، وأصبح أساس ما تكشف لسواهم فيما بعد، وخاصة التقويم القمري.

              حكم حمورابي بين سنتي 1792 و 1750 ق.م. والرجل فضلا عن مقدرته الإدارية وعنايته بالعمران والحياة الاقتصادية هو الذي وضع أقدم قانون متكامل ونقشه على مسلة أسطوانية جميلة، وأمر بنحت نماذج متعددة منها نصبها في أنحاء مملكته. ولعل المسلّة الموجودة في متحف اللوفر (باريس) هي المسلّة الأصلية.
              كان قانون حمورابي يمثل أعرافا ومراسيم سابقة وقوانين جزئية سنها ملوك سبقوه، وقد نقشوها على لويحات من الصلصال في اور وفي نيبور. لكن قانون حمورابي كان الأوفى وكان الكثير منه نتيجة عمل الملك نفسه، ونتيجة للإصلاحات التي أدخلها في المملكة. والقانون بحد ذاته يرسم صورة عن المجتمع البابلي.
              ولسنا ننوي أن نفصّل ! لكننا نشير إلى أن العقوبات التي نص عليها القانون روعي فيها، جرما وعقابا، الوضع الاجتماعي للجاني والمجني عليه، إذ كان المجتمع يتكون من طبقات ثلاث هي: الناس الأحرار وهم المواطنون الذين يتمتعون بالحقوق كاملة؛ والتابعون الذين ينالون بعض الحقوق لقاء ما يقدمون للدولة من خدمات؛ والعبيد الذين كانوا أسفل السلّم الاجتماعي. وتظهر في هذا القانون أمور خاصة مرتبطة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية. فهو يميل نحو إفادة التجار. وقد فرض عقوبات قاسية للاغتصاب ونظّم الزواج وحمّل البنّاء مسؤولية تهدّم البيت غير المدعّم. وهكذا دواليك.
              وكثر ما أفادت الجماعات المجاورة والتابعة زمنا من هذا القانون. وهو أيضا وجد طريقه إلى التوراة. وفيها ذكر أنه هبة من يَهْوه (الإله الأعظم).

              وهنا نأتي إلى واحد من أهم ما أنتجته أرض الرافدين وانتشر في المنطقة التي نتحدث عنها باستثناء مصر – والمقصود الكتابة المسمارية الاختراع الأكبر أثرا. فهذه الكتابة قبلها الاكّديون وكتبوا بها لغتهم وكتبت بها لغات أخرى في عيلام إلى الشرق. وكانت هي التي استعملتها مصر للتراسل مع امبراطوريتها الشامية أيام أخناتون على ما كشفته رسائل (أرشيف) تل العمارنة (افق آتون) التي كانت عاصمة الدولة في زمنه. كانت لمصر كتابتها الهيروغليفية لكن إستعمالها ظل مقصورا على مصر.
              ولعله من المناسب أن نتحدث هنا عن تطور الكتابة في العالم القديم بحيث انتهى الأمر إلى اختراع الألفباء. إذ أن هذه الناحية تمثل التواصل الحضاري الأهم في تاريخ الشرق القديم.
              عرفنا أنه كان ثمة نموذجان للكتابة – السومرية والهيروغليفية – اللذان ظهرا في الألف الرابع قبل الميلاد. وكان أسلوب تدوين الكتابة السومرية بأن تنقش بما يشبه المسمار على ألواح الصلصال، ثم تُشوى هذه، فيثبت ما نقش عليها ويبقى (وقد بقي قرونا) أما الهيروغليفية فكانت تنقش على جدران الهياكل والنصب التذكارية من أعمدة وتماثيل وهذه كانت طقسية ورسمية.
              وفي أحوال أخرى كانت تكتب على البردي.
              ومن حيث المبدأ فإن الكتابتين السومرية والهيروغليفية متشابهتان من حيث أنهما صوريتان وقد مرتا بأطوار ثلاثة تكاد تكون متشابهة أيضا. ففي الطور الأول كانت الصورة تمثل الشيء نفسه وتعنيه. هذا هو الدور الصُوَري. وفي أوائل الألف الثالث قبل الميلاد كانت الكتابتان قد تطورتا فلم تعد الصورة تقتصر على الشيء بالذات بل أصبحت تعبر عن فكرة مرتبطة بها. فصورة "قَدَم" تعبر عن أفكار أخرى مثل بدء الجبل أو المشي أو الأمر بالسير أو الذهاب، وذلك باضافة إشارة صغيرة إلى الصورة الأصلية. ويأتي الطور الثالث عندما تصبح الصورة تمثل مقطعا لفظيا لا يمت، بالضرورة، إلى المعنى الأصلي. لنمثل على ذلك من الكتابة الهيروغليفية:
الصورة                 اللفظ                     المعنى الأصلي           المعنى الجديد
خنفساء                  حِبر                     خنفساء                  الصيرورة
صقر                    وَر                      صقر                    كبير، مرتفع
                         مَن                      خشب للعب              البقاء أو الاستقامة
             
              ويأتي بعد ذلك أن تمثل الصورة مقطعا لفظيا أو الحرف الصوتي الذي هو أول صوت في الكلمة الأصلية فحِبر  تمثل "ح" و وَر تمثل "و" ومِن تمثل "م"، واسم البحر يعني حرف "ص" وهو الحرف الأول من اسم البحر وصورة الثعبان تمثل الحرف "ض" أو "ج" لأن أيا منهما يمكن أن يكون هو الحرف الأول من كلمة ثعبان ضَت أو جَت.
              وهذا أقرب ما يمكن إلى الحرف في الكتابة ولما كانت اللغة السومرية أحادية المقطع اللفظي، وكذلك اللغة الأكّدية التي اتخذت تلك الكتابة سبيلا لها، لما احتل الأكّيديون سومر وأسسوا لهم إمبراطورية واسعة، فإن التطور فيها كان أيسر من الهيروغليفية ولعله كان أسرع.
              فضلا عن ذلك فإن الهيروغليفية كانت أصلا كتابة للأمور الدينية والطقسية، الأمر الذي اخر تطورها. أما الكتابة السومرية – الأكّدية، كما يجب أن نسميها منذ الآن، فقد كانت مرتبطة أصلا بحاجات التجارة والحسابات والفواتير والإيصالات. فضلا عن ذلك فقد أصبحت كتابة تعبر عن الإنجازات الأدبية والعلمية كالرياضيات وسواها التي تمت على أيدي سكان أرض الرافدين.
              يضاف إلى ذلك أن الهيروغليفية لم تستعمل خارج مصر، فيما انتشرت الكتابة السومرية، الأكّدية خارج أرض الرافدين. فقد استعملها العيلاميون (في سوسة شرقي بلادها الأصلية) وحتى في سنة 2500 ق.م. كانت مملكة إبْلا (تل مرديخ إلى الجنوب من حلب في سورية) تستعمل الكتابة المسمارية (السومرية) لتدوين وثائقها. ولما ازدادت الحاجة إلى الكتابة والقراءة خلال الألف سنة التالية اقتبست شعوب كثيرة، في سورية وفلسطين، هذه الكتابة المسمارية لتدوين لغاتها في جميع حاجاتها الدينية (الطقسية) والأدبية والتجارية والزراعية.
              وعلى العكس من ذلك فإن الهيروغليفية المصرية لم يستعملها أحد خارج مصر. وبهذه المناسبة فإن استعمال الحروف لم ينتشر في مصر بحيث تسيطر هذه على الكتابة، فظلت لها صفتها العالية، الدينية والملكية وما إليهما. وقد تطورت كتابة خاصة التي استعملت تجاريا وما إلى ذلك كانت تعرف باسم الهيروطيقية. حتى لقد كان ثمة نوع ثالث من الكتابة يعرف باسم الديموطيقي أي الشعبي. وهذه الكتابات الثلاث لم تكن مسيرتها متوازية زمنيا، بل جاءت على سبيل التتابع الزمني وعند اقتضاء الحاجة.
              كانت المدن الواقعة على سواحل البحر المتوسط الشرقية المجال الذي تشابكت فيه المصالح المصرية مع مصالح بلاد الشام من جهة والبلاد الواقعة إلى الشرق منها، وكانت هذه العلاقات تجارية. فمصر كانت تستورد خشب الأرز من لبنان منذ 2600 ق.م. وكان تجار أرض الرافدين يتاجرون مع الموانئ المذكورة حتى قبل ذلك على ما تدل الأساطير السابقة والقيود اللاحقة.
              ويبدو أنه في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد كانت كتابة الفبائية أولية قد بدأت تظهر في كل من أوغاريت (رأس الشمرا) وفي جبيل (بيبلوس). وقد ظهر من الحفريات التي تمت في اوغاريت أن الكتابات التي استعملت لمختلف أنواع المراسلات والقيود كانت لا تقل عن خمس: الهيروغليفية المصرية والسومرية الأكادية (المسمارية) والهيروغليفية (التصويرية) الحثية والقبرصية/الميناوية وكتابة خامسة لا تزال مجهولة الهوية. واللغة الاوغاريتية، بهذه المناسبة لغة سامية من الفئة الغربية. والذي دُوِّن بهذه الكتابات المختلفة، والكتابة الاوغاريتية كانت بينها، يشمل أولا الموثقات المحلية من رسائل مع الخارج ونصوص قانونية وإدارية. إلا أن أشياء أخرى دونت بالكتابات المذكورة. وهذه تشمل الأدب والأساطير والطقسيات الدينية. ويبدو أن أنواعا من الكتابة الألفبائية انتشرت في مناطق مختلفة في سورية وفلسطين.
              والذي انتهى إليه البحث حول هذا الموضوع، إلى الآن، أنه بين القرن الرابع عشر والقرن الحادي عشر قبل الميلاد، استعملت هذه الألفبائيات المتنوعة في أغراض مختلفة بما في ذلك نقوش على الصخر لدى كنعانيي فلسطين.
              وقد اختلفت أعداد الحروف في هذه الألفبائيات. فالاوغاريتية كانت مؤلفة من ثلاثين حرفا، والفينيقية (جبيل) كان فيها اثنان وعشرون حرفا، وبسبب أن اللغات السامية متقاربة جذورا، فإن اقتباس أي منها لكتابة لغة معينة أو أخرى كان أمرا شبه عادي. على أنه يجب أن نتذكر أن الالفباء الجبيلية كانت الأسبق عهدا ولأن جبيل كانت مركزا تجاريا كبيرا ولأن التجار كانوا يهتمون بالكتابة التي تيسر أعمالهم، تغلبت الكتابة الفينيقية (الجبيلية) على سواها. وأقدم نص كامل بالألفباء الجبيلية هو النص الموجود على قبر أحيرام ملك جليل ويعود إلى حوالي سنة 1000 ق.م.
              ومن هذا الأصل الفينيفي (الجبيلي) تحدّرت الكتابات الأخرى في العالم، إلا ما أعتمد في الصين وجوارها من الكتابة الصينية.

              لو أننا أردنا أن نتابع التبادل الحضاري الأدبي والديني (الطقسي والمجرد) لوجدنا أن حضارة المنطقة في القرون السابقة لفتوح الاسكندر كانت مزيجا كبيرا من كل تجربة مرت بأرض الرافدين وبلاد الشام ومصر، إلا أن ما انتشر من حضارة مصر كان أقل بكثير مما أنتشر وترعرع من البلاد الشرقية.
              مع أنه قامت في مصر حركة دينية توحيدية أيام أخناتون، فقد كان أثرها محدودا في بلاد الشام. أنها لم تنتقل إلى هذه المنطقة الأخيرة، ولعل ذلك يعود إلى أن الفكرة الأخناتونية بالذات لم يكتب لها البقاء طويلا في مصر. ذلك بأن توت عنخ آمون خليفة أخناتون وكبار رجال الدين قاوموها بعنف داخل مصر، فلم يكتب لها البقاء طويلا بحيث تتجذر وتنمو.
              حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين كان العهد القديم من الكتاب المقدس يعتبر مصدرا تاريخيا موثوقا به. وهناك من المؤرخين المعنيين بتطور الآراء الدينية خاصة والنواحي الاجتماعية والاقتصادية يجمعون على ذلك. لكن  "النقد الداخلي" لهذه الأسفار انتهى إلى القول بأنها لم تكن من حيث النص أصلا على نحو ما وصلنا، بل أنها لما بدأ تدوين الأخبار فيها (في القرن العاشر قبل الميلاد) كانت قد مرت على البلاد تطورات وتبدلات لم يدون منها شيء، بل كل ما فعلته أنها نقلت فكرة الإله الواحد "يهوه" إلى نحو القرن الثامن عشر قبل الميلاد وأن اختيار يهوه لشعبه المختار وما قيل عن أرض الميعاد (فلسطين) لم يتم القول فيها إلا قبيل المسيح ببضعة قرون. والبحث الحديث أثبت أن هذه الآراء، التي اعتبرت أصلا في الدين اليهودي، هي نتيجة تبديل وإعادة النظر في مواد الكتاب. ومن ثم لم يثبت الطرح الكتابي أمام هذا النقد، ولم يعد ينظر إليه على أنه يتمتع بالحصانة التي أُصِّلت له.
              إلا أن ثمة من المؤرخين الذين ظل عندهم الاعتقاد بأن الرواية الكتابية صحيحة وصادقة، حاولوا أن يقولوا بأن حركة أخناتون التوحيدية لعلها كانت ذات أثر في نمو التوحيد الالهي عند اليهود؛ أنهم رأوا أن موسى هو الذي حمل فكرة التوحيد من مصر إلى فلسطين. لكن مثل هذا الرأي لا يقبله الكثرة من الباحثين. ومن الطبيعي أن لا يقبله اليهود المتمسكون بحرفية العهد القديم لأنه يعطى التوحيد اليهودي عنصرا فيه آثار الوثنية.
        إننا نسمح لأنفسنا بإبداء ملاحظة عن التبادل الحضاري في هذه الفترة الطويلة من التاريخ. أن عناصر الحياة على تنوعها وتطورها، وقضايا الأدب على ما فيها من نزوع نحو الحق والحياة والجمال والحب، وأمور التشريع والإدارة على ما قد تحويه من محاولة لإحقاق الحق، والإيمان بما يحمله من دعوة إلى عبادة إله واحد أو آلهة متعددة، والعبادات وما يدور حولها من تراتيب طقسية – كل هذا تمازج وتقارب وتطور ونما وتبدل بسبب الإحتكاك المستمر والتنقل الدائم والحروب التي لا بد أن يكون فيها منتصر ومهزوم. فكان من ذلك كله هذا المزيج الرائع، الذي انتقل فيما بعد شرقا وغربا منح سكان تلك البلاد، حتى النائية منها، الكثير من عناصره التي كانت ذات أثر في تطوير الحياة الروحية والأدبية والفكرية والعلمية. ولعلنا لا نستغرب أن نقع على بعض هذه الهبات تقطن في ضمير الحياة المعاصرة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

||

أرسل أسئلتك في رسالة الآن هنا

http://abdenour-hadji.blogspot.com/

عنواني على الفايس بوك:

قناتي على اليوتوب

أعلن معنا... إعلانات الآن هنا ...



Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More