خطة العرض:
v مقدمة
v الأندلس مصدر الإشعاع الأول
v صقلية مصدر الشعاع الثاني
v دور الحروب الصليبية في نقل الحضارة الإسلامية
v السفارات بين دول أوروبا والدول الإسـلامية
v خاتمة
v المصادر والمراجع
مقدمة
ا لحمد للّه الذي هدى المسلمين إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه اللّه رحمة للعالمين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وعبد ربه حتى أتاه اليقين.
أما بعد
فإنه في الوقت الذي كان المسلمون ينعمون فيه بظل الحضارة الإسلامية التي أفاضت عليهم كل أنواع الخير ووقتهم مفاسد الشر وأبعدتهم عن مواقع الفتن، في هذا الوقت الذي كان فيه المسلمون كذلك، كان أهل أوروبا يعيشون في جهالة جهلاء وضلالة عمياء بعيدين كل البعد عن كل مظاهر التقدم الحضاري.
ومنذ العقد الأخير من القرن الأول الهجري بدأ شعاع الحضارة الإسلامية يصل إلى أوروبا عن طريق الأندلس، ثم عن طريق صقلية وكذلك عن طريق الحروب الصليبية، ومن قبل تلك الحروب، عن طريق السفارات بين دول أوروبا وبين دول المسلمين، في الشرق والغرب.
ولم يكن تأثير هذا الإشعاع الحضاري متساويا في الدرجة بل كان بعضه أكثر تأثيرا من الآخر فالأندلس كانت أسبق مصادر الإشعاع وأكبرها تأثيرا، ثم تلتها في الأهمية صقلية ثم تأتي بعد ذلك الحـروب الصليبية ثم الاتصالات السياسية والتجارية بين الدول الإسلامية والدول الأوروبية.
الأندلس مصدر الإشعاع الأول:
عبر المسلمون إلى الأندلس في العقد الأخير من القرن الأول الهجري وواصلوا فتوحهم في أوروبا حتى استولوا على شبه جزيرة أيبريا وجنوب فـرنسا ثم استمروا في فتوحهم حتى استولوا على جزر البحر الأبيض المتوسط وجنوب إيطاليا ونشروا دينهم فيما فتحوه من البلاد.
وكانت أوروبا -في ذلك الوقت- خلوا من كل مظاهر الحضارة بعد أن تمكنت القبائل المتبربرة من القضاء على الدولة الرومانية الغربية واحتلال الأقاليم التي كانت تخضع لحكمها. وعلى الرغم من أن هذه القبائل دانت بالمسيحية، فإنها لم تتقدم تقدما حضاريا يستحق الذكـر؛ بسبب تولى مجيء موجات جديدة منهم، وغلبة الروح العسكري عليهم، وقلة المرونة العقلية لديهم؛ مما جعلهم متخلفين عن ركب الحضارة والمدنية يعيشون في ظلام الجهالة والهمجية.
وقد نشر المسلمون في كل بقعة دخلوها من أوروبا لواء الأمن ونور المعرفة، وأقاموا فيها قواعد حكم عادل، يسوي بين الجميع في المعاملة، ويكفل الحرية لكل فرد في المجتمع، ويعمل للصالح العام ويمقت الأنانية والانتهازية.
وتاريخ أسبانيا العربية المسلمة صحيفة مشرقة من صحائف التاريخ الإنساني، وسجل حافل بالأمجاد، ذاخر بمختلف نواحي الحضارة، التي كانت مركز إشعاع هائل للحضارة الأوروبية.
وقد كان المجتمع في الأندلس بعد الفتح الإسلام يتألف من العرب الفاتحين، ومن الأسبان الذين اعتنقوا الإسلام، وقد عرفوا باسم "المسالمة"، ومن الأسبان الذين استمروا على المسيحية، وقد أطلق عليهم اسم "العجم"، وأصبحوا أهل ذمة يدفعون الجزية للمسلمين، ويعيشون آمنين في وطنهم، ويتمتعون بالحرية الدينية والتسامح الذي امتاز به المسلمون في معاملتهم لمخالفهم في الدين.
وكان من بين هؤلاء جماعة عاشروا العرب، وتعلموا لغتهم، ودرسوا علومهم وقلدوهم في عاداتهم، وأسلوب معيشتهم، وأطلق على هذه الطائفة اسم "المستعربين" [1]
وعن طريق هؤلاء الذين جمعوا بين معرفة اللغة العربية واللغة اللاتينية الحديثة نقلت حضارة العرب إلى الإمارات الشمالية في شبه جزيرة أيبريا، التي اتخذها المسيحيون معقلا لهم واعتصموا بجبالها ولم يدخلوا في طاعة المسلمين.
وبعد جيل من الفتح تكوَّن من المسلمين العرب والأسبان عنصرٌ جديدٌ عرف "بالمولدين" وهم الذين ولدوا من آباء عرب وأمهات أسبانيات، وعلى مرّ الزمن كثر عدد هؤلاء حتى أصبحوا يكونون أغلب سكان الأندلس.
وقد وصلت الحضارة العربية في الأندلسي إلى درجة عالية من الازدهار، وبخاصة في القرن الرابع الهجري؛ حيث كانت مدينة قرطبة العاصمة تضم مائة وثلاثة عشر ألف مسكن وواحد وعشرين ضاحية، وكان بها سبعون دارا للكتب، وعدد لا يحصى كثرة من الحوانيت كما كان بها كثير من المساجد، وكان أغلب شوارعها مرصوفا ومضاءة [2] وكانت بقية المدن صورة مصغرة من العاصمة.
وفي محيط الزراعة غرس العرب الكروم في بلاد الأندلس، وأدخلوا إليها كثيرا من النباتات والفواكه التي لم تكن بها، مثل الأرز والقمح وقصب السكر والمشمش والخوخ والبرتقال والرمان، وقد حفر المسلمون الترع والقنوات، ونظموا وسائل الري وكان الرقى الزراعي أحد مفاخر أسبانيا الإسلامية [3].
وفي ميدان الصناعة ازدهرت صناعة النسيج والزجاج والنحاس والخزف والسيوف، وكثر استخراج الذهب والفضة والحديد والرصاص، وغيره من المعادن [4]. وكان ما تنتجه الأندلسي من مزروعات وفواكه ومصنوعات يفيض عن حاجة سكانها.
ولقد ازدهرت الحياة الثقافية في الأندلس وبخاصة في عهد الحكم الثاني (350- 366 ه) وكانت جامعة قرطبة التي أنشأها والده عبد الرحمن الناصر في المسجد الجامع يفد إليها الطلاب من جميع أنحاء الأندلس، ومن أفريقيا وأوروبا، وقد استدعى الحكم بعض الأساتذة المشهورين من الشرق ليحاضروا فيها، ومن بينهم العالم اللغوي المشهور أبو على القالي مؤلف كتاب الامالي [5] وكان المؤرخ الأندلسي ابن القوطية يدرس النحو بها. وكان الحكم مغرما باقتناء الكتب؛ فكان يكلف رجاله بالبحث عن المخطوطات في حوانيت الإسكندرية ودمشق وبغداد، وشرائها ونسخها، وبهذه الطريقة تمكن من جمع أربعمائة ألف مجلد [6] وكان يطالع بنفسه على بعض هذه المخطوطات ويكتب ملاحظات في هوامشها مما جعل لها قيمة كبيرة في نظر العلماء المتأخرين. وقد أراد أن يحصل على النسخة الأولى لكتاب الأغاني التي كتبها أبو الفرج الأصفهاني بنفسه- وهو من سلالة الأمويين- وكان يقيم إذ ذاك بالعراق فبعث إليه بألف دينار ثمنا لها [7].
وكان المسيحيون الأسبان الذين هاجروا إلى كثير من بلاد أوروبا قد أشادوا بالعرب وشرائعهم، وحضارتهم، وثقافتهم، وبالعمران الذي عم البلاد الأسبانية على أيديهم؛ فنشروا بذلك- من حيث لا يقصدون- دعاية طيبة للمسلمين في أوربا ونبهوا أذهان أهلها إلى النهضة الحضارية التي قام بها المسلمون في أسبانيا.
وكان هؤلاء المهاجرون قد تسرعوا في هجرتهم خوفا على أنفسهم من بطش المسلمين بهم، من غير أن ينتظروا ما سيكون منهم، ولكنهم لم يلبثوا أن ندموا على هجر بلادهم حين علموا من مواطنيهم الذين لم يهاجروا مثلهم أن المسلمين يحسنون جوارهم ويطلقون لهم الحرية في أداء شعائر دينهم، ويعاملونهم بالحسنى وينشرون العدل والأمن في سائر البلاد وأنهم حولوا أسبانيا إلى مروج خضراء وجنات فيحاء [8].
هذه الدعاية غير المقصودة التي نشرها المهاجرون الأسبان، في أكثر بقاع أوروبا جعلت أهلها يتطلعون للوقوف على هذه النهضة الحضارية، التي وصلت أخبارها إليهم وكان أسبق الأوربيين إلى ذلك الملك فيليب البافاري؛ حيث بعث إلى الأندلس يرجو الأمير الأموي هشاما الأول (172- 180 هـ) يرجوه أن يسمح له بإيفاد بعثة إلى قرطبة لدراسة أنظمة الأندلس وثقافتها، ومشاهدة أوجه النشاط بها، فقبل الأمير رجاءه وأرسل الملك الجرماني وفداً إلى الأندلس برئاسة وزيره الأول " ويلميبن " الذي أطلق عليه الأندلسيون اسم " وليم الأمين " لأنه تحرى الأمانة في نقل ما رأوه من مظاهر نهضة بلادهم إلى الملك. وقد أشار الوزير على الملك بالاستمرار في إرسال البعثات العلمية لاقتباس ما يفيد البلاد من فنون الحضارة العربية [9].
وقد توالت البعثات على الأندلس بعد ذلك، وفي أوائل القرن الخامس الهجري أرسل جورج الثاني ملك إنجلترا ابنة أخيه الأميرة "دوبانت "، على رأس بعثة من ثمان عشرة فتاة، من بنات الأمراء والأعيان، إلى أشبيلية بمرافقة النبيل " سفليك " رئيس موظفي القصر الملكي، وأرسل معه كتابا إلى الخليفة هشام الثالث آخر الخلفاء الأمويين بالأندلس جاء فيه بعد الديباجة: " وقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم، والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل؛ لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد أرسلنا ابنة شقيقتنا الأميرة " دوبانت " على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز؛ لتتشرف بلثم أهداب العرش؛ والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم؛ وحماية الحاشية الكريمة، وحدب من لدن اللواتي سيتوفرن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها، مع التعظيم والحب الخالص من خادمكم المطيع: جورج.
وقد ردّ الخليفة هشام الثالث على ملك إنجلترا برسالة جاء فيها: " لقد اطلعت على التماسكم فوافقت- بعد استشارة من يعنيهم الأمر- على طلبكم وعليه فإننا نعلمكم بأنه سينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابلة أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية وهى من صنع أبنائنا، هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على اتفاقنا ومحبتنا والسلام- خليفة رسول اللّه على ديار الأندلس: هشام.
وفي عهد ملوك الطوائف في الأندلس كانت توفد إلى معاهد غرناطة، وأشبيلية، وغيرهما بعثات من فرنسا، وإيطاليا، والأراضي الواطئة؛ لتنهل من الحضارة العربية، وكان طلاب هذه البعثات يعجبون بالحياة العربية وتقاليدها وثقافتها حتى أن بعضهم اعتنق الإسلام وفضل البقاء بالأندلس ولم يعد إلى بلاده [10]
وكانت مدينة طليطلة بعد سقوطها في أيدي المسيحيين سنة 487 هـ المركز الرئيسي لحركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وقد أنشأ " ريموند " رئيس أساقفتها مكتبا للترجمة، وكان المستعربون من أهل الأندلس أكبر المساهمين في حركة الترجمة ومن أشهرهم
" دومونيقوس جوند يسا لفى " و " بطرس الفونسى " و "حنا الأشبيلى " وغيرهم[11]
وقد ترتب على هذه الحركة وجود ثورة علمية وفكرية هائلة في غرب أوروبا؛ ذلك لأن المعارف الجديدة التي نقلت من العربية إلى اللاتينية أضاعت أمام الأوربيين طريق الحياة, وبددت ضباب الجهالة الذي حجب عنهم رؤية الحضارة وأيقظتهم من سباتهم العميق ونبهتهم من غفلتهم الطويلة فأقبلوا على دراسة الحضارة الإسلامية بشغف بالغ ونهم شديد[12].
ففي علم الحساب مثلا عرفوا نظام الأعداد الهندية عن العرب، وهو النظام الذي تتغير فيه قيمة الـرقم بنقله من خانة الآحاد إلى خانة العشرات أو المئات أو الآلاف وما بعدها استعملوه في عملياتهم الحسابية بدل الأرقام الرومانية التي كانت عملياتها الحسابية تتطلب منهم وقتا طويلا .
ومن المرجح أن البابا "سلفتر " الثاني الذي قضى سنوات عديدة في شمال إسبانيا كان من أوائل الأوروبيين الذين نقلوا نظام الأعداد العربي إلى الغرب، هذا بالإضافة إلى تشجيعه على ترجمة كثير من المؤلفات العربية إلى اللاتينية. وبخاصة ما يتعلق منها بعلم الجغرافيا.
وقد عرف الأوروبيون علم الجبر- لأول مرة- عن العرب، كما نقلوا عنهم علوم الهندسة والفلكَ والطبيعة والكيمياء والطب والفلسفة، وكثيرا من أنواع فـروع المعرفة المختلفة.
وقد سلكت الفنون الإسلامية سبيلها إلى أوربا عن طريق الأندلس، كذلك، مثل صناعة الخزف والنسيج، والتعدين، وصناعة المعادن، والنجارة، والتطعيم بالعاج وغيرها من الصناعات [13].
ومن هذا العرض السريع نتبين أهمية الدور الذي قامت به الأندلس في نقل الحضارة الإسلامية إلى ربوع أوربا، فكانت أساس نهضتها في العصور الحديثة، وسببا في تنعم به الآن من حياة مرفهة وثـراء وفير، وما تفخر به من تفوق في العلوم والفنون.
صقلية مصدر الشعاع الثاني:
حاول المسلمون فتح جزيرة صقلية منذ عهد معاوية بن أبى سفيان فقد أرسل و اليه على مصر وأفريقية (معاويةُ بن حديج) جيشا بقيادة عبد الله بن قشر الغزاوي؛ لغزوها ولكن ابن قشر لم يتمكن من ذلك ثم تجددت المحاولة عدة مرات، ولكن أقدام المسلمين لم تثبت في هذه الجزيرة إلا في أوائل القرن الثالث الهجري حيث ابتدأ فتحها سنة 313 هـ زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب الذي كان والي على إفريقية من قبل الخليفة المأمون العباسي.
وكان سبب فتحها أن إمبراطور الدولة البيزنطية " ميخائيل الثاني" ولى عليها "قسطنطين البطريق"، فأرسل الأمير القائد قسطنطين "بوفيموس" على رأس أسطول نهب ساحل أفريقية، ولكن الإمبراطور غضب على هذا القائد، لما بلغه من أنه اختطف راهبة من أحد الأديرة هناك،؛ ففر القائد إلى مدينة "سرقوسة" الواقعة على ساحل صقلية الشرقي، وأعلن الثورة على حاكم الجزيرة، غير أنه رأى أن لا طاقة له على مقاومة جيوش الإمبراطور وأساطيله، فلجأ إلى زيادة الله بن الأغلب أمير أفريقية، وأغراه بغزو صقلية وهوّن عليه فتحها فجهز الأمير الأغلبي جيشا وأسطولا يتألف من مائة سفينة بقيادة أسد بن الفرات قاضى القيروان وسيره لفتحها ([14]) .
وقد لقي المسلمون صعوبات كثيرة في فتحها ولم يتمكنوا من الاستيلاء عليها جميعها إلا في عهد إبراهيم الثاني الأغلبي سنة 364 هـ، وقد ظلت صقلية تابعة لدولة الأغالبة حتى سقطت هذه الدولة على أيدي الفاطميين سنة 396 هـ، فدخلت صقلية في حوزتهم ولكن العرب الذين كانوا يستوطنونها أعلنوا الثورة على الفاطميين، بزعامة أحمد بن قرهب بعد أربع سنوات من حكمهم اعترفوا بسيادة الدولة العباسية ([15]) .
غير أن الفاطميين تمكنوا من إخضاع الثورة، وإعادة سيطرتهم على الجزيرة، واتخذوها قاعدة حربية لأسطولهم يشنون منها الغارات على جنوب إيطاليا، وبخاصة مدينة جنوة التي تكررت غاراتهم عليها.
وقد عيّن الخليفة المنصور (ثالث خلفاء الفاطميين) الحسن بن علي بن الكلبي واليا على صقلية فوضع الحسن أساس حكومة شبه مستقلة في صقلية يتوارثها أبناؤه من بعده وفي عهد هذه الأسرة بذرت بذور الثقافة العربية، وأخذت تنمو وتزدهر على مرّ الأيام في تلك الجزيرة. ولم يتدخل العرب في الشئون الداخلية لأهل الجزيرة، بل تركوا لهم الحرية التامة في مزاولة عاداتهم وتقاليدهم، وفي أداء شعائر دينهم، واكتفوا بجباية جزية قليلة ممن لم يعتنق الإسلام منهمن، وكان مقدارها أقل بكثير من الضرائب التي كان الرومان يفرضونها عليهم، وقد أعفوا من هذه الجزية الرهبان والفقراء والنساء والأطفال والشيوخ، ولم يتعرضوا لكنائسهم بسوء.
وقد اهتم العرب بالزراعة، وأدخلوا في الجزيرة العربية زراعة قصب السكر والكتان والزيتون، وكثيرا من النباتات، وأشجار الفاكهة التي لم تكن موجودة بها من قبل، وقد ساعد خصب تربة الجزيرة على نمو زراعتها وجودة فواكهها؛ فتوفرت حاصلاتها، وكثرت مواردها. وقد مرّ الرحالة ابن جبير بها سنة 580 هـ بعد ست وتسعين سنة من انتهاء حكم العرب بها، فأعجب بأشجار الفاكهة فيها، واسترعى انتباهه ما شاهده من جودة كرومها [16].
ولم يكن اهتمام العرب في صقلية بالصناعة أقل من اهتمامهم بالزراعة، فقد أنشأوا مصانع للورق، ومصانع للنسيج، واستخرجوا الذهب والفضة، والحديد والرصاص والنوشادر من مناجمها، وتفننوا في صناعة الأواني النحاسية وصناعة النجارة والتطعيم بالعاج وصناعة الرخام والفسيفساء وغيرها وشيدوا المساجد الفخمة والقصور الجميلة.
وقد ساعدت موارد الجزيرة الفنية، كما ساعد اشتغال العرب بالتجارة على زيادة ثروتهم؛ فعاشوا عيشة مرفهة، ومضوا منازلهم بالأثاث الفاخر، وفرشوها بأحسن أنواع السجاد، وتزينوا بأغلى أنواع الثياب، ولبست نساؤهم ثياب الحرير الموشى بالذهب وانتعلن الأخفاف المذهبة وتزيّن بالذهب والجواهر.
ومنذ أوائل القرن الرابع الهجري أخذ البيزنطيون يكثرون من الغارات على الجزيرة فشغل ولاتها من قبل الفاطميين بعد هذه الغارات، وفي الوقت نفسه، قامت اضطرابات بين العرب أنفسهم داخل صقلية؛ فأدى ذلك إلى ضعفهم وعجزهم عن الدفاع عن الجزيرة، ولم يكن في وسع الفاطميين بالقاهرة أن يمدوهم بالجيوش لاضطراب الأمور فيها، فانتهز النورمانديون هذه الفرصة وأخذوا يستولون على ثغور الجزيرة ومدنها الواحدة تلو الأخرى حتى تم للملك "روجر الأول" الاستيلاء على جميع نواحي الجزيرة سنة 483 هـ وبذلك انتهى حكم العرب فيها بعد أن استمر مائتين وعشرين عاما [17].
ولم يكن استيلاء النورمانديين على الجزيرة آخر عهد العرب بها، بل ظلوا بعد زوال الحكم العربي يقيمون فيها، وقد اعتمد حكامها النورمانديون على العناصر العربية في الشئون السياسية، والاقتصادية؛ لأنهم كانوا على جانب كبير من الخبرة والحضارة والرقي، كما كانوا عناصر نشيطة ومنتجة.
وكان "روجر الثاني" يرتدى الملابس العربية ويطرز رداءه بحـروف عربية وقد نقش على سقف كنيسته التي بناها في مدينة "بارمو" نقوشا بالخط الكوفي. وكان الإدريس الجغرافي الرحالة، وأعظم رسامي الخرائط، محببا إليه مقربا عنده، وقد شجعه الملك على بحوثه الجغرافية وقدم له كل مساعدة وبذل له من المال ما مكنه من إرسال الرسل إلى كثير من الأقاليم؛ لإمداده بالمعلومات الجغرافية عنها.
وكذلك كان الملك "وليم" بن الملك روجـر الثاني وحفيد الملك روجر الأول يعتمد على العرب فيقربهم إليه ويثق فيهم، وقد عبر عن ذلك شاهد عيان هو الرحالة بن جبير في حديث له عن الملك بقوله: "لا.... إنه عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين، وإنه لكثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله، وله منهم الأطباء، والمنجمون وهو شديد الحرص عليهم" [18] .
وكان الإمبراطور "فردريك الثاني" الذي ورث عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة عن أبيه الألماني، كما ورث عرش صقلية عن أمه الإيطالية، كان قد ولد بصقلية وتربى بها، وتعلم فيها؛ فنشأ محبا للعلوم العربية وكان يحسن التكلم باللغة العربية. وقد أفاض المؤرخون العرب والأوربيون في وصف حبه للمسلمين، وإعجابه بعلومهم، وحضارتهم، وأخلاقهم، وتقريبه لهم واستخدامهم في حاشيته حتى أن الموذنين المسلمين كانوا يؤذنون عند موعد كل صلاة في معسكره [19] .
وقد قامت بين الإمبراطور "فرديك الثاني" وبين السلطان الأيوبي الكامل محمد بن آخي صلاح الدين صداقة متينة، وكانا يتبادلان السفارات والهدايا. فتذكر المصادر التاريخية أن السلطان الكامل أرسل هدية إلى الإمبراطور، كان من بينها زرافة كانت أول زرافة دخلت أوربا، وأن الأشراف الأيوبي صاحب دمشق أرسل إليه جهازا عجيبا للكواكب في صدر تمثل الشمس والقمر، وتحدد الساعات في مداراتهما، وأن الإمبراطور أرسل هدايا لكل من الكامل والأشرف منها دب أبيض وطاووس أبيض أعجبا أهل القاهرة ودمشق، كما أعجبت الزرافة وجهاز الكواكب أهل صقلية [20]
وقد استمرت الصداقة قائمة بين "فردريك الثاني" وسلاطين مصر بعد وفاة السلطان الكامل سنة 635 هـ؛ يدلّ على ذلك ما أشارت إليه المراجع التاريخية من أن الإمبراطور حذر الصالح نجم الدين أيوب عندما علم بنية ملك فرنسا "لويس التاسع" القيام بالحملة الصليبية السابعة ضد مصر سنة 647 هـ حيث أرسل إليه- وهو بدمشق- رسولا تظاهر بأنه تاجر، وأسرّ إليه بأن لويس التاسع يعتزم توجيه حملة إلى مصر؛ للاستيلاء عليها، فأسرع الصالح بالعودة إلى مصر للدفاع عنها [21] .
وقد ظل العرب يحتفظون بضياعهم وأموالهم ومتاجرهم ومصانعهم في الجزيرة، ويزاولون نشاطهم الزراعي والتجاري والصناعي بحرية تامة، كما ظلت اللغة العربية شائعة في الجزيرة، وكان ملوك النورماند يحسنون التكلم بها ويطربون لأدبها وشعرها. ويظهر أن استعمالها استمر إلى أواخر القرن التاسع الهجري؛ ويؤيد ذلك شواهد القبور التي عثر عليها علماء الآثار حديثا سواء كانت قبور مسلمين أم قبور مسيحيين.
وقد ترك العرب في جزيرة صقلية كثيرا من عاداتهم وتقاليدهم، التي لا تزال باقية حتى الآن، كما تركوا ألفاظا عربية كثيرة في اللغة الصقلية والإيطالية. ولا تزال مدن كثيرة في الجزيرة تحمل أسماء عربية. وفي مدينة بارمو مبنيان عظيمان من مباني العرب أحدهما قلعة العزيزة والآخر قصر القبة.
ومما تقدم يتبين أن الحضارة الإسلامية ازدهرت في الجزيرة نحو ستة قرون من الزمن وقد خرّجت صقلية العربية عددا غير قليل من المحدثين والفقهاء والنحويين والأدباء والمؤرخين والجغرافيين والأطباء والفلاسفة. نذكر منهم على سبيل المثال أسد الدين بن الحارث، صاحب كتاب الأسديات في الفقه، والقاضي ميمون بن عمر، وابن حمد يس الصقلي الشاعر المبدع، والشريف الإدريسي الجغرافي المحقق، والحسن بن يحي المعروف بابن الخزاز صاحب تاريخ صقلية، وعيسى بن عبد المنعم، وكان من أهل العلم بالهندسة والنجوم والحكمة، وأبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وغيرهم كثير.
وقد أنشأ العرب في مدينة بالرمو، عاصمة صقلية، أول مدرسة للطب في أوربا، وعن طريقها انتشر الطب في إيطاليا، وسائر أرجاء القارة. إذن كانت جزيرة صقلية مركز إشعاع للحضارة الإسلامية العربية، أفادت منه أوربا أعظم الفائدة؛ لأن الجزيرة كانت على صلة وثيقة بالعالم الإسلامي، وبخاصة ما يقع منه على شواطئ البحر المتوسط؛ مثل الشام، ومصر وبلاد المغرب، وكانت البلاد الإسلامية في العصر الوسطى وطنا عاما للمسلمين لا فرق بين مشرقي ومغربي. فلم تكن هناك قيود على انتقال العلماء من بلد إسلامي إلى بلد آخر فكثرت تنقلاتهم، وساعد هذا على تبادل الآراء وانتقالها من جهة إلى جهة فلم تكن حضارة المسلمين في صقلية من صنع أهلها وحدهم بل كانت حضارة إسلامية شاملة لنتاجها ونتاج العالم الإسلامي كله ومن هناك ترجمت وتسربت إلى جميع أصقاع أوروبا.
لذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن صقلية ساهمت في تحضير أوروبا وتنويرها بنصيب يقرب من نصيب الأندلس، ولكنه يقّل عنه لأن رقعتها أضيق بكثير من رقعة الأندلس ولأن عدد من أنجبتهم من العلماء لم يصل في شهرته العلمية إلى ما وصل إليه علماء الأندلس.
وهذا لا يغض من قيمة الدور الذي قامت به صقلية في إمداد أوروبا بكل مظاهر الحضارة ما كان منها من صنع العرب الذين استوطنوها أو مما نقلوه عن غيرهم من الدول الإسلامية الأخرى.
دور الحروب الصليبية في نقل الحضارة الإسلامية:
في أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) خرجت جموع من المسيحيين الأوروبيين مختلفي النزعات والأغراض لغزو الشرق الإسلامي. والأسباب التي دفعت هؤلاء إلى شنّ تلك الحروب التي عرفت في التاريخ باسم "الحروب الصليبية" نسبة إلى الصليب -الذي اتخذه المحاربون شعارًا لهم- أسبابٌ غير واضحة، تختلف باختلاف الطوائف التي اشتركت فيها.
ويمكننا أن نعتبر رغبة القبائل القيوتونية في الهجرة، وحبهم للمخاطرة من بين تلك الأسباب، كما لا نستبعد أن يكون هدم الخليفة الفاطمي (الحاكم بأمر الله) لكنيسة القيامة في أواخر القرن الرابع الهجري من بين الأسباب البعيدة لهذه الحروب[22].
أما ادعاء الحجاج المسيحيين أنهم كانوا يلقون مصاعب في أثناء اجتيازهم أسيا الصغرى الإسلامية، وهم في طريقهم إلى بيت المقدس، أو أنهم كانوا يتعرضون لمضايقات من جانب المسلمين في أثناء حجهم، فليس له ما يبرره؛ لأن تعاليم الإسلام كفلت لأهل الأديان الأخرى الحرية التامة في مزاولة شعائر دينهم، ونهت عن التعرض لهم بسوء ماداموا مسالمين ولا نظن أن مسلمي هذا العصر كانوا يجهلون ذلك.
ولئن سلمنا حدوث بعض مضايقات، فإن ذلك لا يعدو أن يكون حوادث فردية صدرت من بعض جهلة المسلمين، وحتـما على فرض صدورها، فإنها لا تقتضي هذه الضجة الكبرى التي أثارها الغرب ضد المسلمين ولا تستلزم سفك ما سفك من دماء في هذه الحروب التي استمرت نحو قرنين من الزمن.
وكان الراهب بطرس الناسك الذي حج إلى بيت المقدس، وعزّ عليه أن يراه مِلكا للمسلمين، وهو المكان الذي يقدسه المسيحيون؛ كان هذا الراهب هو الذي روّج تلك الإشاعات.
على أن السبب المباشر لتلك المأساة التي ذهب ضحيتها عدد من البشر هو استنجاد الإمبراطور "ألكسيوس كمنينوس" إمبراطور الدولة البيزنطية بالبابا "إربان الثاني" بطريك الكنيسة الغربية بعد هزيمة البيزنطيين أمام السلاجقة في موقعة "ملاذكر" في أواخر سنة 462 هـ [23]، وكان هذا الاستنجاد بعد الموقعة بأكثر من عشرين سنة ولكنه صادف هوى في نفس البابا الذي كان يطمع في ضم الكنيسة الشرقية إلى الكنيسة الغربية فأثار تلك الضجة العالمية التي تعتبر من أهم أحداث التاريخ العالمي.
وفي العام التالي لهذا الاستنجاد ألقى البابا خطبة في مدينة "كليرمنت" في الجنوب الشرقي لفرنسا حثّ فيها المؤمنين من النصارى على أن "يسلكوا سبيلهم إلى القبر المقدس ويأخذوه عنوة من ذلك الشعب الملعون ويخضعوه لأنفسهم"[24]، ولقد أشعلت هذه الخطبة جذوة الحماس في نفوس الجماهير المسيحية شريفهم ووضيعهم على السواء، وبلغ عدد المتطوعين لهذه الحرب مائة وخمسين ألفا من النورماندبين والفرنج.
ولم يكن الحماس الديني وحده هو الذي دفع هذه الجماهير إلى شنّ الغارة على الشرق بل إن كثيرا من الأمراء- ومن بينهم "بوهيمند"_ خرجوا استجابة لأطماعهم في تكوين إمارات لهم في الشرق الأوسط، كما كانت المصالح الاقتصادية هدف تجار البندقية وبيزة وجنوة.
وقد نجح الصليبيون في تكوين أربع إمارات لهم في الشرق وهى إمارة الرها وإمارة أنطاكيا وإمارة طرابلس وإمارة بيت المقدس وسميت هذه الإمارات مملكة بيت المقدس حيث كان أمير بيت المقدس يتوج ملكا لهذه المملكة، وإن كان كل أمير مستقلا داخليا في إمارته. وكان الاعتداء الصليبي على الشرق سببا في ظهور قوى إسلامية فتية؛ فقد تحمس الأبطال المسلمون لاسترداد بلادهم المغتصبة، وتمكن البطل عماد الدين زنكي من استرداد إمارة الرها أول أمارة أنشأها الصليبيون في الشرق، وأهم إماراتهم وقد تم له ذلك سنة 539 هـ [25] .
ثم جاء بعده ابنه السلطان نور الدين محمود (541- 569 هـ) فوحّد بلاد الشام تحت حكمه وضم إليها مصر، ولم يتمكن الصليبيون في عهده من إضافة شبر واحد إلى ممتلكاتهم في الشرق، بل انتزع السلطان من أيديهم كثيرا من البلاد التي كانوا قد احتلوها قبل أن يتنبه المسلمون لخطرهم، وحمل لواء الجهاد في عهده ومن بعده السلطان صلاح الدين الأيوبي (567- 589 هـ) فانتزع بيت المقدس من أيدي الصليبيين سنة 583 هـ [26].
ثم أخذ سلاطين الأيوبيين والمماليك من بعدهم ينتزعون المدن الإسلامية من أيدي هؤلاء المغتصبين مدينة بعد أخرى حتى انتزع السلطان المملوكي الأشراف خليل (689-693 هـ) مدينة عكا أخر معقل لهم في الشرق سنة 692 هـ [27] وبذلك قضى على مملكة الصليبيين القضاء الأخير.
وكان الأثر الحضاري لهذه الحروب فنيا وصناعيا وتجاريا أكثر منه علميا أو أدبيا؛ فقد كان الأوروبيون الذين أقاموا في الشام في الإمارات التي أنشئوها يعيشون داخل حصون وسكنات عسكرية، وكان اتصالهم بالزراع الوطنيين والصناع أكثر من اتصالهم بالطبقة المثقفة. على أنهم مع ذلك استفادوا علميا، وإن كانت استفادة محدودة فقد نقل أحد علماء مدينة بيزة الكتاب الطبي المشهور "كامل الصناعة الطبية" لعلي بن العباس المعروف بالمجوسي نسبة إلى أحد أجداده الذي كان يدين بالمجوسية قبل أن يعتنق الإسلام وترجم فيليب الطرابلسي مخطوطا عربيا في الفلسفة والأخلاق يسمى "سر الأسرار" يقال إن أرسطو ألفه لتلميذه الإسكندر المقدوني.
كما كان من أثر الحروب الصليبية العلمي اهتمام الأوروبيين بتعلم اللغة العربية؛ لأنهم وقد فشلوا في نشر الديانة المسيحية بحدّ السيف رأوا أن تعلم اللغة العربية يمكنهم من التخاطب مع الشرقيين ونشر المسيحية بينهم باللين والإغراء [28].
على أن إنشاء المستشفيات ومعالجة المرضى فيها لم يعرف في أوروبا قبل الحروب الصليبية؛ مما يرجح أن هذا النظام منقول عن الشرق الإسلامي، بعد أن شاهد الأوروبيون المستشفيات فيه أثناء الحروب الصليبية، كما يرجح أيضا أن نظام الحمامات العامة الذي انتقل إلى أوروبا بعد الحروب الصليبية منقول كذلك بواسطتها.
وقد كان أثر الحروب الصليبية في نقل الفنون الحربية إلى أوروبا واضحا؛ فقد تعلم الصليبيون من المسلمين استخدام حمام الزاجل في نقل الأخبار الحربية [29] كما اقتبسوا منهم الاحتفال بالانتصارات بإشعال النيران، ولعبة الفروسية المعروفة باسم "الجريد"، وكذلك نقلوا عنهم اتخاذ الشعارات ونقشها على الأسلحة والخوذات، وكان اتخاذ الشعارات معروفا عند المسلمين، فقد كان صلاح الدين يلبس خوذة عليها رسم النسر، وكانت خوذة الظاهر بيبرس على شكل أسد كخوذة ابن طولون من قبل، ولم يكن ذلك معروفا في أوروبا قبل الحروب الصليبية.
وفي مجال الزراعة والصناعة والتجارة نقل الصليبيون العائدون إلى أوروبا كثيرا من النباتات وأشجار الفواكه مثل السمسم والبصل والأرز والبطيخ والبرقوق والليمون، كما حملوا معهم حين عودتهم البسط والسجاجيد والمنسوجات، وبدأت تظهر في أوروبا مصانع الآنية والبسط والأقمشة تقليدا للمنتجات الشرقية، ووجدت سوق أوروبية جديدة للمنتجات الزراعية الشرقية، والسلع الصناعية مما ساعد على نشاط التجارة الدولية التي كانت قد ركدت منذ سقوط الدولة الرومانية الغربية في القرن الخامس الميلادي [30].
السفارات بين دول أوروبا والدول الإسـلامية:
حدثت اتصالات بين دول أوروبا والدول الإسلامية في العصور الوسطى كان لها أثر- ولو ضئيل- في نقل حضارة المسلمين إلى أوروبا. فيحدثنا التاريخ أنه عندما يئس الخليفة أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسيين من مدّ سلطانه إلى بلاد الأندلس التي أَسس فيها الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إمارة أموية.
عندما يئس أبو جعفر من التغلب على هذا الأمير بالقوة لجأ إلى سلاح سياسي يستعين به على الوصول إلى غرضه فأراد التحالف مع "ببن" ملك الفرنجة على طرد الأمويين من الأندلس.
وقد مهد أبو جعفر لذلك بإرسال سفارة إلى "ببن" وجرت مفاوضات بين رسل الخليفة وبين ملك الفرنجة حول الغرض الذي جاءوا من أجله، ثم عادوا إلى بغداد يصحبهم سفراء من الفرنجة ليتفاوضوا مع أبى جعفر في التحالف مع دولة الفرنجة على سحق الدولة البيزنطية عدوتها، وعادوا إلى بلادهم يحملون الهدايا النفيسة التي أرسلها الخليفة إلى ملكهم.
ولم تؤد هذه المفاوضات إلى نتيجة إيجابية لكل من الطرفين أكثر من إزعاج عبد الرحمن الداخل وتخويفه من هجوم الفرنجة على بلاده، وإزعاج البيزنطيين من هجوم العباسيين على بلادهم. ويؤخذ على حكام المسلمين الاستعانة بغير المسلمين للتغلب على إخوانهم في الدين؛ فالمسلمون إخوة ينصر بعضهم بعضا، ويقفون صفا واحدا للدفاع عن عقيدتهم وصد أي عدوان يوجه إليها {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}.
وفي عهد الخليفة هارون الرشيد تجددت العلاقة بين دولة الفرنجة والدولة العباسية؛ حيث خطب شارلمان ود الرشيدَ؛ فأرسل إليه يطلب التحالف معه ضد البيزنطيين ويرجوه أن ييسر الحج إلى بيت المقدس للفرنجة، وأن تتبادل دولة الفرنجة التجارة مع الدولة العباسية وأن يمده بالكتب العلمية، كما أرسل الرشيد بعثة إلى بلاط شارلمان بغية التحالف معه ضد الإمبراطورية البيزنطية، والأمويين بالأندلس.
وقد أسفرت هذه المفاوضات عن إرسال مفاتيح كنيسة القيامة إلى شارلمان، وتبادل الهدايا بينه وبين الرشيد وكان من بين الهدايا التي أرسلها الرشيد إلى شارلمان: فيل وساعة مائية دقاقة، وأقمشة فاخرة من الموشى المنسوج بالذهب، وبسط ومواد عطرية [31].
ولم تسفر هذه المفاوضات عن عمل إيجابي من جانب شارلمان ضد الأمويين في الأندلس؛ لأنه لم يجازف بالدخول في حرب مع الأمويين لا يدرى مغبتها حيث أدرك استحالة الفضاء على الأمارة الأموية التي أصبحت ثابتة البنيان، موطدة الدعائم، واكتفى هو وأولاده من بعده بالدفاع عن أملاكهم ولم يفكروا في توجيه حملات هجومية ضد الأمويين.
وكما حاول الفرنجة والعباسيون أن يتحالفوا ضد البيزنطيين والأمويين كذلك حاول الأمويون والبيزنطيون أن يتحالفوا ضد العباسيين والفرنجة. وقد بدأت هذه المحاولة في عهد الإمبراطور البيزنطي "تيوفيل" الذي اشتد العداء بينه وبين الخليفة العباسي المعتصم باللّه، فقد هاجم الإمبراطور حصن زبطرة الإسلامي وضربه فرّد عليه الخليفة بالهجوم على عمورية وتخريبها سنة 223 هـ، كما خرّب كثيرا من المدن البيزنطية [32].
بعث الإمبراطور "تيوفيل"، سفيره "كريتوس" ومعه هدايا نفيسة رسالة يطلب فيها صداقة عبد الرحمن الثاني (الأوسط) أمير الأندلس ويرجوه عقد معاهدة صداقة ويحرضه على استعادة مقر خلافة أجداده. وقد ردّ الأمير عبد الرحمن الأوسط على لا "تيوفيل" بخطاب عبّر فيه عن عداوته للعباسيين، دون أن يرتبط معه بمعاهدة حربية ضدهم وهذا تصرف نبيل من الأمير المسلم، يستحق الثناء عليه حيث لم يتفق مع المسيحيين على حرب المسلمين.
ومع أن هذه المراسلات لم تؤد إلى عقد تحالف فعلي فإنها لم تخل من فائدة حيث أوجدت حالة استقرار في غرب أوروبا؛ إذ أن الأمويين والفرنجة اقتنعوا بأنه من الخير لهم أن يتفاهموا، وأن تكف كل من الدولتين عن حرب الأخرى وتنصرف كل منها إلى رعاية مصالحها وتعمل على تقدمها الحضاري.
وقد نشأت بين المدن الإيطالية وبين الدولة الفاطمية بمصر والشام علاقات تأرجحت بين الودّ، والعداء فقد أرسلت مدينة بيزا سفيرا إلى بلاط الخليفة الفاطمي الظاهر (411-417 هـ) لتسوية المشكلة التي تسببت عن اعتداء بعض تجار بيزا على جماعة من التجار المصريين في البحر الأبيض، على مقربة من بيزا وسلب أموالهم، وقتل بعضهم. وقد انتقمت الحكومة الفاطمية لرعاياها وعاقبت التجار البيزيين المقيمين بمصر.
ونجح سفير بيزا في تسوية الخلاف بعد أن تعهد عن حكومته بالاقتصاص من المعتدين كما تعهد بالامتناع عن إمداد أعداء المسلمين بأي مساعدة، وفي نظير ذلك تعهدت الحكومة الفاطمية بإطلاق سراح التجار البيزيين المسجونين بمصر، وحماية حجاج بيت المقدس القادمين من بيزا على سفن غير حربية.
وعندما تولى الصالح طلائع بن رزيك الوزارة المصرية سنة 549 هـ بادرت حكومة بيزا بإرسال وفد لتهنئته، فرحب الوزير بهم وأكرمهم وأكد المعاهدات القديمة بينهما.
وقد قامت صلات ودية بين مدينة جنوة والدولة الفاطمية وازدادت هذه الصلات في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري فقدي بعثت جنوة سفراء معاهدة مع الحكومة الفاطمية وتمخضت المفاوضات بين الطرفين عن تعهد الحكومة الفاطمية بحماية رعايا جنوة في مصر، وكان معظمهم يقيمون في مدينة الإسكندرية.
وكذلك قامت علاقات بين البندقية والدولة الفاطمية؛ حيث تعهدت البندقية في القرن الرابع الهجري بإمداد الفاطميين بما يحتاجونه من الأخشاب التي تلزم لبناء الأسطول الفاطمي المرابط في سواحل مصر، وسواحل الشام، ولكن البندقية توقفت بعد فترة عن إرسال الأخشاب- تحت تهديد حكومة بيزنطة- فتعكر صفو العلاقات بينها وبين الفاطميين، غير أن البندقية لم تلبث أن أدركت أن مصالحها التجارية تحتم عليها أن تعيد علاقاتها الطيبة بالقاهرة؛ فعادت إلى ما كانت عليه من إمدادها بالأخشاب نظير حصولها على امتيازات خاصة لسفنها التي تمر بالمياه المصرية، وتنقل حاصلات إفريقية وأسيا إلى أوروبا [33].
ومما لاشك فيه أن هذه السفارات قامت بدور في توصيل حضارة المسلمين إلى دول الغرب؛ لأن السفراء كانوا يطلعون على مظاهر الحضارة في العالم الإسلامي، وينقلون فكرة عما شاهدوه إلى بلادهم لكن عدد هؤلاء السفراء- بالطبع- كان محدودا وإقامتهم في البلاد الإسلامية لم تكن طويلة، بل كانت مدتها تتوقف على انتهاء المهمة التي أرسلوا من أجلها.
ولذلك لم يكن دور هذه الاتصالات بارزا في نقل الحضارة الإسلامية، بل كان نصيبه في نقلها محدودا يقتصر أغلبه على الجانب المادي للحضارة، أما الجانب الثقافي منها فقد كان قليلا جدا، كما اقتصر نقل التجار على الجانب المادي فقط لأن همتهم كانت متجهة أولاً وبالذات إلى الحصول على المال فكانوا ينقلون التحف بقصد الكسب من ورائها فحسب ولم تكن الثقافة والفن مما يحرص التجار على تداوله.
من كل ما تقدم نعلم أن ما تنعم الدول الغربية به من حضارة ليس من ابتكار عقول أهلها، ولا من صنع أيديهم إنما هو فيض الحضارة الإسلامية وصل إليهم عن تلك المصادر التي تكلمنا عنها.
وقد اهتم الغربيون بالجانب المادي من الحضارة التي وصلت إليهم من الشرق وأغفلوا الجانب الروح، وهو المهم، وليتهم وجهوا الجانب المادي وجهة صالحة تعمّر ولا تخرب، وتبني ولا تهدم. بل تفننوا في نقل وسائل التخريب والتدمير، حتى أصبح العالم يعيش اليوم في جو من القلق والرعب اللذين يجب أن يخلو منها المجتمع الحضاري.
خاتمة
ويوم يرجع المسلمون إلى التمسك بقواعد دينهم، والسير على هداها فسوف يعيدون إلى المجتمع الإنساني نعمة الأمن، ويخرجونه من جو القلق والرعب إلى جو الطمأنينة والسعادة واللّه سبحانه وتعالى يهدى إلى سواء السبيل، نسأله جلت قدرته أن يعيد للمسلمين عزهم ومجدهم إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.
المصادر والمراجع:
[1] جمال سرور .الدولة الفاطمية ص 1760175
[2] إبراهيم العدوى، المسلمون والجرمان ص 270.
[3] جميل نخلة. حضارة الإسلام ص 151.
[4] السيوطي، حسن المحاضرة جـ3 ص 168.
[5] فيليب حتى. تاريخ العرب جـ3 ص 65.
[6] أبو الفداء. المختصر في أخبار البشر جـ4 ص 24.
[7] فليب حتى، تاريخ العرب جـ2 ص 857، 858.
[8] إسحاق أرملة، الحروب الصليبية ص106
[9] ابن شداد. سيرة صلاح الدين ص 67066.
[10] ابن الأثير، الكامل جـ8 ص45.44.
[11] فيليب حتى، تاريخ العرب جـ2 ص822.
[12] ابن الأثير، الكامل جـ1 ص45.44.
[13] أبو المحاسن، النجوم الزاهرة ج6 ص283
[14] المقريزي، الخطط، ج1 ص21
[15] رحلة ابن جبير ص331.
[16] المقريرزي، السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 ص382
[17] أماري، مكتبة صقلية العربية ص 472
[18] رحلة ابن جبير ص 228.
([19]) أماري، مكتبة صقلية العربية جـ1 ص 427،429.
([20]) ابن الأثير، الكامل جـ1 ص 54،53
[21] هل، الحضارة العربية ص 120.
[22] المدور الديانات والحضارات ص 70.
[23] سعيد عاشور. أوروبا في العصور الوسطى ص 217.
[24] بالنشيا، تاريخ الفكري الأندلس ص 536.
[25] المدوّر. الديانات والحضارات ص 67.
[26] علي الخربوطلي: العرب والحضارة ص 313.
[27] جوت هل، الحضارة العربية ص119.
[28] ابن حوقل، المسالك والممالك ص79.78.
[29] ابن خلكان، وفيات الأعيان جـ1 ص131.130.
[30] ابن خلدون، كتاب العبر جـ4 ص 146.
[31] المقري، نفع الطيب ج1 ص 250.
[32] المقري، نفح الطيب جـ1 ص298.
[33] لطفي عبد السميع، الإسلام في أسبانيا ص31.30.
0 التعليقات:
إرسال تعليق