تحتل العلاقات الإسلامية ـ البيزنطية مكانة هامة في التاريخ الإسلامي، لأنها تمثل صورة الصراع الحربي الطويل عند الثغور والذي استمر دون انقطاع طوال قرون، وقد استدعى من الدولة الإسلامية أعمالاً كثيرة لتأمين حدود الشام وتخومها (1) من الشمال والشمال الشرقي. وفي ظل هذه الإستراتيجية استدعى الموقف أن تؤمن الشام بفتح الجزيرة وبناء القلاع والحصون والثغور على التخوم في الوقت الذي حشدت فيه الدولة البيزنطية كل قواها وإمكاناتها للاحتفاظ بالمناطق المحصنة، غير أن المسلمين نجحوا في تحصين الشام والجزيرة وثبتوا تخومهم.
استراتجية المسلمين في الفتح :
1 – العهد الراشدي :
أ- التخوم :
وقد راعى المسلمون منذ فتوحاتهم الأولى أن تحقق تخومهم لدولتهم تأمينًا كافيًا، ومن ذلك اتجهوا إلى فتح الجزيرة وأرمينية بعد أن تم لهم فتح الشام، إذ زادت بذلك فرص الأمن لتخومهم واستفادت من مناعة جبال طوروس من ناحية، ومن طبيعة أرمينية الجبلية من ناحية أخرى، فقد أثبتت سير الفتوحات الإسلامية حقيقة ارتباط أجزاء هذه المناطق المتداخلة (2)، فكان من نتائج معركة اليرموك رجب 13 ه/أوت 634 م أن فتحت أبواب الشام للمسلمين. وقد كانت بلاد الجزيرة وبلاد الشام البيزنطيتين مركزا الدفاع عن المنطقة الشرقية من المسلمين(3) ، وهكذا برزت للمسلمين قيمة الجزيرة الاستراتيجية في حماية تخوم دولتهم، فلا غرو أن يذكر المقدسي إقليم الجزيرة بأنه ثغر من ثغور المسلمين ومعقل من معاقلهم (4) فاتجهت أنظار المسلمين لفتح الموصل، وذلك لعاملين، أولهما للمميزات الاستراتيجية التي يكفلها هذا الفتح لتأمين الظهير الشامي من الشرق، أما ثانيهما فيتمثل في سهولة هذا الفتح بالنسبة لقوة إسلامية مقيمة بالشام، ومسيطرة على مصاب دجلة والفرات، وعلى هذه الظروف الجغرافية تتابعت فتوح المسلمين، ففتحوا الجزيرة بعد الشام، إذ كان إقليم الجزيرة وشمال الشام وحدة يكمل بعضها البعض من حيث ارتباط حصونها وتعرضها لإغارات البيزنطيين(5)، وكانت استراتيجية البيزنطيين تعتمد على دعامتين أنطاكية في الشام، والرها فيما بين النهرين، فقد ارتبطت أنطاكية بقليقية بطريق مجرى النهر الأسود، فضلاً عن إمكان التوغل منها إلى أرمينية عن طريق الهجرات الأرمينية نحو أنطاكية، علاوة على اتصالها بالظهير الشامي عن طريق حلب(6) . وفي المقابل أدت الثغور الشامية والجزرية دورها الحربي كأداة حجز ووقاية للدولة الإسلامية وذلك لموقعها في منطقة التخوم الإسلامية ـ البيزنطية.
ب- الثغور و العواصم :
والثغر هو كل موضع قريب من أرض العدو، وهو الموضع الذي يخاف منه هجوم العدو فهو كالثملة في الحائط يخاف هجوم السارق منها والجمع ثغور(7) . والراجح أن الثغور الإسلامية الشامية أيام عمر وعثمان كانت أنطاكية وغيرها من المدن التي سماها الرشيد عواصم (8). لكن بتقدم الفتوحات الإسلامية إلى الأمام أصبح خط الثغور محميًا بموقعه الطبيعي أكثر من ذي قبل وأصبح يمتد من ملطية على الفرات إلى طرسوس في قليقية بالقرب من ساحل البحر الشامي وبذلك أصبح حاميًا لخط العواصم(9). وكانت الثغور تمثل خطًّا طويلاً من القلاع يحمي ما وراءها ويمتد من ملطية على الفرات الأعلى إلى طرسوس بالقرب من البحر الشامي، وقد تبودلت هذه القلاع بين المسلمين والروم، فكان الفريقان فيها بين مدٍّ وجزر(10) .
وقد عدد قدامة بن جعفر الثغور المختلفة التي تضمنتها مناطق التخوم بين المسلمين والروم وفرّق بين الثغور والعواصم فقال : "إن الثغور المقابلة لبلاد الروم، منها برية تلقاها بلاد العدو وتقاربه من جهة البر، ومنها بحرية تلقاه وتواجهه من جهة البحر، ومنها ما يجتمع فيه الأمران، وعواصم هذه الثغور وما وراءها إلينا من بلدان الإسلام، وإنما سمي كل واحد منها عاصمًا لأنه يعصم الثغر ويمده في أوقات النفير، ثم ينفر إليه من أهل أنطاكية والجومة والقورس" (11). وبذلك كانت التخوم بين بلاد المسلمين والروم في أيام بني أمية وبني العباس تتألف من سلسلتي جبال طوروس وطوروس الداخلية (12).
وكانت غارات المسلمين على أرض الروم في الربيع والصيف والشتاء، أما غزو الربيع فيبدأ في وسط ماي حين تقوى الخيل وتسمن من مراعي الربيع ويدوم الغزو ثلاثين يوماً إلى نصف جوان، وفي أثناء هذا الغزو تجد الخيول من مراعي الروم غذاءً وفيراً هو بمثابة ربيع ثانٍ لها. ثم يستريح المسلمون ويريحون خيولهم من منتصف جوان إلى منتصف جويلية، وتبدأ حملة الصيف في منتصف جويلية وتدوم ستين يومًا؛ أما حملة الشتاء فلا تكون إلا في حالات الضرورة القصوى ولم يكونوا في أي حال يمنعون التوغل في أرض العدو وكانوا يحرصون على أن لا تدوم أكثر من عشرين يومًا يحمل فيها الجند على خيولهم المؤونة الضرورية لهذه الأسابيع الثلاثة، ويكون هذا الغزو عادة في آخر شهر فيفري والنصف الأول من شهر مارس(13) .
ومن دواعي قيام الثغور أن الخليفة عمر كان يردد دائمًا كلما ذكر الروم "والله لوددت ان الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه وللروم ما وراءه" (14)، وهو قول يحمل في طياته بُعْدَ نظر عمر وتفهمه العميق لطبيعة الحرب مع الروم، التي كانت حربًا مريرة طويلة المدى، وكأنه كان يستشرف المستقبل ويعلم تفاصيل ما أسهب المؤرخون في ذكره بعد ذلك، كلّما سنحت فرصة تناول العلاقات الإسلامية ـ البيزنطية(15) .
جـ - غزو الدروب :
وحقيقة الأمر أن المسلمين ما أن أتموا فتح الشام والجزيرة حتى تجلت لهم تأمين الفتوحات بالسيطرة على منطقة الدروب، وهو الشيء الذي يتخوّف منه هرقل بشدة بعد خروجه من أنطاكية إلى القسطنطينية، ذلك أنه بعد أن علم بفتح أنطاكية صلحًا وقَتْلُ المسلمين لمن فيها من المقاتلين بكى وقال قولته المشهورة "السلام عليك يا أرض سوريا إلى يوم اللقاء" (16) ثم اجتمع لبطارقته وحجابه وأعرب لهم عن قلقه من أن يتعقبهم المسلمون، ثم أنه جهز ثلاثين ألفاً مع ثلاثة بطارقة، وأمرهم أن يحفظوا له الدروب(17) ، وعن طريق الاستطلاع وصلت تلك الأخبار للمسلمين.
وبعد مشاورات طويلة بشأن ضرورة اجتياز منطقة الدروب وقع اتفاق المسلمين المقيمين ببلاد الشام بقيادة أبي عبيدة بن الجراح على أن يرسلوا جيشًا يفتح الدروب ويغير على بلاد العدو القريبة منهم ويعود وينقل لهم المعلومات التي يبنى عليها عمل الجيش في المستقبل(18) ، أي ان تكون مهمة هذا الجيش هي الاستطلاع وتقصي الأخبار ليتصرف أولو الأمر من المسلمين على غرارها؛ وفي هذا الإطار وضع الخليفة عمر ـ الذي لم يجد مفرًّا من استكمال الحرب مع الروم ـ أساس نظام دقيق لتنفيذ هذا الغرض بعد أن "قسم الأرزاق وسمى الشواتي والصوائف وسد فروج الشام" وذلك سنة 17 ه/639 م(19). وعلى هذا الأساس أرسل أبو عبيدة بن الجراح أول صائفة على بلاد الروم في عهد عمر بن الخطاب(20) .
وكان معاوية بن أبي سفيان غزا الصائفة وذلك سنة 23 ه/644 م وكان وقتها عاملاً على دمشق من قبل عمر بن الخطاب (21)، ثم غزا عمورية سنة 25 ه/645ـ646 م فوجد الحصون بين أنطاكية وطرسوس خالية فترك فيها جماعة من أهل الشام والجزيرة وقنسرين حتى يعود من غزوته، وهو ما طلبه معاوية من الحر العبسي الذي غزا الصائفة بعد ذلك بسنة أو اثنتين (22). وهذه أول محاولة لإقامة قوات حامية مستقرة في المناطق الثغرية ولو أن مدة إقامتها كانت مرتبطة بمدة تنفيذ الصائفة أو الشاتية فقط، ولم تنقطع الغزوات إلى بلاد الروم في عهد عثمان بن عفان ففي سنة 24 ه/944-645 م دخلها جيشان أحدهما من الشام والثاني من الكوفة بالجزيرة (23)، ويقال أن معاوية لما غزا سنة 31 ه/651 م ووصل إلى ضوريليوم دمّر أثناء رجوعه الحصون حتى أنطاكية(24) ، ولقد كانت هذه الحصون معسكرات مؤقتة.
كانت معظم الهجمات على البيزنطيين من ثغر الشام، أما ثغور الجزيرة فالغالب عليها الحراسة، وكانت الثغور خالية من السكان عند فتح المسلمين لها إذ نقل البيزنطيون أهلها ـ لا سيما الأرمن ـ وسميت بالضواحي لقلة سكانها، وعمّرها المسلمون فأنزلوا بها عناصر قيسية وأسدية، حيث استقدموهم وأسكنوهم ثغور الجزيرة بين قبائل مضر وربيعة، ونُقلت جماعات من أهل الجزيرة وحمص ومن المصريين والكوفة والبصرة إلى نواحي أنطاكية التي أسكنها معاوية عناصر هندية من السند عُرفت بالزط، سموهم المرابطة لملازمتهم ثغر العدو بالجهاد وهو الرباط (25).
2- العهد الأموي :
وبتولي معاوية الخلافة عام 41 ه/661 م بدأ بوضع أسلوب جديد منظم لحرب الروم مستندًا إلى تنظيم عمر بن الخطاب الخاص بالصوائف والشواتي، ولكن بالرجوع إلى الطبري لاحظنا شيئًا مهمًّا بالنسبة لعهد معاوية بالذات وهو أن الغزوات السنوية مع الروم كانت أغلبها "شواتي" على غير عادة المسلمين من قبل، فقد تمّ في عهده حوالي إحدى عشر شاتية في إحدى عشر سنة(26)، وشتاتين في سنة واحدة (27)، إلى جانب أربع سنوات تم فيها صائفة وشاتية معًا في سنة واحدة (28)، هذا إلى جانب غزوات أخرى لم يذكر ما إذا كانت صائفة أو شاتية مثل سنة 42 ه/662 م التي يقال أن معاوية صالح الروم فيها(29) .
وعلى ذلك ففي بداية العصر الأموي كان الارتكاز في الدفاع على الثغور أكثر من الحملات السنوية وأحيانًا الفصلية، التي لم تكن في حاجة إلى أماكن ارتكاز تزيد عن المعسكر أو الفسطاط(30) ، وكانت الحملات الإسلامية لحماية الظهير الشامي شمالاً متفرقة، فلكل جبهة نشاطها (الشام والجزيرة) المستقل، إلا أنها كانت تتحد في جبهة واحدة عندما تتسع المعركة فتخرج عن النطاق المحلي وتصير معركة هامة في قلب آسيا الصغرى (31).
أما في عهد المروانيين [64 ـ 132 ه/683 ـ 749 م] فهو بداية حركة منظمة لتأسيس وإقامة القلاع الثغرية التي تزوّد بالجند وتشحن بالعتاد "وكانت الطوالع من أنطاكية تطلع عليه في كل عام فتشتوا بها ثم تنصرف"(32).
وهكذا شهد عهد المروانيين بناء أربعة عشر مدينة محصنة أو حصنًا جرى بناؤها أول بأول أو ترميمها بأيدي الخلفاء المتعددين (33)، والواقع فإن مواضع الثغور الإسلامية على تخوم بلادهم تظهر ما كان لدى المسلمين من نضج عسكري، فإنهم كانوا يقيمونها على أبواب الطرق متحكمة في أماكن اقتراب العدو، ومراعين أن تكون بعيدة عن البحار قريبة من الصحراء التي يحسنون القتال فيها، وأن تكون محصنة بثنيات الأنهار ومنعطفات الجبال أو بالخنادق يحفرونها أو بغير ذلك من الموانع الطبيعية أو المصطنعة التي تضمن لمواقعهم ميزة استراتيجية ملحوظة(34).
إن الاضطرابات التي صاحبت سقوط الدولة الأموية 132 ه/749 م وقيام الدولة العباسية ونقل العاصمة من الشام إلى العراق أدت إلى تقدم البيزنطيين في آسيا الصغرى على حساب المناطق الإسلامية، حيث تمكن الأمبراطور قسطنطين الخامس [124ـ159 ه- 741ـ775 م] من التوغل في مناطق الظهير الشامي(35) .
3 – العصر العباسي :
وفي العصر العباسي اهتم الخلفاء بأمر الثغور فولّوا عليها أبناءهم وإخوتهم وأقرب المقربين إليهم، فولى أبو العباس السفاح أخاه المنصور الجزيرة والموصل وثغور الشام، وعيّن المأمون ابنه العباس أميرًا على الثغور عام 212 ه/817م، وكان للعباسيين جهودًا عظيمة في ميدان الجهاد في منطقة الثغور لذلك بذلوا الجهد والمال لتحصين القلاع الثغرية وتزويدها بالرجال والعتاد(36) وكان الخلفاء "لا يولونها إلا القواد الشجعان والراغبين منهم في الجهاد"(37) . والواقع أنه بمقارنة المدن الثغرية في العصرين الأموي والعباسي، نرى أن مدنًا كانت صغيرة في العهد الأموي أصبحت ذات قيمة كبيرة في العهد العباسي (38)، وثمة رأي يذكر أن الخلفاء العباسيين لم يهدفوا إلى ما هدف إليه الأمويون من حيث القضاء على دولة الروم والسيطرة على حوض البحر الشامي، فالصوائف والشواتي في عهدهم لم تكن سوى غارات للاستيلاء على معاقل جبال طوروس أو للنهب والسلب الشائعين في ذلك العصر(39) .
وفي الفترة ما بين [186 ـ 253 ه/802 ـ 867 م] خاض البيزنطيون غمار الحرب مع المسلمين على جبهتين شرقية ضد العباسيين في آسيا الصغرى، وغربية ضد الأغالبة في بلاد المغرب، إذ حاول نقفور الأول [186 ـ 195 ه/802 ـ 811 م] إلغاء الهدنـة التي عقدتها الأمبراطورة إيـريـن [797 ـ 802 م/180 ـ 186 ه] مع الخليفة العباسي المهدي سنة 166 ه/783 م واسترجاع الأتاوات التي دفعتها، وكان رد هارون الرشيد سنة 191 ه/806 مبشن عدة حملات انتهت بمعاهدة فرضت فيها الجزية على الأمبراطور نفسه وعلى أفراد عائلته بالإضافة إلى الاستمرار في دفع الأتاوات السابقة(40) .
لم يكن الأمبراطور ليو السادس [273 ـ 299 ه/886 ـ 912 م] موفقًا في حربه مع المسلمين، وكل ما فعله هو تحمل هجمات المسلمين في صقلية وفي الشرق، كما لم تسمح الحرب التي قامت في أوربا مع البلغار للجيوش البيزنطية في أول الأمر بأن تقاتل على الجبهة الإسلامية في منطقة الشام والجزيرة فضلاً عن أرمينية، ولذلك حفلت الفترة ما بين [296 ـ 299 ه/909 ـ 912 م] بحملات إسلامية موفقة برًّا وبحرًا في ملطية وطرسوس، ولذلك لم يلتزم البيزنطيون بالاتفاق البيزنطي ـ الأرميني لسنة 278ه/893م والقاضي بمساعدة الأرمن حالة الهجوم الإسلامي عليهم، وشهدت هذه الفترة عملية تنظيم واسعة للثغور والتخوم البيزنطية، وإنشاء أقسام إقليمية جديدة بهدف ضمان الدفاع عن تخوم بيزنطة (41).
وعلى أيام الأمبراطور قسطنطين السابع [301 ـ 348 ه/913 ـ 959 م] ركّز اهتمامه على الجبهة الشرقية وبخاصة على الثغور الشامية التي بمنطقة حلب (42). ولعل السبب في ذلك تخوّفه الشديد من القوات الإسلامية هناك، وذلك لما قام به سيف الدولة الحمداني الذي أوجد وضعًا خلق قلقًا كبيراً لبيزنطة، نتيجة ما أحدثه غلمانه المدربون على المغامرة والإقبال كما يصفهم نقفور فوكاس : "إنه من واجبنا التخلي عن الاعتقاد بأن جيش سيف الدولة لم يكن إلا عصابات غير منظمة، بل إن العرب كانوا يتخذون خططًا في دقة متناهية، وأعدّوا لكل أمر عدّته اللازمة، ونظّموا الخدمة اليومية بالاستطلاع (بنظام الطلائع) وبالدوريات الصغيرة لكل كتيبة من الجيـش"(43) .
ومهما يكن فإنه نتج عن حملات هذه الفترة المتعددة والمتتالية على المناطق الإسلامية في التخوم ما يشبه التعويق لعملية المد الإسلامي، مما أثّر على القوى الإسلامية في الثغور لدرجة أن بقيت مفتوحة أمام المطامع البيزنطية، واتخذت الحرب في هذه الفترة أشكالاً متعددة، ولكنها بأسلوب واحد لدى الفريقين المتحاربين، إما بهجومات مباغتة تؤدي أحيانًا إلى الدخول إلى ما وراء تخوم العدو، أو بكمائن عند دروب وممرات جبال طوروس، وتنتهي كلها بتبادل الأسرى في نهاية الحرب(44) ، إلا انه بظهور القائد العسكري ليو الثالث غَيَّرَ شكل الحرب بإدخال أساليب جديدة مبنية على أساس الخدع الحربية والكمائن والتقهقر الظاهري (45). هذا الأسلوب القتالي لم يكن من عند ليو الثالث وإنما هو أسلوب عُرف به الأتراك السلاجقة، والعرب من قبلهم، وقد عرف البيزنطيون الأسلوب القتالي التركي فقد عمل بعض الجنود المرتزقة الأتراك في الجيش البيزنطي.
4 – ردود الفعل البيزنطية :
وفي مستهل القرن 4 ه/10 م كان تنظيم أقاليم التخوم البيزنطية يعتمد على تقسيم الأقاليم البيزنطية إلى دوائر إقليمية كبيرة يحكمها قائد عسكري يسمى (استراتيجوس) يجمع في يده السلطات المدنية والعسكرية معًا؛ وكانت هذه الدوائر تسمى الثيمات "Themes" وهي كلمة كانت تطلق في البداية على وحدة عسكرية كبيرة مستقرة في منطقة ما تتكفل بالدفاع عنها، وكانت الثيمات تنقسم إلى وحدات (مجموعات) "Turmai" على رأس كل مجموعة "Turmarque" يحكم مجموعة من الوحدات، وهناك مناطق لها أهمية خاصة لأنها تحرس ممرًّا جبليًّا وتتكفل بمنع العدو من اجتيازه، هذه أُخرجت من مجموعة الثيمات ومنحت صفة المستقلة. وكانت قوات الثيمات أو الثغور (الجيش الثيمي) المكلفة بالدفاع بصفة دائمة إلى جانب عمليات أخرى محدودة تنضم لتنفيذ عمليات على نطاق واسع على مجموعة من القوات تسمى "Tagmes, Tagmata"، وكانت تقيم في القسطنطينية مُشكّلة الحرس الأمبراطوري، وكانت من أشد الوحدات البيزنطية صلابة، ويقودها الإسكول "Scholes" ويسمى الدمستق "Domestique" فقد تقدم في النهاية على سائر القادة العسكريين، على الرغم من أنه كان حتى القرن 10 م/ 4 ه ـ نظرياً ـ أدنى مرتبة من "الأستراتيجوس" على لواء الأناضول، وقد ظهر الدمستق في القرن 4 ه/10 م قائدًا عامًّا، تسند إليه إدارة العمليات الهامة على الجبهة الإسلامية بصفة رئيسية في حالة عدم قيام الأمبراطور بإدارة هذه العمليات بنفسه، وكان ليو الثالث هو من أوجد هذا النظام العسكري الجديد(46) .
وكان الرومان قد قاموا بمثل هذا النظام الدفاعي في السابق، حيث كانوا يرون في جبال آسيا الصغرى الشرقية وبادية الشام بأنهما تشكلان حاجزين طبيعيين ملائمين واكتفوا ـ في هذه المناطق بإنشاء قلاع موزعة في مناطق معينة لحماية الطرق والجسور والممرات الطبيعية، ولذا أصبح حدهم الشرقي منطقة مراقبة محصنة تبدأ من الشمال حتى حدود البادية إلى العقبة، وكان خط الدفاع الممتد نحو 800 كم بين قرقيسيا عند مصب الخابور وبين العقبة يتألف من طريق مهيأة موازية للحدود محمية من الجانبين بأبراج كثيرة عند مفترق الطرق، وكانت تدمر ودمشق والبتراء تدخل بقلاعها وحصونها والطرق الموصلة إليها هذا الخط الدفاعي(47) .
وعلى عهد الأسرة المقدونية [253-447هـ /867-1056م] خصص نقفور فوكاس [352-358 ه/963-969م] كل جهوده خلال السنوات الست من حكمه لمحاربة المسلمين في الشرق، فبعد أن استولت قواته على طرسوس وقليقيا، وفي ذات الوقت أخذت فيه أساطيله قبرص الجزيرة المهمة من أيدي المسلمين؛ إن هذا العمل فتح الطريق لنقفور فوكاس نحو الشام، فانتزع من الحمدانيين مدينة عين زربة(48) وقلعة سيس، ثم عبر ممرات جبال الأمانوس في ذي القعدة 351 ه/ديسمبر 962 م وانتزع من الحمدانيين مرعش ودلوك(49) وعينتاب (50)ومنبج، ومضى ينهب حلب، وعندما أصبح نقفور أمبراطوراً أتمّ استيلاءه على قليقيـة باستيلائه على أذنة سنة 353 ه/964 م والمصيصة (51) في 14 شعبان 354 ه/13 جويلية 965 م حيث طرد الحمدانيين منها نهائيا وأسكنها الأرمن بعد ذلك، وفي عام 358 ه/ 966 م ـ عقب وفاة سيف الدولة ـ جرّد نقفور حملة من الفرسان إلى حمص وطرابلس، وبعد رحيل نقفور فوكاس انتزع قائده ميخائيل بورتزيس مدينة أنطاكية في 13 ذي الحجة 358 ه/29 أكتوبر 969 م التي بقيت تابعة لبيزنطة حتى عام 480 ه /1078م وطرد المسلمين وأسكن بدلا منهم الأرمن، وتعد أنطاكية قلب الشام وبعد سقوطها استطاعت جيوش نقفور الاستيلاء على حلب(52) .
إنه باستيلاء نقفور على قليقية وطرسوس وأنطاكية ثم حلب لم يعد هناك عائقا أمام جنوده للإغارة على هذه المناطق، فلم يكن بمقدور أية قوة إسلامية مقاومة هذا المد البيزنطي، واتُّخذت أنطاكية قاعدة رئيسية للقوات البيزنطية في نهاية القرن 4 ه/10 م حيث كانت تخرج القوات منها للإغارة على المناطق المجاورة والعودة إليها(53).
وعلى عهد زيمسكيس "Tzmisces" استولى على مناطق كثيرة وصار على مقربة من بيت المقدس، ولما وجد أن قواته لا تكفي لتحقيق الاستيلاء عليها، سار نحو الشمال واستولى على المدن الساحلية : بيروت وصيدا وجبيل، ولكن الهزيمة حلت بجنده في طرابلس، ثم عادت الجيوش البيزنطية إلى أنطاكية وعاد الأمبراطور إلى القسطنطينية سنة 366 ه/ 976 م(54) .
وما يمكن ملاحظته خلال حكم الأسرة المقدونية نرى جهود حناكوكاس ونقفور فوكاس ويوحنا زيميسكيس وباسل الثاني قد أثمرت في توسيع حدود بيزنطة الشرقية حتى الفرات وأصبحت سورية مع أنطاكية من جديد جزءًا من الأراضي البيزنطية(55) .
الهوامش :
(1) التخوم : منطقة جغرافية لها مساحة لوجود بعدين طول وعرض لها، وهي لا تعني ناحية قانونية كما أنه ليس من الضروري أن يكون مقصدها سياسيًا، والتخوم ظاهرة طبيعية ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال على الرغم من أنها قد تفقد وظيفتها، وتضم التخوم موارد طبيعية واقتصادية وبشرية، وتعتبر التخوم مناطق انتقال بين الظاهرات الطبيعية والبشرية المتباينة، وفيها تعدد اللغات واللهجات، وينقسم ولاء السكان فيها أحيانًا، وتختلط بها الأنظمة الاقتصادية، أو قد يصبح لها نظام اقتصادي قائم بذاته. انظر : محمد محمود الديب، الجغرافيا السياسية، مكتبة الانجلو مصرية، القاهرة، 1976، ص 236-237.
(2)توفيق سلطان، الثغور ودورها العسكري والحضاري، مجلة آداب الرافدين، العدد 11، لسنة 1979، ص 9.
(3)كانت معركة مرج دابق 15 ه/636 م انتصر فيها المسلمون فسار هرقل إلى الرها واخذ عامله بسورية إلى حمص، ولما دانت الشام لأبي عبيدة بعد فتحه حلب عام 16 ه/638 م أخذ البيزنطيون يناوشون المسلمين من ظهيرهم عبر الجزيرة. انظر : الطبري، ج 3، ص 602، طبعة دار المعارف، 1962.
(4) المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، ليدن 1909 ص 136.
(5) الاصطخري، المسالك و الممالك ، تحقيق محمد جابر عبد العالي الحيني ، دار القلم ، القاهرة 1381 هـ - 1961 م ص 55. ابن حوقل، صورة الأرض ، مكتبة دار الحياة ، بيروت ( د . ت ) ص 154.
(6) فتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية بين الاحتكاك الحربي و الاتصال الحضاري ، الدار القومية للطباعة و النشر ، القاهرة 1966 ج 2، ص 98.
(7) ياقوت الحموي، معجم البلدان ، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي ، دار الكتب العلمية طـ 1 بيروت 1990 ، ج 2/93.
(8) البلاذري، فتوح البلدان، ص 223. ياقوت، 2/93. ويوضح ابن رستة في الأغلاق النفيسة، ليدن، 1891، م 7، ص 107 العواصم بقوله: "أنطاكية وتيزين وقورس ومنبج ودلوك ورعيان".
(9) العواصم : جمع عاصم وهو المانع، والعواصم حصون وولاية تحيط بها بين حلب وأنطاكية وقصبتها أنطاكية، وكان المسلمون يعتصمون بها فتعصمهم وتمنعهم من العدو إذا انصرفوا من غزوهم وخرجوا من ثغرهم، وكانت العواصم تعصم الثغور وتمدها في أوقات النفيـر. ياقـوت، 2/93.
(10) ياقوت الحموي، المصدر السابق، ج 2، ص 93.
(11) قدامة بن جعفر، نبذة من كتاب الخراج وصنعة الكتابة، ملحق بابن خرد ذابة، المسالك والممالك، مكتبة المثنى ، بغداد (د ت) ص 253.
(12) ليسترنج، بلدان الخلافة الشرقية، ترجمة بشير فرنسيس ، و كوركيس عواد ، مكتبة الرابطة بغداد 1373 هـ / 1954 م ص 160، 161
. M. Canard, Histoire de la dynastie des Hamdanides, T 1, pp. 241-242.
(13) علية عبد السميع الجنزوري، الثغور البرية الإسلامية على حدود الدولة البيزنطية في العصور الوسطى، مكتبة الانجلو مصرية، القاهرة، 1979، ص 18.
(14) اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، دار بيروت، 1390 ه - 1970 م، ج 2، ص 155.
(15) علية عبد السميع الجنزوري، الثغور البرية الإسلامية ص 20.
(16) الواقدي، فتوح الشام، المكتبة الشعبية بيروت ( د ت) ج 2، ص 7.
(17) اليعقوبي، المصدر السابق، دار بيروت 1390 هـ / 1970 م ج 2، ص 155.
(18) الواقدي، المصدر السابق ج 2، ص 5.
(19) الطبري، تاريخ الرسل و الملوك ، مؤسسة عز الدين للطباعة ، طـ 2 بيروت ، 1407 هـ / 1987 م، م 2، ص 342.
(20) الواقدي، ج 2، ص 5. وعندما أشار أبو عبيدة أصحابه في أمر الغزو كان قول ميسرة مسروق العبسي "ما لنا تجارة ولا عمل غير الجهاد في أعداء الله".
(21) الطبري، م 2، ص 431.
(22)البلاذري، فتوح البلدان، ص 255. ياقوت، ج 2، ص 93، 94.
(23)الطبري، م 2، ص 433-434.
(24)البلاذري،المصدر السابق ، ص 225.
(25)فتحي عثمان،المرجع السابق ، ج 2، ص 314.
(26)انظر الطبري، احداث : 43 ه، 44 ه، 45 ه، 46 ه، 49 ه، 53 ه، 55 ه، 56 ه، 57 ه، 58 ه، 59 ه.
(27)الطبري، ج 5، ص 229، طبع دار المعارف 1962.
(28)انظر الطبري، احداث : 48 ه، 51 ه، 52 ه، 54 ه.
(29)اليعقوبي، تاريخه، ج 2، ص 217.
(30)علية عبد السميع الجنزوري، المرجع السابق ، ص 24-25.
(31)توفيق سلطان، المرجع السابق ، ص 21.
(32)البلاذري، فتوح البلدان، ص 226.
(33)علية عبد السميع الجنزوري، الثغور البرية الإسلامية، ص 26.
(34)فتحي عثمان، المرجع السابق ، ج 1، ص 357.
(35)عبد القادر أحمد اليوسف، الأمبراطورية البيزنطية، المكتبة العصرية ، بيروت 1966 م، ص 102.
(36)البلاذري، ص 227، 228، 229.
(37)ياقوت، 2/94.
(38)علية عبد السميع الجنزوري، الثغور البرية الإسلامية، ص 27.
(39)أسد رستم، الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، دار مكشوف، ط 1، بيروت، 1956، ج 1، ص 296.
(40)عبد القادر أحمد اليوسف، المرجع السابق، ص 120.
(41)صابـر ديـاب، المسلمون وجهادهم ضد الروم في أرمينية والثغور الجزرية والشامية، خـلال القرن 4 ه، مكتبة السلام العالمية، القاهرة، 1404 ه/1984 م، ص 79-80.
(42)المرجع نفسه، ص 105.
(43)Gustave Schlamberger, Un Empereur Byzantin au Xème siècle (Necephore Phocas), Paris, 1890, pp 226-227.
(44)M. Canard, Op-cit, T 1, p. 716.
(45)د. ك. باليت، أصول المعرفة العسكرية، ص 59. أسد رستم، الروم، ج 2، ص 39.
(46)انظر : M. Canard, op-cit, T 1, p. 727
C. Oman, History of the Art for war in the middle age, New York, 1959, Vol 1, PP 182-185. David Nicolle, Arms and Armour of crusading Era (1050-1350), New York, 1988, Vol 3, PP 26-30. Hans Delbrück, History of The Art of war, Vol 3, (middle ages). London, P 190. A.A. Vasiliev, Histoire de l’empire Byzantine, Paris 1932, T 1, PP 298-300.
(47)صابر دياب، المرجع السابق، ص 11.
(48)عين زربة : (عين زربى) بفتح الزاي وسكون الراء وباء موحدة وألف مقصورة، يجوز أن يكون من زرب الغنم وهو مأواها، وهو بلد بالثغر من نواحي المصيصة، ياقوت، 4/201.
(49)دَلُوك : بليدة من نواحي حلب من العواصم، كانت بها وقعة لأبي فراس الحمداني مع الروم، ياقوت، 2/525.
(50)عينتاب : (عين تاب) بلدة حسنة كبيرة، لها قلعة متقوية في الصخر حصينة وهي كثيرة المياه، وهي من حلب جهة الشمال على ثلاثة مراحل قرب دلوك، ابو الفداء، تقويم البلدان، ص 269.
(51)المصيصة : مدينة بأرض الروم على ساحل جيحان من ثغور الإسلام، القزويني، ص 564.
(52)أبو الفداء، المختصر في اخبار البشر، دار المعرفة، بيروت، (دن) ح2، ص 110-111 السيد الباز العريني، الدولة البيزنطية (323-1081م) دار النهضة العربية، بيروت 1982 ص 481 عبد القادر أحمد اليوسف، المرجع السابق، ص 134، صابر دياب، المرجع السابق، ص 194 خاشع المعاضيدي، الحياة السياسية في بلاد الشام خلال العصر الفاطمي ( 359 – 567 هـ / 969 – 1171 م )، دار الحرية للطباعة ، طـ 1 ، بغداد 1975- 1976 ، ص 28، أحمد اسماعيل علي، تاريخ بلاد الشام في العصر العباسي ]132-463 ه/749-1070 م[ دار دمشق ط1، دمشق 1984، ص 153.
(53)A.A. Vasiliev, Op-cit, T1, pp. 410-411.
صلح حلب : فرضت ضرائب (أتاوات) على المسلمين مهمة، كما تعهد الأمير الحمداني بمساعدة الأمبراطور البيزنطي في حالة الحرب مع غير المسلمين في الأقاليم، كما كان عليه حماية القوافل التجارية البيزنطية التي تمر عبر أراضيه، كما ألزمه بإعادة بناء الكنائس المخربة.
(54)حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، دار الجيل بيروت ، مكتبة النهضة المصرية ، طـ 1 ، القاهرة 1991 م ج3، ص 244-245.
(55)A.A. Vasiliev, Op-cit, T1, .p 414
0 التعليقات:
إرسال تعليق