تمهيد:
تقع ولاته أو أيولاتن حسب تعبير مسوفة ـ وهو ما اختاره ابن بطوطة ـ إلى الشمال الغربي من بلاد السودان الغربي، ويبدو أن شأنها لم يكن كبيرا زمن الحسن الوزان، على اعتبار أنه وصفها بالمملكة الصغيرة الخاملة.(01) فلم يكن بها من الأماكن المسكونة سوى ثلاث قرى كبيرة، وأكواخ متفرقة بين حدائق النخيل. وهي تبعد عن نون بنحو ثلاثمائة ميل إلى الجنوب، وخمسمائة ميل شمال تنبكتو، ومائة ميل شرق المحيط الأطلسي. وبين ولاته والحافات الشرقية لمملكة مالي أربعة وعشرين يوما للمسافر المُجّد.(02) وظهرت أهمية هذه المدينة منذ أن فقدت أداغشت قيمتها،(03) بعد أن هجرتها القوافل التي كانت تخترق غرب الصحراء من الشمال إلى الجنوب، وأصبحت تتجه مباشرة إلى ولاته.
وعرفت إيولاتن في القرن العاشر الهجري / القرن السادس عشر الميلادي نشاطا فيما يخص حركة التدريس، حيث ضمت المدارس والمساجد العديد من الطلاب والشيوخ، وتوارد عليها جمع من الشيوخ من بلاد المغرب الإسلامي وحتى من المشرق،(04) وقد ساهموا في تنشيط التعليم وتعميقه، وفي تلك الفترة بدأ علماؤها في الإنتاج، فكتبوا شروحا لعدد من المؤلفات التي وضعت خارج مجال هذه المدينة، وصاحب ذلك انتظام مراحل التعليم، وأخذه طابعا عاما، كانت له مميزاته وخصائصه، خاصة في فترة الإمارات القبلية(05) التي سيطرت على المجال الصحراوي في أواخر حكم بقايا السعديين بالسودان الغربي.
أماكن التدريس:
تمثلت مواقع التدريس الأساسية بها في المساجد، والجوامع، وكان بعضها(06) يحتوي على مراحل التعليم المختلفة، فهناك التعليم الأولي، ثم المتوسط، وأخيرا التعليم المعمق كدرجة عالية.(07) وفي الجوامع كان شيوخ القرآن يجلسون مع صبيانهم، وقاعات هذه الجوامع كانت بمثابة معاهد لشيوخ التعليم المعمق. ووجد من شيوخ القرآن من كان يتخذ محلات خاصة لتعليم الصبيان.(08) كما أن بعضهم، تعاطى التدريس في منازلهم، إلا أن هذا كان في حالات قليلة.
طريقة التدريس:
إن المناقشة بين الشيخ وطلابه كانت من التقاليد التي جرى بها العمل بإيولاتن. وبالإضافة إلى التواضع ولين الجانب، ويعتبر صبر الشيخ على الشرح الجيد لطلبته من صفات نجاحه في مهمته، والطريقة الشائعة في التدريس هي أن يبدأ الشيخ بإملاء رأيه في المسائل،(09) وبعدها يقرأ الطلاب درسهم من الكتاب المقرر بحضور الشيخ، ثم يتدخلون بطلب شرح ما أشكل عليهم ، وأثناء ذلك يقيد الطلبة التفاسير(10) التي يعطيها الشيخ كجواب على استفساراتهم.
وأثناء الشرح كان شيوخ العلم يختارون العبارات المبسطة لكي يتمكن طلابهم من استيعاب ما يقولون، وإذا أراد الباحث أن يوجز معالم الطريقة المثلى في اعتبار الناس آنذاك، فإن مرثية يحي التادلسي تعتبر خير معبر، حيث قال:
أطلاب علم الفقه تدرون ما الذي يثير هموم القلب فقد سميدع محمد الأستاذ مؤدب ذي النهى | | يثير هموم القلب من كل وافد فقيه حليم حامد للفرائد رباطا صبارا أمر في التزايد(11) |
الإجازات:
عرف الشيوخ والطلاب في إيولاتن خلال القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي نظام الإجازات، كما عرفته البلاد الإسلامية الأخرى. وبما أن طلب العلم كان يتصف بالحرية التامة، فيما يتصل بالطلاب، فإن الشيوخ كانوا لا يجيزون الطلاب إلا بعد التأكد من تمكنهم في العلوم التي يدرّسونها لهم.
أما طريقة الإجازة فقد كانت بسيطة، ولكنها كانت مما يتلاءم والطريقة المعروفة التي تستند إلى تأكد الشيخ من أن الطالب يكون قد أحرز التمكن الكافي في علم بعينه، ذلك أن الشيخ لا يراعي أية شكليات في منح الإجازة لطالب العلم على يديه، ولكنه يراعي بدقة، مدى الكفاءة التي يكون الطالب قد حصل عليها.(12) وكانت الإجازات تعطى فردية،(13) بمعنى أن الطالب يستطيع الحصول على إجازة من الشيخ، في العلوم التي أتقنها، ويبقى طالبا في علوم أخرى. ويشترط أن يكون الطالب قد اطلع على كل المؤلفات الكبيرة والصغيرة في موضوعها، وأجاد تحصيل المعلومات الموجودة بها.
دور الأوقاف والصدقات:
إن الأوقاف والصدقات كانت هي العامل التمويلي الهام في ازدهار حركة التعليم بولاته في تلك الفترة، فمعظم المصاحف، والمخطوطات، التي بقيت تحمل في طياتها ذكرا بتوقيفها على الجوامع من طرف أشخاص(14) كانوا يبتغون من وراء ذلك وجه الله، كما كان تعيين الأئمة والمدرسين وترتيب الأرزاق لهم يتولاه القاضي، وهو ينفق على ذلك من الأوقاف، والصدقات المتنوعة، التي كان يتلقاها بسخاء كبير من المحسنين، ومعظم الجوامع بناها أفراد موسرون في شكل أوقاف للصلاة والتعليم.
الوظائف الدينية:
وتجب الإشارة في البداية إلى أن ولاته إلى غاية فترة الحسن الوزان الفاسي لم يوجد بها أي تنظيم متحضر، فلم يكن بها قضاة،(15) ولا حاشية للسلاطين. وبعد ذلك ستعرف هذه المدينة تطورا مطردا في نظمها الإدارية، والسياسية، ووظائفها الدينية. وسأركز على الأعيان الذين يستمدون شرعيتهم من مكانتهم، ووظيفتهم، لأنهم الفاعلون الرئيسيون في الحياة السياسية، والاجتماعية في المدينة، من خلال وظائف تتمحور خصوصا حول القضاء والإمامة.
الإمامة والقضاء:
إن دور الإمام لا يقتصر على إقامة الصلاة، كما أن دور القاضي لا ينحصر في إصدار الأحكام، إن هاتين الوظيفتين لهما أبعاد اجتماعية، وسياسية. وأشير إلى أنه بولاته كانت وظيفتا الإمام، والقاضي، أحيانا تناط بشخص واحد. حيث تشير الحوليات إلى وجود العديد من القضاة، لكن في الوقت نفسه هناك من يترأس الجميع: المفتي ، والقضاء، والنوازل. ولقد كانت الوظائف الدينية ـ في الغالب ـ هي مصدر الشرعية، من أجل الوصول إلى الرئاسة، واحتكار السلطة السياسية. فسلطة القاضي، وسلطة الإمام، كانت تجتمع في يد واحدة، ويصعب الفصل بينهما.
إن الوصول إلى رئاسة القضاء، يتم بعد حياة من البحث المستمر عن العلم، والمعرفة، وممارسة التدريس.(16) وكان البعض يداوم صحبة قاض معروف ويخدمه بمساعدته في الفتوى، وهذا ما يتضح من خلال ترجمة الفقيه محمد بن محمد بن إبراهيم، الذي: «أخذ الفقه عن شيخه القصري، واستعان به في كثير من أموره، وشاركه في الفتوى، والتدريس، والتحكيم، وكادت تنتهي إليه رئاسة الإفتاء، والقضاء، بولاته».(17) ونرى إذن نموذج هذا الفقيه، الذي عاش تحت كنف شيخه في انتظار أن يصل يوما ما إلى رئاسة الإفتاء، والقضاء.
ويستعمل الطالب أبو بكر المحجوبي، ألفاظا مختلفة لتصنيف المراتب، والوظائف الدينية: رئاسة الفتوى، ورئاسة الفقه والكلام، وإمام المسجد، وإمام الفقه والنحو والحديث. إن هذه التعددية، والتمايز، يتيحان نوعا من تقسيم المهام بين الأعيان، ومشاركة أكبر عدد منهم في الوظائف. ذلك أن تراكم المعرفة وسنوات التجربة في ممارسة القضاء، والإفتاء، إضافة إلى قوة الشخصية، كلها عوامل تتداخل وتؤدي دورا في الترقية الاجتماعية والدينية بولاته.
فقد كان بعض الفقهاء يرفضون وظيفة القضاء، بدعوى أنها مهمة صعبة ومسؤولياتها كبيرة. ولكن لا نغفل أن هذا الرفض يعطي للمعني بالأمر قيمة إضافية، ونوعا من الهيبة، تجعله أكثر فاعلية في وساطته. ووجد من أجبر على تولي القضاء رغم امتناعه، ومثاله: القاضي الطالب أبو بكر، وهو من بيت علم وصلاح ودين، وُصف بأنه من أهل الفضل، وخاتمة قضاء العدل، فوُليَّ: «القضاء بعد امتناع واستعفي ولم يجب، وسار أحسن سيرة، باشر القضاء بنزاهة وعفة».(18) فهذا الإلحاح من طرف الجماعة لتوليه القضاء، هو في حد ذاته ضمانة ومكسب وتشريف حتى وإن وجد بعض العلماء الذين رفضوا نهائيا تولي القضاء كما هو الحال بالنسبة لهاشم الغلاوي، هذا الأخير رغم أنه أصدر العديد من الفتاوى عن أسئلة طرحت عليه من البدو، والحضر، كان حسب فتح الشكور: لا رغبة له في القضاء مع أهليته له. وفي رده على أحد أصدقائه من علماء أروان يقول: «أما القضاء، فلست بقاض إذ لم تتوفر شروطه عندي، ولا انعقد لي من جهة».(19)
إن موقع القاضي داخل ولاته، يفرض عليه أن يكون حازما، وأن تكون شخصيته قوية، في مواجهة محيط قلما راعى تطبيق الأحكام القضائية، وخصوصا القبائل الرحل من بني حسَّان. لذا نجد نماذج من قضاة كانوا صارمين مع الظلمة، واللصوص،(20) واستطاعوا بفضل شخصيتهم القوية فرض أحكامهم، وسلطتهم القضائية، وهذا ما تعكسه ترجمة ببان بن محمد المختار بن اعلي، حيث كان: «سائسا، رئيسا من رؤساء أهل ولاته ... جسورا على الظلمة، واللصوص، وكان من أعظم أهل زمانه».(21) ويقدم لنا صاحب فتح الشكور، نموذج لقاض لم يمد سلطته فقط على حسان، بل تجاوزه إلى بشاوات الرماة، والقادة، والتوارق، وأهل الشوكة، من مجموعات قطاع الطرق: «كان سيدي عثمان بن عمر الولي رحمه الله غرة عصره، في سلوك طريق السلف الصالح، على قدم صدق من الصلاح، والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يواجه بذلك أكابر الظلمة، والباشاوات، والقياد، وغيرهم من لصوص المغافرة، والتوارق. وأما أكابر الظلمة بين يديه أحقر من دابة... فكانت البوادي أهل الجنوب إذا صالت عليهم افلان(22) يدخلون عليه في ولاته بمواشيهم، وأموالهم، وذراريهم، ونسائهم، فلا يتعرض لهم، وكان الجاني إذا دخل داره، أمن ما دام فيها».(23)
ويمكن التأكيد أن هذا النموذج من القضاة كان نادرا. ففي أغلب الحالات كان القضاة أنفسهم ضحية لظلم وعنف بني حسان، وهذا ما دفع بالفقهاء إلى أن يصيغوا فتاوى من أجل حماية أنفسهم، وحماية الجماعة التي يعيشون وسطها.
وراثة الوظائف الدينية:
لقد كان للمسجد دور هام ليس فقط باعتباره مركزا للعبادة ونشر المعرفة، بل أيضا مكانا لإعطاء الشرعية للسلطة السياسية، والاجتماعية، داخل ولاته. فقد شكل بؤرة السلطة بفضل قوته الرمزية داخل المنظومة الإسلامية. ويتحتم على المجموعة الراغبة في الوصول إلى الحكم أو احتكاره، الهيمنة على الوظائف المرتبطة بالمسجد. وإلى جانب هذا الدور، فالمسجد يعطي لهذه الأخيرة في محيطها مكانة دينية ورمزية. وهذه العوامل هي التي ستجعل الوظائف المرتبطة بالمسجد محط تنافس.
ومن خلال البحث نجد أن لمحاجيب كانوا ـ في هذه الفترة ـ يحتكرون الوظائف الأساسية داخل ولاته خاصة منصب الإمامة في الصلاة، الذي كانت الوراثة فيه هي القاعدة. فالإمامة تورث أبا عن جد، وكل إمام يحاول جاهدا المحافظة على هذا المنصب بين ذريته، وأحفاده.
وفي هذه المنطقة، يمكن أن نعتبر بأن العامل القبلي هو الذي كان وراء ترسيخ ظاهرة الوراثة في هذا الميدان. إن نظام الوراثة في مجتمع قبلي حيث الحقل السياسي، والاجتماعي، والديني، مؤسس ومحدد بقواعد وبنيات القرابة، والنسب، سيصير مهيمنا على كافة مظاهر الحياة؛ بل حتى في ميدان الولاية، والقداسة، سيؤدي العامل القبلي دورا هاما ليس فقط في الانتماء الطرقي للمريدين،(24) بل حتى في التأثير على تطور الطريقة، وكيفية إدارة الخلافة، والإرث الروحي، للشيخ المؤسس.
ولقد أشرت في السابق أن لمحاجيب كانت القبيلة المهيمنة على الوظائف الدينية، حيث أسسوا سلطتهم على الوراثة. وحسب البعض(25) فإن فرع الإمامات من هذه القبيلة، هو أول من تقلد الإمامة. وهذا الفرع هو أحد الفروع الثلاثة التي تكون القبيلة، ومن المهم الإشارة إلى أن الإمامات لا ينتسبون مباشرة ليحي الكامل، جد لمحاجيب. فهذا الفرع كان من سكان ولاته الأوائل، الذين تحالفوا مع جد لمحاجيب وتم تقسيم السلط بينهم، حيث آلت إليهم الإمامة، ومن هذه الوظيفة استمدوا اسمهم. ولقد زاولوا وظيفتهم هاته لمدة زمنية طويلة، وبتوارث وظيفة معينة جيلا بعد جيل، تحمل المجموعة اسم الوظيفة، وهذه العملية في حد ذاتها، تعتبر إحدى الطرق المعتمدة للاحتفاظ بهذه الوظيفة، وترسيخها اجتماعيا، وكأنها حق طبيعي.
إننا لا نتوفر على معلومات وافية عن العائلات المنحدرة من الإمامات، التي شغلت وظيفة الإمامة. وكل ما نعرفه عنهم أنهم ظلوا يتوارثون، ويحتكرون، هذه الوظيفة حتى القرن السابع عشر الميلادي، قبل أن تنتقل إلى أولاد الفقيه الذين ينحدرون مباشرة من يحي، الفقيه عثمان بن محمد بن يحي. ولا نستطيع كذلك الوقوف على الظروف التي مرت بها تنحية الإمامات من وظيفتهم لصالح أولاد الفقيه. ويعزوها بعض المؤرخين(26) إلى كون الإمامات انقرضوا! وعلى العكس من ذلك، فإن البعض الآخر(27) يبدو أكثر وضوحا ويعيد السبب إلى انقراض العلم، والدين، في بيت الإمامات. فهو يقول بأن الإمامة: «لا تكون إلا في بيت لمحاجيب، في بيت العلم منهم، والدين، والنسب، والحسب، والخلق. فكانت أولا في بيت منهم يقال له الإمامات، بيت علم، ودين، وصلاح، وولاية، فلما انقرض العلم، والدين فيهم، صارت في آل أحمد الوالي، بنفسه جمع بين الإمامة، والرياسة، والقضاء، ثم صارت في آل لعويدي، التي هي فيهم اليوم تولاها الإمام عمر فيهم، من القرن الحادي عشر إلى يومنا هذا في القرن الرابع عشر».(28)
وأحمد الوالي الذي ورد ذكره في النص ينتمي إلى عائلة عبد الله، المنحدرة من فرع أولاد الشيخ، الذي ينتمي إلى أهل عثمان الفقيه. إن العديد من أفراد هذه العائلة شغلوا مناصب دينية، وزمنية، فيما سبق. لكن أحمد الوالي، هو أول من تقلد منصب الإمامة منهم، وكان مشهورا بلقب: " أسد دُليل " كنية بالمكان الذي كان يلقي فيد دروسه.(29) وبعد وفاته سنة 1014 هـ / 1605 م، خلفه ابنه عبد الرحمن (ت 1130 هـ/ 1717 م) الذي كان موصوفا: «بالعلم، والفضائل، والرياسة، والعدالة، والنزاهة، عدلا في قضائه، صليبا في قلبه».(30) وبعد وفاته تولى ابنه أمحمد (ت 1185 هـ/ 1771 م).
ولم تدم الإمامة في بيت أهل الوالي طويلا، حيث برزت عائلة أخرى هي عائلة لعويدي. هذا البيت منحدر من المحجوب، وينتمي إلى إحدى المجموعات التي تُكون فرع أهل لفقيه عثمان، إلى جانب أولاد الشيخ، وأهل أحمد المحجوب. ولم يحتفظ آل لعويدي إلا مدة قصيرة بالإمامة، لتنتقل إلى عائلة أخرى من أولاد المحجوب، ممثلة في الإمام أعمر ماما (ت 1201 هـ/ 1786 م)(31) الذي مكث في منصبه أربعين سنة، وقبل وفاته عيَّن ابنه محمد عبد الله (ت 1214 هـ/ 1799 م) الذي مكث بدوره اثنا عشرة سنة إماما.
و مما يلفت الانتباه ونحن نتصفح سير أفراد هذه العائلات العالمة هو نشأة بيوتات علم وانقراض أخرى بصفة دائمة. وهذا ما خلق حركية مكنت من تجديد دائم للأعيان داخل إيولاتن. إن ثبات عائلات معينة في منصب الإمامة، نادرا ما يصمد أمام المنافسة والانقراض العلمي. فقليلا ما نجد بيت علم يعمر على مدى أجيال متلاحقة.
ويجدر التنبيه إلى أنه إذا فقدت عائلة ما وظيفة الإمامة، فإنها تحافظ غالبا على أدوار أخرى مثل: القضاء، أو الفتوى، إلى جانب التعليم، والتأليف. ونستنتج أنه كان هناك نوع من توزيع المهام بين الأعيان، حيث إن الإمامة، ورئاسة الفتوى، والقضاء، كانت كلها تخضع لتوازن اجتماعي وتراعى مشاركة جميع الفعاليات الدينية، وعدم إثارة منافسة قوية وتذمر بعض العائلات والأعيان، الذين يتوقون بدورهم إلى نصيبهم من السلطة في إدارة شؤون البلاد.
حتى إن وجدت شخصية بارزة جمعت بين تحمل مناصب متعددة، فإنها لم تكن إلا إبان مرحلة عابرة. هذا إضافة إلى أنه حتى منصب الإمام، كان ـ أحيانا ـ يشارك فيه وبطريقة مباشرة، أو غير مباشرة عدد من الأفراد. فإمام المسجد، كان يقوم بإمامة الصلاة في المناسبات الدينية، وأيام الجمعة، أما في باقي الأيام، فقد كان أشخاص آخرون، يقومون بهذا الدور نيابة عنه. كما يمكن ملاحظة فئة مختصة داخل المسجد تقوم بالآذان، والذكر خلال فترة الأعياد والمولد النبوي. وكل هذا يضمن مشاركة واسعة، ولو على مستوى أدنى، في إدارة شؤون المسجد.
إن احتكار الوظائف وتراكمها في يد قبيلة واحدة، كان مصدر توتر دائم. وهذا لم يكن سائدا فقط في إيولاتن وحدها بل حتى في المناطق القريبة منها. ففي الجوار كان الصراع والمنافسة محتدمتين بين أيد وعلي، والسماسيد،(32) وأيد وعلي، والأغلال، فيما بعد. وهذا ما كان يحتم توزيعا للمناصب، والوظائف، حيث يراعى وزن كل مجموعة، ويتم غالبا وسط جو مشحون بصراعات قبلية من أجل مراقبة المجال.
وهكذا يتضح بأن المسجد كان أهم مؤسسة تعليمية في المدينة. وظل الإمام يترأس المجالس التي تعقد بالمسجد حسب جدول محدد لقراءة الحزب، وكتابي صحيحي البخاري، والشفا، ويتولى الإمام، أو غيره من كبار العلماء مهمة الشرح. وكانت هذه المساجد مفتوحة لكل المتعلمين.
وفي المقابل اعتبرت منازل كبار العلماء بمثابة معاهد للدراسات المعمقة. وعلى العكس من درس المسجد الذي كان مفتوحا، فإن دروس البيوت كانت تقدم لخاصة طلبة الشيخ، لا سيما من وصلوا مرحلة الملازمة، والطالب الملازم يكون في الغالب قد أكمل تعليمه وأصبح مكلفا بتقديم الدروس نيابة عن الشيخ. وهو يلازم الشيخ في حياته العامة، فيحضر مجالس القضاء ويستمع إلى ما يدور في مجالس العلماء، وفي هذه المرحلة يتعرف الطالب ـ الذي سيصبح في عداد الفقهاء ـ على من سيكونون زملاءه عندما يحصل على الإجازة من شيخه.
وكثيرا ما يسعى النابهون من المجازين الى الرحلة نحو المغرب، والمشرق، لاستكمال زادهم العلمي، والحصول على إجازات جديدة تكون ـ ما أمكن ـ عالية السند. وكان مصدر إجازات علماء إيولاتن هو المغرب، ومصر، والحجاز، والسودان الغربي. ويبقى المغرب، ومصر، أهم رافدين للعلم بالنسبة لهذه المنطقة، كما يظهر من الاستعراض الذي قام به مؤرخو تلك الفترة، لقوائم مؤلفي الكتب المقررة في المدارس بها. ومن كل هذه الروافد، وبالتفاعل مع السياقات المحلية، تشكّل إجماع علمي محلي بولاته أو إيولاتن على الالتزام بالمذهب المالكي، وبالعقيدة الأشعرية، وفي السلوك طريقة الشيخ الجنيد.
الهوامش :
01 ـ الحسن بن محمد الوزان الفاسي، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي بيروت والشركة المغربية للناشرين المتحدين الرباط، ط الثانية 1983، ج 2، ص: 161.
02 ـ محمد بن عبد الله بن محمد بن بطوطة، رحلة ابن بطوطة في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق محمد عبد الرحيم، مؤسسة الكتب الثقافية ودار الفكر بيروت، ط الأولى 2003، ص: 370.
03 ـ كولين ماكيفيدي، أطلس التاريخ الافريقي، ترجمة مختار السويفي، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2002، ص: 89.
04 ـ من أبرزهم: محمد بن عبد الكريم المغيلي، ويحيى التادلسي، ومخلوف البلبالي، وإبراهيم الزلفي، وكذلك عدد هام من علماء توات. ينظر: محمود كعت، تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس، حققه هوداس، طبعة بردين باريس، ط 1913، ص: 95.
05 ـ كان أبرز هذه الإمارات إمارات بني حسان خاصة إمارة البرابيش، وإمارة أولاد دليم، وإمارة أولاد رزك. ينظر: المختار ولد حامد، التاريخ السياسي، دار الغرب الإسلامي بيروت، ط الأولى 2000، ص: 93.
06 ـ خاصة تلك الموجودة بتنبكتو. ينظر: عبد القادر زبايدية، الحضارة العربية والتأثير الأوروبي في إفريقيا الغربية جنوب الصحراء دراسات ونصوص، المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر، ط 1989، ص: 57.
07 ـ عبد الرحمان السعدي، تاريخ السودان، وقف على طبعه هوداس، مطبعة الأمريكان والشرق باريس، د ت، ص: 47.
[1] MONTEIL (V), Le Monde musulman, Paris., 1963. p. 146.
08 - Ibid , p. 87.
09 ـ أحمد بابا التنبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، وضع هوامشه عبد الحميد الهرامة، منشورات كلية الدعوة الإسلامية طرابلس ليبيا، ط 1986، ج 2، ص: 376.
10 ـ السعدي، المصدر السابق، ص: 49.
11 ـ زبادية، المرجع السابق، ص ص: 67 ـ 68.
12 ـ أحمد بابا، المصدر السابق، ج 1، ص: 79.
13 ـ من جملتهم كما تذكر المصادر: الحاج علي بن سالم بن عبيدة المسراتي. كما حبّس السلطان الحاج محمد أسكيا توابيت فيها ستون جزء من المصحف لأجل الختمة، أي قراءة الختمة من المصحف بعد صلاة الجمعة. ينظر: السعدي، المصدر السابق، ص: 58.
14ـ الحسن الوزان، المصدر السابق، ج2، ص: 162.
15- MARTY, P. «les chroniques de oualata et de Nema (soudan Français)», Revue des Etudes Islamiques paris, 1927, pp. 355-375.
16 - FROELICH (J.C), Les Musulmans d’Afrique noire, Paris, èd. De L’Orante., 1962. p. 98.
17 ـ أحمد بلعراف، التكني، إزالة الريب والشك والتفريط في ذكر المؤلفين من أهل التكرور والصحراء وأهل شنقيط، دراسة وتحقيق، الهادي المبروك الدالي، دون دار الطبع، د ت، ص: 147.
18 ـ محمد الولاتي البرتلي، فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي، دار الغرب الإسلامي بيروت، ط الأولى 19881، ص: 43.
19 ـ البرتلي، المصدر السابق ، ص: 115.
20 - BA KONARE (A), Les relations politique et culturelles enter le Maroc et le Mali à travers les ages. IMP. NAJAH ELJADIDA CASABLANCA., 1991.p.26.
21ـ ببكر بن أحمد المصطفى المحجوبي، منح الرب الغفور في ذكر ما أهمل صاحب فتح الشكور، دارسة وتحقيق الهادي المبروك الدالي، دار الكتب الوطنية بنغازي، ط 2001، ص ص: 182ـ 183.
22 ـ يقصد فلان.
23ـ البرتلي، المصدر السابق، ص ص: 192ـ 193.
24 - BOUBRIK (R), fondateur et héritier: la gestion d'une succession confrérique (Mauritanie), Cahiers d'Etudes Africaines, 159, XL_ 3, 2000. pp. 433_ 465.
25ـ المختار ولد حامد، لمحاجيب، مرقون بالمعهد الموريتاني للبحث العلمي، ص: 01.
26 ـ المرجع نفسه، ص: 01.
27ـ المحجوبي، منح الرب الغفور، ص: 302.
28ـ المصدر نفسه، ص: 302.
29ـ ولد حامد، المرجع السابق، ص: 03.
30ـ المحجوبي، المصدر السابق، 176.
31ـ رحال بوبريك، المدينة في مجتمع البداوة التاريخ الاجتماعي لولاته خلال القرنين 18 و19، منشورات معهد الدراسات الإفريقية الرباط ، ط 2000، ص: 37.
32ـ وهو ما نتج عنه هجرة السماسيد وتأسيسهم لإطار خاص بهم.. تلك الهجرة جاءت أعقاب الصراع الذي نشب بينهم وبين الأغلال على منصب الإمامة، انتهى لصالح الأغلال، ويبدو هذا النزاع في الواقع كجزء من الصراعات العصبية التي تفشت في القرن 17 م داخل المدن. ينظر: بيير بونت، إمارة أدرار، ترجمة بوبة ولد محمد نافع، المركز الإفريقي للأركيولوجيا نواكشوط، ط 2002، ص
0 التعليقات:
إرسال تعليق