الإنسان مخلوق مركب من عدة عناصر، تلك العناصر تتفاعل مع بعضها البعض لتعطينا كائن حي ثنائي التركيب "مادي وروحي"، المادي هو الجسد، أما الروحي هو ذاك الخليط المتكون من الأحاسيس والمشاعر، المنسجمة تارة مع بعضها والمتنافرة تارة أخرى عن بعضها، نذكر منها الخوف، هذا الإحساس الذي يصارعه الإنسان كثيرا، ولعله وجد معه منذ نفخ الروح فيه، وقد نتساءل عن مصادره، فنجدها متعددة ومتنوعة على حسب متطلباته، فمنها ما تندرج في ضرورياته، ومنها ما تندرج في تحسينياته، ومنها ما تندرج في كمالياته، فيكون خوفه عليها لا منها، خوفه عليها من عدم امتلاك وسائل الحياة ، خوفه عليها من ضياع الفرص، خوفه على نفسه من عيشة المشقة، خوفه على ضياع دينه، على حياته، خوفه على أي شيء يحس أنه جزء منه، والخوف من عدم إشباع مصالحه والتي قسمها العلماء إلى " ضروريات، تحسينيات، تكميليات"(01).
فالضروريات: أو المقاصد الضرورية كما تسمى: هي التي تقوم عليها حياة الناس، ويتوقف عليها وجودهم في الدنيا، بحيث لو فقدت لعمت الفوضى، وتعرض وجودهم للخطر، وقد حصرها العلماء في حفظ خمسة أشياء هي: الدين ، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.(02)
وهي أقوى مراتب المصالح، فعليها يقوم أمر الدين والدنيا، وبالمحافظة عليها يستقيم أمر الأفراد، وقد حفظ الشرع هذه الضروريات بتحقيقها و ابقاءها، فلإيجاد الدين وتحقيقه: أوجب الله الإتيان بأركان الإسلام الخمسة (العقيدة و العبادة)، و للمحافظة عليه شرع الله الجهاد وعقوبة من يريد إبطاله والصد عنه و الإرتداد عنه، و لإيجاد النفس والنسل (النسب)، شرع الله الزواج، أما العقل فقد حرم كل ما يفسده أو يضعف قوته، والمال أوجب السعي في طلب الرزق(03).
أما الحاجيات: فهي الأمور التي لا يختل نظام حياتهم، ولكن يلحقهم الحرج والضيق.
التكميليات (التحسينيات): هي الأمور التي تتطلبها المروءة والآداب ومكارم الأخلاق، ويحتاج الناس إليها لتسير شؤون حياتهم على أكمل وجه، وإذا فقدت لا تختل شؤون الحياة ، ولا ينتاب الناس المشقة، ولكن يحسون بالخجل وتستنكرها عقولهم(04).
وخوف الإنسان على كل هذه الأمور، يحفزه إلى اتخاذ كل ما في وسعه لحمايتها وعدم إعطاء الغير فرصة النيل منه(05)، وقد يتخذ في ذلك وسائل، ربما تكون الهجرة احداها.
إن موضوع الهجرة تناوله العديد من علماء الدين، و وضعوا أحكاما وفتاوى تتعلق بها، مستندين في ذلك على القرآن الكريم الذي تناول الهجرة باعتبارها مفهوما من مفاهيمه، وإطارا تدخل فيه مجموعة من القضايا الأساسية تشتمل على المستويات الثلاث "الضرورية و الحاجية و التحسينية "، استنادا إلى ذلك وضع العلماء الفتاوى على مر الأزمنة آخذين بعين الاعتبار الزمان والمكان، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر فتوى الأمير عبد القادر المتعلقة بالهجرة والتي ذكرها في رسالته " حسام الدين لقطع شبه المرتدين ".
وقبل الخوض في هذه الرسالة ، سنتحدث أولا عن مفهوم الهجرة وما تعلق بها من مسائل.
_ مفهوم الهجرة:
* لغة: هاجر، يهاجر ، مهاجرة وهجرة، وتعني الترك والقطع والصرم، والإهمال للشيء والإعراض عنه، والهجر ضد الوصل، وهجر الشيء يهجره، تركه وأغفله، كقولك الهجر في المضجع لقوله تعالى:"واهجرهن في المضاجع"(06) مفارقة المضجع المشترك بين الزوجين تعبيرا عن عدم الرضا أو لبيان القدرة على الفراق الكلي وهو هجر جسدي، وقوله تعالى :"وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا"(07) يعني هجر شامل لشرائع القرآن والالتزام بأوامر(08)
*اصطلاحا: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام(09) .
والهجرة أيضا :خروج المسلم ، المكلف، القادر، من أرض الحرب إلى أرض الإسلام فارا بالكليات أو جهادا في سبيل الله، فقول"المسلم" احتراز من خروج الكافر أو الملحد، وقول" المكلف " احتراز الصبي، والمجنون، و قول " من أرض الحرب إلى أرض الإسلام" احتراز من الخروج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، والمقصود " بدار الحرب" دار الشرك والإلحاد والظلم، وسميت دار حرب لأن أهلها في حرب مع المسلمين، و"دار الإسلام" دار الإيمان والعدل، وقول " فارا بالكليات"وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، والعرض، وهي مرتبة، وقول "جهادا في سبيل الله" احتراز من خروج لقتال في سبيل الله، ومن خلال هذا التعريف يتضح أن الهجرة شرعت من أجل غرضين أحدهما الفرار بالكليات الست، وثانيهما الجهاد في سبيل الله.
قال ابن العربي في الاحكام: " الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام(10).
فإن لم يجد بلد إلا كذلك يختار المرء أقلها اثما، كأن يكون بلد فيه جور، وبلد فيه كفر فيختار بلد الجور افضل له وهكذا بتقديره.
ولقد تكلم الله تعالى على هجرة الأنبياء في محكم تنزيله، فقال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام:" إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم"(11) يعني أنه هاجر من أرض قومه إلى حيث أمره الله تعالى.
وهجرة سيدنا موسى عليه السلام لما خاف من بطش فرعون في قوله تعالى:"وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال:يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب...." (12)ومن السيرة النبوية هناك هجرة الصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة، الهجرة الأولى والثانية.
والحدث العظيم الذي وقع في السيرة النبوية هي الهجرة إلى المدينة المنورة(13).
ب_ حكمها الشرعي:
تعتريها أحكام الشرع الخمسة: الوجوب ، والندب، والحرام، والكراهة، والمباح(14).
الوجوب:إذا لم يستطع المسلم أن يقيم فرائض دينه في بلده الذي هو فيه لغلبة الكفر أو الفسق أو البدع المظلمة أو الظلم المذل للإنسان قال تعالى:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا:فيم كنتم قالوا كنا مستضغفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان...."(15) فالآية توجب على المسلم المضطهد في دينه أن ينتقل إلى بيئة أفضل وأحسن يستطيع فيها أن يعبد الله.
وفي قوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا...إن كنتم مؤمنين"(16).
وهذه الآيات لا تنافي الحديث النبوي الشريف الذي جاء فيه:"لا هجرة بعد الفتح"، فالمقصود بالحديث الهجرة إلى المدينة، فقد كانت فرضا على كل من أسلم لينظم إلى الجماعة المؤمنة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد فتح مكة لم يعد هناك حاجة إلى هذه الهجرة، ويبقى كل من أسلم في داره فقد أصبحت هذه كلها دار الإسلام(17) .
فهذه نصوص وغيرها نجدها في المعيار صريحة في وجوب الهجرة .
الندب: تندب الهجرة من دار الكفار إذا كان المسلم حرا في تأدية شعائر دينه هناك، من أجل تكثير المسلمين ومعونتهم.
الحرام: وتحرم الهجرة إلى بلاد لا يتمكن المسلم من تأدية شعائر دينه فيها.
المكروه: تكره الهجرة إلى بلاد الكفر إذ يتمكن المسلم من تأدية شعائر دينه فيها.
المباح: تباح الهجرة من بلاد الإسلام إلى مثلها(18).
وأرض الهجرة هي كل أرض يتمكن المهاجر من تأدية شعائر دينه فيها بحرية مطلقة فتعد أرض هجرة ودار إسلام حتى ولو كان أهلها لا يدينون دين الإسلام ولكن لهم حرية تأدية الشعائر مثل أرض الحبشة، ونقيس عليه عصرنا الحاضر.
وعليه فكل من هاجر من غير هذه الأسباب وهي حفظ الكليات فهو ليس بمهاجر شرعا، وإنما مسافر أو غريب أو لاجئ أو غيرها من الألفاظ التي تناسب مقامه.
هذا ما تعلق بالأحكام الشرعية التي يؤول إليها حكم الهجرة، ولا نجد الأمير عبد القادر في رسالته "حسام الدين لقطع شبه المرتدين " يبتعد عن هذه الأحكام.
ج_ رسالة حسام الدين لقطع شبه المرتدين:
هذه الرسالة توجد احدى نسخها بالخزانة العامة بالرباط ، تحتوي على 14صفحة، وهي رسالة محققة ، كما أنها طبعت ونشرت ضمن كتاب "تحفة الزائر"(19)
تتضمن الرسالة البسملة ثم الصلاة على الحبيب المصطفى صلى الله عليه سلم ثم الدعاء، بعدها يلج في الحديث عن الهجرة وحكمها، ثم يتنقل للحديث عن المقاصد العامة من هجرة الأنبياء ومواقف أقوامهم ويأتي بالأدلة من القرآن والسنة النبوية، ثم تكلم على الشروط التي يجب أن تتوفر في المجتهد ليحق له الإفتاء، ثم انتقل إلى موضوع الهجرة.
والرسالة عبارة عن رد جواب عن أحد السائلين، وهو من اعيان الخواص كما جاء في كتاب تحفة الزائر عن حكم الهجرة وفيها : "يا أخي فإني رأيتك متعطشا لسماع كلام سادتنا في هؤلاء الذين ركنوا إلى الكافر....ولولا رؤيتي لشدة عطشك و آوامك ما ذكرته لك.....إذ الراكن إلى الكفار، الداخل تحت ذمة أهل البوار واحد من رجلين: إما رجل كذب الله في ضمانه لرزقه.....وقال :إن هاجرت مت جوعا، فازداد بذلك هلوعا واعتقد أن وطنه هو رازقه،.....وإما رجل متكالب على الدنيا .....فجمع هذا الصنف مع قبح ما هم عليه من الدخول تحت ذمة الكفار.....استغلال محرم الله من ذلك، وجعلوا ما ورد في القرآن و السنة من ذكر "الهجرة " ومدحها و وجوبها عبثا ومنسوخا، لا بكلام الله، ولا بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بل بأباطيلهم وأقاويلهم الأفيكة، فكيف ذلك والقرآن مملوء بذكر "الهجرة " ومدحها وذم تاركها......وأما وجوب الهجرة من دار الكفار إلى دار الإسلام فهو باق إلى طلوع الشمس من مغربها.....أما من كان مسلما في دار الإسلام ودخل عليه الكفار، فلا يتصور أن تكون له عشيرة تحميه......ثم بلغني عن بعض هؤلاء أنهم يقولون: إن الهجرة واجبة، ولكن عارضها وجوب حفظ المال، فإن خاف المسلم......الذي تحت ذمة الكفار على ماله إذا هاجر تسقط الهجرة عنه، وهذا هو العمى والجهالة والغواية والضلالة....ثم بحمد الله.......ما قصدناه جوابا لسؤال بعض المحبين وقطعا لشبه المرتدين، ونحن مرابطون ولا كتاب معنا إذ ذاك، وفي حجة الحرام خاتم ثمانية وخمسين و مائتين وألف من هجرة حائز، كمال الفخر والشرف صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما"(20).
اعتمد الأمير في أدلته على القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأقوال التابعين كالإمام مالك رضي الله عنه، كما أنه كان يرد على أقوال الونشريسي المتعلقة أيضا بالهجرة من خلال رسالته :"أسنى المتاجر في بيان أحكام من تغلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر"(21) ،التي كان يأتي فيها بالحكم ثم يعقب عليه مخالفا له بالأدلة.
لقد اعتبر الأمير عبد القادر الهجرة في فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر واجبة على كل قادر، ودليله في ذلك الآيات القرآنية ومقاصد الشريعة التي جاءت بالضروريات الخمس مرتبة ترتيبا لا يجب الإخلال به، وعليه يجب أن يقدم حفظ الدين على الضروريات الأخرى كالمال، فمن كانت له أموال وخاف إن هاجر سلبها المستعمر فلم يهاجر، فهذا إنسان آثم، وأيضا من لم يحسن الظن بالله ورفض الهجرة مخافة ألا يجد الرزق في البلاد الأخرى فلم يهاجر فهذا أيضا آثم، ففي نظر الأمير أنه على كل المسلمين الجزائريين أن يهاجروا حفاظا على دينهم، خوفا من الردة أو اضطهادهم من قبل المستعمر فيمنعهم من تأدية شعائرهم الدينية، أو خوفا من تنصيرهم كما كان مشاع عن الحملة التنصيرية في ذلك الوقت، فهي في رأيه واجبة وفرض عين.
كان هذا مختصر ما تضمنته رسالة الأمير:"حسام الدين في قطع شبه المرتدين"
د_ الفرق بين رسالة الأمير عبد القادر ورسالة أحمد بن يحي الوانشريسي:
قبل التطرق للفرق بين الرسالتين يجب التنويه قليلا إلى مضمون رسالة الونشريسي:
تبدأ الرسالة بالبسملة ثم يليها السؤال والجواب :" بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ( السؤال)، كتب إلي الشيخ الفقيه المعظم الخطيب، الفاضل، القدوة، الصالح، البقية، والجملة الفاضلة، النقية، العدل، الأرضى، أبو عبد الله ابن القوطية ـ أدام الله سموه ورقيه ـ بما نصه:
"الحمد لله وحده، جوابكم يا سيدي، رضي الله عنكم، ومتع المسلمين بحياتكم في نازلة، وهي: أن قوما من هؤلاء الأندلسيين الذين هاجروا من الأندلس وتركوا هناك الدور، والأرضيين، والجنات، والكرامات وغير ذلك من أنواع الأصول، وبذلوا على ذلك زيادة كثيرة من فائض المال، وخرجوا من تحت حكم الملة الكافرة، وزعموا أنهم فروا إلى الله
ـ سبحانه ـ بأديانهم، وأنفسهم، وأهليهم وذريتهم......واستقروا ـ بحمد الله سبحانه ـ بدار الإسلام، تحت طاعة الله ورسوله وحكم الذمة المسلمة.....ندموا على الهجرة،.....وزعموا....أنهم لم يجدوا "بدار الإسلام" التي هي دار المغرب هذه.....رفقا ولا يسرا.....فبينوا لنا حكم الله تعالى في ذلك كله.....والسلام الكريم يعتمد مقامكم العلي"
(الجواب)، فأجبته بما هذا نصه:
"الحمد لله تعالى والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد بعده الجواب عما سألتم عنه، والله ولي التوفيق بفضله.
إن الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة، وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم وفتنة......ولا يسقط هذه الهجرة الواجبة على هؤلاء الذين استولى الطاغية على معاقلهم......إلا أن هذه الهجرة لا يحرم على المهاجر بها الرجوع إلى وطنه، إن عاد دار إيمان وإسلام.....ثم لما نبغت هذه الموالاة النصرانية في المائة الخامسة وما بعدها من تاريخ الهجرة وقت استيلاء ملايين النصارى على جزيرة " صقلية".....فأجاب: بأن أحكامهم جارية على أحكام من أسلم ولم يهاجر....والله سبحانه أعلم، وبه التوفيق، وكتب مسلما على من يقف عليه من أهل لا إله إلا الله ـ العبد المستغفر الفقير الحقير، الراغب في بركة من يقف عليه وينتهي إليه عبيد الله أحمد بن يحي بن محمد بن علي الونشريسي وفقه الله"(22)
من خلال ما عرض من ملخصي الرسالتين يتضح أنهما متحدتان في الموضوع والدافع، فموضوعهما: فتوى دينية في قضية إسلامية، ودافعهما:استفتاء موجه من طرف مستفتيهما في قضية الهجرة الشرعية.
أما الاختلاف فيقع في الحكم، فالونشريسي حكم بمرتكب كبيرة على كل من بقي بدار الكفر ولم يهاجر بعد تغلب الكفار على بلاده، ومثله: من نزح من دار الإيمان إلى دار الكفر، وحكم الأمير بتكفير كل من بقي بدار الحرب أو نزح إليها من دار الإسلام، وقد سمى الأمير المسلمين الباقين تحت حكم الفرنسيين _ في القسم المحتل من الجزائر_ بـ"المرتدين" كما يبدو ذلك من خلال عنوان رسالته(23).
كما أن هدف الونشريسي بفتواه أن يعود المسلمون القاطنون تحت ذمة الكفار في الأندلس إلى دار الإسلام بالمغرب، وهدف الأمير من فتواه المهاجرة إلى دار الإسلام _والتي تحت حوزته بالغرب الجزائري_ وترك الأرض الكافرة، والأمير لم يكن ينتظر دخولهم دار الإسلام بل كان آيسا ومقطوع الرجاء من عودتهم وقد صرح ذلك بقوله: "ولولا رؤيتي لشدة عطشك و آوامك ما ذكرته لك.....وتعبك في استصلاحهم تعب في إصلاح الفاسد وضرب في الحديد البارد....وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر"
إن معظم الذين بقوا من المسلمين تحت ذمة الأسبان بالأندلس ارتدوا ودخلوا طوعا أو كرها في دين المسيح ، والدليل على ذلك أن الأندلس في وقتنا الحاضر أصبحت بلاد خالصة، تقريبا للنصارى وهذا ما جعل فتوى الونشريسي وتوقعاته في محلها، والحجة على صحة فتواه أن المسلمين كانوا يمنعون من تأدية شعائر دينهم، إلا خفية وكثر اضطهاد الأسبان للمسلمين بشتى الطرق بالتعذيب والتقتيل، ولم يعارض أي حزب هذه السياسة البشعة( القمع، التنصير)، ولعل الأمير وجد خلاف ما اعتقده إذ أن جميع من تبقى من المسلمين تحت ذمة الفرنسيين بأرض الجزائر قد بقي مسلما قلبا وقالبا، فلو امتثل الجزائريون للفتوى و هاجروا جميعا من أرض الجزائر المحتلة، وأخلوا البلاد للفرنسيين ـ وذاك هو مبتغاهم ـ لربما استعصت الأمور .
أما الجزائر فلم يمنع شعبها من تأدية شعائرهم بالقوة، إنما وقعت محاولات للتنصير بطرق غير مباشرة ولكنها فشلت ، وهذا ما جعل الفتوى التي أصدرها الأمير غير ناجحة وأصبح الرباط والجهاد في سبيل الله من الأولويات لدى الشعب الجزائري.
إن موقف الأمير من الهجرة وإصداره لهذه الفتوى إنما كان عن قياس، وضعه بين الهجرة من أرض الأندلس، على الهجرة من أرض الجزائر، مراعيا بذلك مصلحة دينه وبلاده وقومه، مستندا على أصول شرعية صحيحة مصدرها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف و أقوال التابعين، وأصول الفقه ومقاصده من حفظ الضروريات وفي مقدمتها حفظ الدين وحفظ المصلحة العامة، وخوفا من ضياع هذا الدين الحنيف، فلكل زمان ومكان نوازله وأحكامه الخاصة، وكل من سبقنا من الأعلام والعلماء إنما يشهد لهم بالغيرة على الدين والوطن، وكلهم من أجل المصلحة، فكان في اختلافهم رحمة.
الهوامش :
1- يمينه ساعد بوسعادي: مقاصد الشريعة وأثرها في الجمع والترجيح بين النصوص، دار ابن حزم بيروت، ط1: 1428هـ/2007م ، ص:33
2- المرجع نفسه، ص :35
3- وهبه الزحيلي : أصول الفقه الإسلامي، دار الفكر المعاصر بيروت، ط2:1418هـ/1998م،ج:2،ص:1049
4- يمينه ساعد: مقاصد الشريعة،ص ص :37/38
5- محمد عثمان : القرآن وعلم النفس، دار الشروق بيروت،ط5:1414هـ/1993م،ص:76
6-سورة النساء/ الآية :34
7- سورة الفرقان/ الآية :30
8-ابن منظور : لسان العرب، دار الكتب العلمية بيروت،ط1: 1424هـ/2003م، مج:5، ص:293
9- محمد عبد الكريم:حكم الهجرة من خلال ثلاث رسائل جزائرية، دراسة وتحقيق، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر، 1981م، ص:20
10- عبد اللطيف أحمد الشيخ محمد صالح: أجوبة التسولي عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد، دار الغرب الإسلامي:1996م،ص:201
11-سورة العنكبوت / الآية:26
12- سورة القصص / الآية : 20/21
13- محمد رضا : محمد رسول الله، دار الكتب العلمية بيروت :1395هـ/1975م،ص:127
14- محمد عبد الكريم : حكم الهجرة من خلال ثلاث رسائل،ص:32
15- سورة النساء/ الآية : 96/102
16- سورة المائدة / الآية :57
17-محمد الغزالي: علل و أدوية، دار الدعوة للطبع والنشر الإسكندرية، ط4: 1422هـ/1993م، ص:118
18- محمد عبد الكريم: حكم الهجرة، ص:34
19- عبد القادر الجزائري : تحفة الزائر، دار اليقظة العربية، ط2 : 1384هـ/1964م، شرح وتعليق : ممدوح حقي، ج :1، ص : 411
20-عبد القادر الجزائري : تحفة الزائر، ص ص : 411/ 422 – محمد عبد الكريم : حكم الهجرة، ص:45
21-حسين مؤنس :معهد الدراسات الإسلامية، مدريد : 1377هـ/ 1957م، العدد ½، مج:05، ص:130
22-حسين مؤنس:معهد الدراسات الإسلامية، ص ص :130/191
23-عبد الكريم : حكم الهجرة من خلال ثلاث رسائل، ص: 07
قائمة المراجع:
1- يمينه ساعد بوسعادي: مقاصد الشريعة وأثرها في الجمع والترجيح بين النصوص، دار ابن حزم بيروت، ط1: 1428هـ/2007م.
2- وهبه الزحيلي : أصول الفقه الإسلامي، دار الفكر المعاصر بيروت، ط2:1418هـ /1998م، ج:2، ص:1049
3- نجاتي محمد عثمان: القرآن وعلم النفس، دار الشروق بيروت،ط5:1414هـ/1993م
4-ابن منظور: لسان العرب، دار الكتب العلمية بيروت،ط1: 1424هـ/2003م، مج:5[1]
5 - محمد عبد الكريم:حكم الهجرة من خلال ثلاث رسائل جزائرية، دراسة وتحقيق، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر، 1981م .
6 - عبد اللطيف أحمد الشيخ محمد صالح: أجوبة التسولي عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد، دار الغرب الإسلامي:1996م،ص:201 .
7- محمد رضا : محمد رسول الله، دار الكتب العلمية بيروت :1395هـ/1975م .
محمد الغزالي: علل وأدوية، دار الدعوة للطبع والنشر الإسكندرية، ط4: 1422هـ/1993م.
8- عبد القادر الجزائري : تحفة الزائر، دار اليقظة العربية، ط2 : 1384هـ/1964م، شرح وتعليق : ممدوح حقي، ج :1.
9- حسين مؤنس :معهد الدراسات الإسلامية، مدريد : 1377هـ/ 1957م، العدد ½، مج:05.
0 التعليقات:
إرسال تعليق